81- قالت الملائكة ، وقد ظهرت على حقيقتها : يا لوط ، لا تخف ولا تحزن إنا رسل ربك ، لا بَشر كما بدا لك ولقومك ، ولن يصل هؤلاء إليك بِشَرٍ يسوءك أو ضر يصيبك ، فسر أنت وأهلك في بعض أوقات الليل ، إذا دخل جزء كبير منه ، واخْرج بهم من هذه القرية ، ولا يلتفت أحد منكم خلفه ، لكيلا يرى هول العذاب فيصاب بشر منه ، لكن امرأتك التي خانتك فلا تكن من الخارجين معك ، إنه لا بد مصيبها ما قُدّر أن يصيب هؤلاء . . إن موعد هلاكهم الصبح ، وهو موعد قريب ، فلا تخف .
وهنا - وبعد أن بلغ الضيق بلوط ما بلغ - كشف له الملائكة عن حقيقتهم ، وبشروه بما يدخل الطمأنينة على قلبه { قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ } أى : إنا رسل ربك أرسلنا إليك لنخبرك بهلاكهم ، فاطمئن فإنهم لن يصلوا إليك بسوء فى نفسك أو فينا .
روى أن الملائكة لما رأو ما لقيه لوط - عليه السلام - من الهم والكرب بسببهم قالوا له : يا لوط إن ركنك لشديد . . . ثم ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم ، فارتدوا على أدبارهم يقولون النجاء ، وإليه الإِشارة بقوله - تعالى - فى سورة القمر : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } وقوله : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل } أى : فاخرج من هذه القرية مصحوباً بالمؤمنين من أهلك فى جزء من الليل يكفى لابتعادك عن هؤلاء المجرمين .
قال القرطبى : قرئ " فاسر وفأسر بوصل الهمزة وقطعها لغتان فصيحتان . قال - تعالى - { والليل إِذَا يَسْرِ } وقال
{ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ . . . } وقيل " فأسر " بالقطع تقال لمن سار من أول الليل . . . وسرى لمن سار فى آخره ، ولا يقال فى النهار إلا سار . . .
وقوله : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ . . . ْ معطوف على ما قبله وهو قوله : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ . . . } .
أى : فأسر بأهلك فى جزء من الليل ، ولا يلتفت منكم أحد إلى ما وراءه ، اتقاء لرؤية العذاب ، { إِلاَّ امرأتك } يا لوط فاتركها ولا تأخذها معك لأنها كافرة خائنة ، ولأنها سيصيبها العذاب الذى سينزل بهؤلاء المجرمين . فيهلكها معهم .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : قوله { إِلاَّ امرأتك } بالرفع ، وقرأ الباقون بالنصب .
قال الواحدى : من نصب فقد جعلها مستثناة من الأهل ، على معنى : فأسر بأهلك إلا امرأتك أى فلا تأخذها معك . . .
وأما الذين رفعوا فالتقدير ؛ ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم .
روى عن قتادة أنه قال : إنها كنت مع لوط حين خرج من القرية ، " فلما سمعت العذاب التفتت وقالت واقوماه فأصابها حجر فأهلكها " .
وقوله - سبحانه - { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } بشارة أخرى للوط - عليه السلام - الذى تمنى النصرة على قومه .
أى : إن موعد هلاك هؤلاء المجرمين يبتدئ من طولع الفجر وينتهى مع طلوع الشمس ، أليس الصبح بقريب من هذا الوقت الذى نحدثك فيه ؟
قال - تعالى - فى سورة الحجر : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُشْرِقِينَ } أى : وهم داخلون فى وقت الشروق . فكان ابتداء العذاب عند طلوع الصبح وانتهاؤه وقت الشروق .
والجملة الكريمة { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح . . . } كالتعليل للأمر بالإِسراء بأهله بسرعة ، أو جواب عما جاش بصدره من استعجالة العذاب لهؤلاء المجرمين .
والاستفهام فى قوله - سبحانه - { أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } للتقرير أى : بلى إنه لقريب .
قال الآلوسى : روى أنه - عليه السلام - سأل الملائكة عن موعد هلاك قومه فقالوا له ؛ موعدهم الصبح . فقال : أريد أسرع من ذلك . فقالوا له ؛ أليس الصبح بقريب . ولعله إنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع ، ولأنه أنسب يكون ذلك عبرة للناظرين .
وعندما ضاقت واستحكمت حلقاتها ، وبلغ الكرب أشده . . كشف الرسل للوط عن الركن الشديد الذي يأوي إليه :
( قالوا : يا لوط ، إنا رسل ربك ، لن يصلوا إليك ) . .
وأنبأوه نبأهم ، لينجو مع أهل بيته الطاهرين ، إلا امرأته فإنها كانت من القوم الفاسدين :
( فأسر بأهلك بقطع من الليل ، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك . إنه مصيبها ما أصابهم ، إن موعدهم الصبح . أليس الصبح بقريب ؟ ) . .
والسرى : سير الليل ، والقطع من الليل : بعضه ، ولا يلتفت منكم أحد . أى لا يتخلف ولا يعوق . لأن الصبح موعدهم مع الهلاك . فكل من بقي في المدينة فهو هالك مع الهالكين .
سؤال لإنعاش نفس لوط بعد ما ذاق . لتقريب الموعد وتأكيده . فهو قريب . مع مطلع الصباح . ثم يفعل الله بالقوم - بقوته - ما لم تكن قوة لوط التي تمناها فاعلة !
يقول تعالى مخبرًا عن نبيه لوط ، عليه السلام : إن لوطا توعدهم بقوله{[14793]} : { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [ أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ] } {[14794]} أي : لكنت نكلت بكم وفعلت بكم الأفاعيل [ من العذاب والنقمة وإحلال البأس بكم ]{[14795]} بنفسي وعشيرتي ، ولهذا ورد في الحديث ، من طريق محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رحمة الله على لوط ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني : الله عز وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه " {[14796]} .
[ وروي من حديث الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا ومن حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به ، ومن حديث ابن لهيعة عن أبي يونس سمع أبا هريرة به وأرسله الحسن وقتادة ]{[14797]} . فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم{[14798]} رُسل الله إليه ، و[ وبشروه ]{[14799]} أنهم لا وصول لهم إليه [ ولا خلوص ]{[14800]} { قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل ، وأن يتَّبع أدبارهم ، أي : يكون ساقة لأهله ، { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ } أي : إذا سمعت{[14801]} ما نزل بهم ، ولا تهولنَّكم{[14802]} تلك الأصوات المزعجة ، ولكن استمروا ذاهبين [ كما أنتم ]{[14803]} .
{ إِلا امْرَأَتَكَ } قال الأكثرون : هو استثناء من المثبت{[14804]} وهو قوله : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } تقديره { إِلا امْرَأَتَكَ } وكذلك قرأها ابن مسعود ونصب هؤلاء امرأتك ؛ لأنه من مثبت{[14805]} فوجب نصبه عندهم .
وقال آخرون من القراء والنحاة : هو استثناء من قوله : { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ } فجَّوزوا الرفع والنصب ، وذكر هؤلاء [ وغيرهم من الإسرائيليات ]{[14806]} أنها خرجت معهم ، وأنها لما سمعت الوَجْبَة التفتت وقالت{[14807]} واقوماه . فجاءها حجر من السماء فقتلها{[14808]} .
ثم قربوا له هلاك قومه تبشيرًا له ؛ لأنه قال لهم : " أهلكوهم الساعة " ، فقالوا : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } هذا وقومُ لُوطِ وقُوف على الباب وعُكوف قد جاءوا يُهرعون إليه من كل جانب ، ولوط واقف على{[14809]} الباب يدافعهم ويردعهم وينهاهم عما هم فيه ، وهم لا يقبلون منه ، بل يتوعدونه ، فعند ذلك خرج عليهم جبريل ، عليه السلام ، فضرب وجوههم بجناحه ، فطمس أعينهم ، فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ] } [ القمر : 37 - 39 ]{[14810]} .
وقال مَعْمَر ، عن قتادة ، عن حذيفة بن اليمان قال : كان إبراهيم ، عليه السلام ، يأتي{[14811]} قوم لوط ، فيقول : أنَهاكم{[14812]} الله أن تَعَرّضوا لعقوبته ؟ فلم يطيعوه ، حتى إذا بلغ الكتاب أجله [ لمحل عذابهم وسطوات الرب بهم قال ]{[14813]} انتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له ، فدعاهم إلى الضيافة فقالوا : إنا ضيوفك{[14814]} الليلة ، وكان الله قد عهد إلى جبريل ألا يُعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شَهادات فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة ، ذكر ما يعمل قومه من الشر [ والدواهي العظام ]{[14815]} ، فمشى معهم ساعة ، ثم التفت إليهم فقال : أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض شرا منهم . أين أذهب بكم ؟ إلى قومي وهم [ من ]{[14816]} أشر خلق الله ، فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال : احفظوها{[14817]} هذه واحدة . ثم مشى معهم ساعة ، فلما توسط القرية وأشفق عليهم واستحيا منهم قال : أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض أشر منهم ، إن قومي أشر خلق الله . فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال : احفظوا ، هاتان اثنتان ، فلما انتهى إلى باب الدار بكى حياء منهم وشفقة عليهم فقال{[14818]} إن قومي أشر من خلق الله ؟{[14819]} أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرًا منهم . فقال جبريل للملائكة : احفظوا ، هذه ثلاث ، قد حق العذاب . فلما دخلوا ذهبت عجوز السوء فصعدت فلوحت بثوبها ، فأتاها الفساق يُهرَعون سراعا ، قالوا : ما عندك ؟ قالت : ضَيَّف لوطًا قوم{[14820]} ما رأيت قط أحسن وجوها منهم ، ولا أطيب ريحًا منهم . فهُرعوا يسارعون إلى الباب ، فعالجهم لوط على الباب ، فدافعوه طويلا هو داخل وهم خارج ، يناشدهم الله ويقول : { هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } فقام الملك فَلَزّ{[14821]} بالباب - يقول فسده{[14822]} - واستأذن جبريل في عقوبتهم ،
فأذن الله له ، فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء ، فنشر جناحه . ولجبريل جناحان ، وعليه وشاح من درّ منظوم ، وهو براق الثنايا ، أجلى الجبين ، ورأسه حُبُكٌ حُبُك مثل المرجان وهو اللؤلؤ ، كأنه الثلج ، ورجلاه إلى الخضرة . فقال يا لوط : { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } امض يا لوط عن الباب ودعني وإياهم ، فتنحى لوط عن الباب ، فخرج إليهم ، فنشر جناحه ، فضرب به وجوههم ضربة شدخ أعينهم ، فصاروا عُمْيًا لا يعرفون الطريق [ ولا يهتدون بيوتهم ]{[14823]} ثم أمر لوط فاحتمل بأهله في ليلته قال : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ } {[14824]} .
وروي عن محمد بن كعب [ القرظي ]{[14825]} وقتادة ، والسدي نحو هذا .
فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب { قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا فهون عليك ودعنا وإياهم ، فخلاهم أن يدخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم ، فخرجوا يقولون النجاء النجاء فإن في بيت لوط سحرة . { فأسْرِ بأهلك } بالقطع من الإسراء ، وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث وقع في القرآن من السري . { بقطع من الليل } بطائفة منه . { ولا يلتفت منكم أحد } ولا يتخلف أو لا ينظر إلى ورائه والنهي في اللفظ أحد وفي المعنى للوط . { إلا امرأتك } استثناء من قوله : { فأسر بأهلك } ويدل عليه أنه قرئ فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك ، وهذا إنما يصح على تأويل الالتفات بالتخلف فإنه إن فسر بالنظر إلى الوراء في الذهاب ناقض ذلك قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالرفع على البدل من أحد ، ولا يجوز حمل القراءتين على الروايتين في أنه خلفها مع قومها أو أخرجها فلما سمعت صوت العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأدركها حجر فقتلها ، لأن القواطع لا يصح حملها على المعاني المتناقضة ، والأولى جعل الاستثناء في القراءتين من قوله : { ولا يلتفت } مثله في قوله تعالى : { ما فعلوه إلا قليل } ولا يبعد أن يكون أكثر القراء على غير الأفصح ، ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل عدم نهيها عنه استصلاحا ولذلك علل طريقة الاستئناف بقوله : { إنه مُصيبها ما أصابهم } ولا يحسن جعل الاستثناء منقطعا على قراءة الرفع . { إن موعدهم الصبح } كأنه علة الأمر بالإسراء . { أليس الصّبح بقريب } جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب .
الضمير في { قالوا } ضمير الملائكة ، ويروى أن لوطاً لما غلبوه وهموا بكسر الباب وهو يمسكه قالت له الرسل : تنح عن الباب : فتنحى وانفتح الباب فضربهم جبريل عليه السلام بجناحه فطمس أعينهم وعموا ، وانصرفوا على أعقابهم يقولون : النجاء النجاء ، فعند لوط قوم سحرة ، وتوعدوا لوطاً ، ففزع حينئذ من وعيدهم ، فحينئذ قالوا له : { إنا رسل ربك } فأمن ، ذكر هذا النقاش ؛ وفي تفسير غيره ما يقتضي أن قولهم : { إنا رسل ربك } كان قبل طمس العيون ، ثم أمروه بالسرى وأعلموه أن العذاب نازل بالقوم ، فقال لهم لوط : فعذبوهم الساعة ، قالوا له : { إن موعدهم الصبح } أي بهذا أمر الله ، ثم أنسوه في قلقه بقولهم : { أليس الصبح بقريب } .
وقرأ نافع وابن كثير «فأسر » من سرى إذا سار في أثناء الليل ، وقرأ الباقون «فاسرِ » إذا سار في أول الليل و «القطع » القطعة من الليل ، ويحتمل أن لوطاً أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوز البلد المقتلع ، ووقعت نجاته بسحر فتجتمع هذه الآية مع قوله : { إلا آل لوط نجيناهم بسحر }{[6451]} وبيت النابغة جمع بين الفعلين في قوله : [ البسيط ]
أسرت عليه من الجوزاء سارية*** تزجي الشمال عليه جامد البرد{[6452]}
فذهب قوم إلى أن سرى وأسرى بمعنى واحد واحتجوا بهذا البيت .
قال القاضي أبو محمد : وأقول إن البيت يحتمل المعنيين ، وذلك أظهر عندي لأنه قصد وصف هذه الديمة ، وأنها ابتدأت من أول الليل وقت طلوع الجوزاء في الشتاء .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «إلا امرأتُك » بالرفع على البدل من { أحد } وهذا هو الأوجه إذا استثني من منفي ، كقولك : ما جاءني أحد إلا زيد ، وهذا هو استثناء الملتفتين ، وقرأ الباقون «إلا أمرأتَك » بالنصب ، ورأت ذلك فرقة من النحاة الوجه في الاستثناء من منفي ، إذ الكلام المنفي في هذا مستقل بنفسه كالموجب ، فإذ هو مثله في الاستقلال ، فحكمه كحكمه في نصب المستثنى ؛ وتأولت فرقة ممن قرأ : «إلا امرأتَك » بالنصب أن الاستثناء وقع من الأهل كأنه قال : «فأسر بأهلك إلا امرأتَك » . وعلى هذا التأويل لا يكون إلا النصب ، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : لو كان الكلام : «ولا يلتفتُ » - بالرفع - لصح الرفع في قوله : «إلا أمرأتُك » ولكنه نهي ، فإذا استثنيت «المرأة » من { أحد } وجب أن تكون «المرأة » أبيح لها الالتفات فيفسد معنى الآية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الاعتراض حسن ، يلزم الاستثناء من { أحد } رفعت التاء أو نصبت والانفصال عنه يترتب بكلام حكي عن المبرد ، وهو أن النهي إنما قصد به لوط وحده ، و «الالتفات » منفي عنهم بالمعنى ، أي لا تدع أحداً منهم يلتفت ، وهذا كما تقول لرجل : لا يقم من هؤلاء أحد إلا زيد ، وأولئك لم يسمعوك ، فالمعنى : لا تدع أحداً من هؤلاء يقوم والقيام بالمعنى منفي عن المشار إليهم .
قال القاضي أبو محمد : وجملة هذا أن لفظ الآية هو لفظ قولنا : لا يقم أحد إلا زيد ، ونحن نحتاج أن يكون معناها معنى قولنا : لا يقم أحد إلا زيد وذلك اللفظ لا يرجع إلى هذا المعنى إلا بتقدير ما حكيناه عن المبرد ، فتدبره . ويظهر من مذهب أبي عبيد أن الاستثناء ، إنما هو من الأهل{[6453]} . وفي مصحف ابن مسعود : «فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك » وسقط قوله : { ولا يلتفت منكم أحد }{[6454]} . والظاهر في { يلتفت } أنها من التفات البصر ، وقالت فرقة : هي من لفت الشيء يلفته إذا ثناه ولواه ، فمعناه : ولا يتثبط . وهذا شاذ مع صحته وفي كتاب الزهراوي : أن المعنى : ولا يلتفت أحد إلى ما خلف ، بل يخرج مسرعاً مع لوط عليه السلام : وروي أن امرأة لوط لما سمعت الهدة ردت بصرها وقالت : واقوماه ، فأصابها حجر فقتلها .
هذا كلام الملائكة للوط عليه السّلام كاشفوه بأنّهم ملائكة مرسلون من الله تعالى . وإذ قد كانوا في صورة البشر وكانوا حاضري المجادلة حكى كلامهم بمثل ما تحكى به المحاورات فجاء قولهم بدون حرف العطف على نحو ما حكي قول : لوط عليه السّلام وقول قومه . وهذا الكلام الذي كلّموا به لوطاً عليه السّلام وحي أوحاه الله إلى لوط عليه السّلام بواسطة الملائكة ، فإنه لمّا بلغ بِلُوط توقعُ أذى ضيفه مبلغَ الجزع ونفاد الحيلة جاءه نصر الله على سنّة الله تعالى مع رسله { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا } [ يوسف : 110 ] .
وابتدأ الملائكة خطابهم لوطاً عليه السّلام بالتعريف بأنفسهم لتعجيل الطمأنينة إلى نفسه لأنّه إذا علم أنهم ملائكة علم أنهم ما نزلوا إلاّ لإظهار الحق . قال تعالى : { ما تنزّل الملائكةُ إلاّ بالحق وما كانوا إذاً منْظرين } [ الحجر : 8 ] . ثم ألحقوا هذا التعريف بالبشارة بقولهم : { لن يصلوا إليك } . وجيء بحرف تأكيد النفي للدّلالة على أنهم خاطبوه بما يزيل الشك من نفسه . وقد صرف الله الكفّار عن لوط عليه السّلام فرجعوا من حيث أتوا ، ولو أزال عن الملائكة التشكّل بالأجساد البشرية فأخفاهم عن عيون الكفّار لحسبوا أنّ لوطاً عليه السّلام أخفاهم فكانوا يؤذون لوطاً عليه السّلام . ولذلك قال له الملائكة { لن يصلوا إليك } ولم يقولوا لن ينالوا ، لأنّ ذلك معلوم فإنهم لمّا أعلموا لوطاً عليه السّلام بأنهم ملائكة ما كان يشك في أن الكفّار لا ينالونهم ، ولكنّه يخشى سورتهم أن يتّهموه بأنه أخفاهم .
ووقع في التوراة أن الله أعمى أبصار المراودين لوطاً عليه السّلام عن ضيفه حتى قالوا : إنّ ضيف لوط سَحرة فانصرفوا . وذلك ظاهر قوله تعالى : في سورة [ القمر : 37 ] { ولقد رَاودوه عن ضيفه فطمسْنا أعينهم . } وجملة لن يصلوا إليك } مبيّنة لإجمال جملة { إنّا رسُل ربّك } ، فلذلك فصلت فلم تعطف لأنها بمنزلة عطف البيان .
وتفريع الأمر بالسُرى على جملة { لن يصلوا إليك } لما في حرف { لَن } من ضمان سلامته في المستقبل كلّه . فلمّا رأى ابتداء سلامته منهم بانصرافهم حسن أن يبين له وجه سلامته في المستقبل منهم باستئصالهم وبنجاته ، فذلك موقع فاء التفريع .
و ( أسْر ) أمر بالسُرى بضم السين والقصر . وهو اسم مصدر للسير في الليل إلى الصباح . وفعله : سَرى يقال بدون همزة في أوّله ويقال : أسرى بالهمزة .
قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو جعفر بهمزة وصل على أنه أمر من سَرى . وقرأه الباقون بهمزة قطع على أنه من أسرى .
وقد جمعوه في الأمر مع أهله لأنه إذا سرى بهم فقد سرى بنفسه إذ لو بعث أهله وبقي هو لَمَا صحّ أن يقال : أسْر بهم للفرق بين أذهبت زيداً وبين ذهبت به .
والقِطْع بكسر القاف : الجزء من الليل .
وجملة { ولا يلتفت منكم أحد } معترضة بين المستثنى والمستثنى منه . والالتفات المنهي عنه هو الالتفات إلى المكان المأمور بمغادرته كَمَا دَلّت عليه القرينة .
وسبب النهي عن الالتفات التقصي في تحقيق معنى الهجرة غضباً لحرمات الله بحيث يقطع التعلق بالوطن ولو تعلّق الرؤية . وكان تعيين الليل للخروج كَيْلاَ يُلاَقِي ممانعة من قومه أو من زوجه فيشقُّ عليه دفاعهم .
و { إلاّ امرأتَك } استثناء من { أهلك } ، وهو منصوب في قراءة الجمهور اعتباراً بأنه مستثنى من { أهلك } وذلك كلام موجب ، والمعنى : لا تسْر بها ، أريد أن لا يعلمها بخروجه لأنها كانت مخلصة لقومها فتخبرهم عن زوجها . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو برفع { امرأتك } على أنه استثناء من { أحد } الواقع في سياق النهي ، وهو في معنى النفي . قيل : إنّ امرأته خرجت معهم ثم التفتت إلى المدينة فحنّت إلى قومها فرجعت إليهم . والمعنى أنه نهاهم عن الالتفات فامتثلوا ولم تمتثل امرأتُه للنهي فالتفتت ، وعلى هذا الوجه فالاستثناء من كلام مقدّر دلّ عليه النهي . والتقدير : فلا يلتفتون إلاّ امرأتك تلتفتُ .
وجملة { إنّه مصيبها ما أصابهم } استئناف بياني ناشىء عن الاستثناء من الكلام المقدّر .
وفي قوله : { ما أصابهم } استعمال فعل المضي في معنى الحال ، ومقتضى الظاهر أن يقال : ما يصيبهم ، فاستعمال فعل المضي لتقريب زمن الماضي من الحال نحو قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية ، أو في معنى الاستقبال تنبيهاً على تحقق وقوعه نحو قوله تعالى : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] .
وجملة { إنّ موعدهم الصبح } مستأنفة ابتدائية قُطعت عن التي قبلها اهتماماً وتهويلاً .
والموعد : وقت الوعد . والوعد أعمّ من الوعيد فيطلق على تعيين الشرّ في المستقبل . والمراد بالموعد هنا موعد العذاب الذي علمه لوط عليه السّلام إما بوحي سابق ، وإما بقرينة الحال ، وإما بإخبار من الملائكة في ذلك المقام طَوته الآية هنا إيجازاً ، وبهذه الاعتبارات صحّ تعريف الوعد بالإضافة إلى ضميرهم .
وجملة { أليس الصبح بقريب } استئناف بيانيّ صدر من الملائكة جواباً عن سؤال بجيش في نفسه من استبطاء نزول العذاب .
والاستفهام تقريريّ ، ولذلك يقع في مثله التقرير على النفي إرخاء للعنان مع المخاطب المقرّر ليعرف خطأه . وإنّما قالوا ذلك في أوّل الليل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة للوط لما قال لوط لقومه "لَوْ أنّ لي بِكُمْ قُوّةً أوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ "ورأوا ما لَقِي من الكرب بسببهم منهم: "يا لُوطُ إنّا رُسُلْ رَبّكَ" أرسلنا لإهلاكهم، وإنهم لن يصلوا إليك وإلى ضيفك بمكروه، فهوّن عليك الأمر، "فَأَسْرِ بأهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللّيْلِ" يقول: فاخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل، يقال منه: أسرى وسَرَى، وذلك إذا سار بليل، "وَلا يَلْتَفِتُ مِنْكُمْ أحَدٌ إلاّ امْرأتَكَ"...
وأما قوله: "إلاّ امْرأتَكَ" فإن عامة القرّاء من الحجاز والكوفة، وبعض أهل البصرة، قرأوا بالنصب "إلاّ امْرأتَكَ" بتأويل: فأسر بأهلك إلا امرأتك، وعلى أن لوطا أمِر أن يسري بأهله سوى زوجته، فإنه نُهِي أن يُسْري بها، وأمر بتخليفها مع قومها. وقرأ ذلك بعض البصريين: «إلاّ امْرأتُكَ» رفعا، بمعنى: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتُك، فإن لوطا قد أخرجها معه، وإنه نُهِي لوط ومن معه ممن أسرى معه أن يلتفتَ سوى زوجته، وإنها التفتت فهلكت لذلك.
وقوله: "إنّهُ مُصِيبُها ما أصَابَهُمْ" يقول: إنه مصيب امرأتك ما أصاب قومك من العذاب. "إنّ مَوْعِدَهُمُ الصّبْحُ" يقول: إن موعد قومك الهلاك الصبح...
. "ألَيْسَ الصّبْحُ بِقَرِيبٍ": أي عند الصبح نزول العذاب بهم...
عن ابن عباس، قوله: "بقِطْعٍ مِنَ اللّيْلِ" قال: بطائفة من الليل...
وقوله: "واتّبِعْ أدْبارَهُمْ" يقول: واتبع أدبار أهلك، "ولا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: قالوا ذلك للوط: (لن يصلوا إليك) لما طمست أعينهم، وهو كقوله: (ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر) [القمر: 37]... وقوله تعالى: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ) قيل: قطع من الليل آخره، وهو وقت السحر، وقيل هو ثلث الليل أو ربعه من آخره، وهو واحد والله أعلم. وقوله تعالى: (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ) قيل: لا يتخلف أحد منكم إلا امرأتك، فإنها تتخلف ويصيبها ما أصاب أولئك. وقال بعضهم: (ولا يلتفت) من الالتفات والنظر؛ قيل: لا يترك أحد متابعتك إلا امرأتك فإنها لا تتبعك فيصيبها ما أصاب أولئك. وقوله تعالى: (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ) يحتمل النهي عن الالتفات؛ كأنه يقول: لا يلتفت أحد. ويحتمل الخبر كأنه يقول: لا يلتفت منكم أحد إلا من ذكر وهي زوجته، فذلك علامة لخلافها له. وقوله تعالى: (إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ)... كأن لوطا استبطأ الصبح لعذابهم فقالوا: (أليس الصبح بقريب)...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى عما قالت الملائكة رسله للوط حين رأته كئيبا بسببهم "إنا رسل ربك "بعثنا الله لإهلاك قومك، فلا تغتم، فإنهم لا ينالونك بسوء (فاسر بأهلك "أي امض ومعك أهلك بالليل. وقوله "بقطع من الليل "والقطع القطعة العظيمة تمضي من الليل... وقوله" ولا يلتفت منكم أحد "قيل في معناه قولان: أحدهما: قال مجاهد: لا ينظر أحد وراءه، كأنهم تعبدوا بذلك للنجاة بالطاعة في هذه العبادة. والآخر: قال أبو علي: لا يلتفت منكم أحد إلى ماله ولا متاعه بالمدينة، وليس المعنى لا يلتفت من الرؤية، كأنه أراد أن في الرؤية عبرة، فلم ينهوا عنها وإنما نهوا عما يفترهم عن الجد في الخروج من المدينة...
وقوله" إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب "معناه إن موعد إهلاكهم عند الصبح. وإنما قال: "أليس الصبح بقريب"، لأنه لما اقتضى عظيم ما قصدوا له -من الفحش- إهلاكهم، فقالت الملائكة هذا القول تسلية له...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا ضَاقَ به الأمُر كَشَف اللَّهُ عنه الضُرَّ فَعَرَّفَ إليه الملائكة وقالوا: لا عليكَ فإنهم لا يصلون إليكَ بسوءٍ وإنَّا رُسُلُ ربك جئنا لإهلاكهم، فاخرُجْ أنت وقومُك من بينهم، واعلمْ أنَّ مَنْ شَارَكَهم في عملهم بنوعٍ فَلَهُ مِنْ العذابِ حِصَّة. ومن جملتهم امرأتك التي كانت تدل القوم على المَلَكِ لفعلة الفاحشة، وإن العقوبة لاحقةٌ بها، مُدْرِكة لها. والإشارة منه أن الجسارةَ على الزَّلّةِ وخيمةُ العاقبةِ- ولو بعد حين، ولا ينفع المرءَ اتصالُه بالأنبياء والأولياءِ إذا كان في الحكم والقضاء من جملة الأشقياء. قوله جلّ ذكره: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ألَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}؛ ما هو كائِنٌ فقريبٌ، والبعيدُ ما لا يكون. وإنَّ مَنْ أقْدَمَ على محظورٍ ثم حُوسِبَ عليه- ولو بعد دهورٍ خالية وأعوام غير محصورة ماضية- تصور له الحال كأنه وقتُ مَبَاشَرَتِه لتلك الزَّلة...
اعلم أن قوله تعالى مخبرا عن لوط عليه السلام أنه قال: {لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} يدل على أنه كان في غاية القلق والحزن بسبب إقدام أولئك الأوباش على ما يوجب الفضيحة في حق أضيافه، فلما رأت الملائكة تلك الحالة بشروه بأنواع من البشارات:
وثانيها: أن الكفار لا يصلون إلى ما هموا به.
ورابعها: أنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب.
وخامسها: إن ركنك شديد وإن ناصرك هو الله تعالى فحصل له هذه البشارات...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما عظم الشقاق وضاق الخناق كان كأنه قيل: فما قال له الرسل؟ فقيل: {قالوا} ودلوا بحرف النداء الموضوع للبعد على أنه كان قد خرج عن الدار وأجاف بابها وأن الصياح كان شديداً {يا لوط} إنك لتأوي إلى ركن شديد؛ ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنا رسل ربك} أي المحسن إليك بإحسانك وكل ما ترى مما يسوءك ويسرك؛ ثم لما ثبت له ذلك كان من المحقق أنه سبب في ألا يدانيه معه سوء فأوضحوه بقولهم: {لن يصلوا إليك} من غير احتياج إلى الربط بالفاء، أي ونحن مهلكوهم وقالبوا مدنهم بهم {فأسر} أي سر بالليل ماضياً {بأهلك} موقعاً ذلك السير والإسراء {بقطع} أي بطائفة، أي والحال أنه قد بقي عند خروجك جانب {من اللَّيل ولا يلتفت} أي ينظر إلى ورائه و لا يتخلف {منكم أحد} أي لا تلتفت أنت ولا تدع أحداً من أهلك يلتفت {إلا امرأتك} استثناء من "أحد "بالرفع والنصب لأن المنهي كالمنفي في جواز الوجهين، والنهي له صلى الله عليه وسلم، فالفعل بالنسبة إليه منهي، وبالنسبة إليهم منفي. ويمكن أن يكون أخرجها معه لأن معنى الاستثناء أنه غير مأمور بالإسراء بها إلا أنه منهي عنه، واستثناءها من الالتفات معهم مفهم أنه لا حجر عليه في الإسراء بها، أو أنه خلفها فتبعتهم والتفتت، فيكون قراءة النصب من {أهلك}، وقراءة الرفع من {أحد} ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل مخالفتها للمستثنى منه في عدم النهي، ولذلك عللوا ما أفهمه إهمالها من الإسراء والنهي من أنها تلتفت بقولهم مؤكدين لأن تعلق الأمل بنجاتها شديد رحمة لها: {إنه} أي الشأن {مصيبها} لا محالة {ما أصابهم} سواء التفتت أو لا، تخلفت أو لا، ثم ظهر لي من التعبير في حقها باسم الفاعل وفي حقهم بالماضي أنه حكم بإصابة العذاب لهم عند هذا القول للوط عليه السلام لأن ذنوبهم تمت، وأما هي فإنما يبرم الحكم بذلك في حقها عند تمام ذنوبها التي رتبت عليها الإصابة وذلك عند الالتفات. ولما عبروا بالماضي تحقيقاً للوقوع وتنبيهاً على أنه تقدم دخولها معهم في أسباب العذاب، كان منبهاً لأن يقال: كان الإيقاع بهم قد دنا بهم جداً؟ فقيل: نعم، وأكد تحقيقاً للوقوع تلذيذاً به ولأنه -لقرب الوقت- بحيث ينكر: {إن موعدهم} أي لابتداء الأخذ {الصبح} وكأن لوطاً عليه السلام أبطأ في جميع أهله وما يصلحهم، فكان فعله فعل من يستبعد الصبح، فأنكروا ذلك بقولهم: {أليس الصبح بقريب*} أي فأسرع الخروج بمن أمرت بهم...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
قيل: إن السرى لا يكون إلا في الليل، فما وجه زيادة بقطع من الليل؟ قيل: لو لم يقل بقطع من الليل لجاز أن يكون في أوّله قبل اجتماع الظلمة، وليس ذلك بمراد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عندما ضاقت واستحكمت حلقاتها، وبلغ الكرب أشده.. كشف الرسل للوط عن الركن الشديد الذي يأوي إليه: (قالوا: يا لوط، إنا رسل ربك، لن يصلوا إليك).. وأنبأوه نبأهم، لينجو مع أهل بيته الطاهرين، إلا امرأته فإنها كانت من القوم الفاسدين: (فأسر بأهلك بقطع من الليل، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك. إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح. أليس الصبح بقريب؟).. والسرى: سير الليل، والقطع من الليل: بعضه، ولا يلتفت منكم أحد: أي لا يتخلف ولا يعوق، لأن الصبح موعدهم مع الهلاك، فكل من بقي في المدينة فهو هالك مع الهالكين. (أليس الصبح بقريب؟).. سؤال لإنعاش نفس لوط بعد ما ذاق، لتقريب الموعد وتأكيده، فهو قريب. مع مطلع الصباح، ثم يفعل الله بالقوم -بقوته- ما لم تكن قوة لوط التي تمناها فاعلة!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا كلام الملائكة للوط عليه السّلام كاشفوه بأنّهم ملائكة مرسلون من الله تعالى. وإذ قد كانوا في صورة البشر وكانوا حاضري المجادلة حكى كلامهم بمثل ما تحكى به المحاورات فجاء قولهم بدون حرف العطف على نحو ما حكي قول: لوط عليه السّلام وقول قومه. وهذا الكلام الذي كلّموا به لوطاً عليه السّلام وحي أوحاه الله إلى لوط عليه السّلام بواسطة الملائكة، فإنه لمّا بلغ بِلُوط توقعُ أذى ضيفه مبلغَ الجزع ونفاد الحيلة جاءه نصر الله على سنّة الله تعالى مع رسله {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا} [يوسف: 110]. وابتدأ الملائكة خطابهم لوطاً عليه السّلام بالتعريف بأنفسهم لتعجيل الطمأنينة إلى نفسه لأنّه إذا علم أنهم ملائكة علم أنهم ما نزلوا إلاّ لإظهار الحق. قال تعالى: {ما تنزّل الملائكةُ إلاّ بالحق وما كانوا إذاً منْظرين} [الحجر: 8]. ثم ألحقوا هذا التعريف بالبشارة بقولهم: {لن يصلوا إليك}. وجيء بحرف تأكيد النفي للدّلالة على أنهم خاطبوه بما يزيل الشك من نفسه. وقد صرف الله الكفّار عن لوط عليه السّلام فرجعوا من حيث أتوا، ولو أزال عن الملائكة التشكّل بالأجساد البشرية فأخفاهم عن عيون الكفّار لحسبوا أنّ لوطاً عليه السّلام أخفاهم فكانوا يؤذون لوطاً عليه السّلام. ولذلك قال له الملائكة {لن يصلوا إليك} ولم يقولوا لن ينالوا، لأنّ ذلك معلوم فإنهم لمّا أعلموا لوطاً عليه السّلام بأنهم ملائكة ما كان يشك في أن الكفّار لا ينالونهم، ولكنّه يخشى سورتهم أن يتّهموه بأنه أخفاهم...
وتفريع الأمر بالسُرى على جملة {لن يصلوا إليك} لما في حرف {لَن} من ضمان سلامته في المستقبل كلّه. فلمّا رأى ابتداء سلامته منهم بانصرافهم حسن أن يبين له وجه سلامته في المستقبل منهم باستئصالهم وبنجاته، فذلك موقع فاء التفريع...
وجملة {ولا يلتفت منكم أحد} معترضة بين المستثنى والمستثنى منه. والالتفات المنهي عنه هو الالتفات إلى المكان المأمور بمغادرته كَمَا دَلّت عليه القرينة. وسبب النهي عن الالتفات التقصي في تحقيق معنى الهجرة غضباً لحرمات الله بحيث يقطع التعلق بالوطن ولو تعلّق الرؤية. وكان تعيين الليل للخروج كَيْلاَ يُلاَقِي ممانعة من قومه أو من زوجه فيشقُّ عليه دفاعهم. و {إلاّ امرأتَك} استثناء من {أهلك}، وهو منصوب في قراءة الجمهور اعتباراً بأنه مستثنى من {أهلك} وذلك كلام موجب، والمعنى: لا تسْر بها، أريد أن لا يعلمها بخروجه لأنها كانت مخلصة لقومها فتخبرهم عن زوجها. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو برفع {امرأتك} على أنه استثناء من {أحد} الواقع في سياق النهي، وهو في معنى النفي. قيل: إنّ امرأته خرجت معهم ثم التفتت إلى المدينة فحنّت إلى قومها فرجعت إليهم. والمعنى أنه نهاهم عن الالتفات فامتثلوا ولم تمتثل امرأتُه للنهي فالتفتت، وعلى هذا الوجه فالاستثناء من كلام مقدّر دلّ عليه النهي. والتقدير: فلا يلتفتون إلاّ امرأتك تلتفتُ. وجملة {إنّه مصيبها ما أصابهم} استئناف بياني ناشئ عن الاستثناء من الكلام المقدّر. وفي قوله: {ما أصابهم} استعمال فعل المضي في معنى الحال، ومقتضى الظاهر أن يقال: ما يصيبهم، فاستعمال فعل المضي لتقريب زمن الماضي من الحال نحو قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] الآية... وجملة {إنّ موعدهم الصبح} مستأنفة ابتدائية قُطعت عن التي قبلها اهتماماً وتهويلاً. والموعد: وقت الوعد. والوعد أعمّ من الوعيد فيطلق على تعيين الشرّ في المستقبل. والمراد بالموعد هنا موعد العذاب الذي علمه لوط عليه السّلام إما بوحي سابق، وإما بقرينة الحال، وإما بإخبار من الملائكة في ذلك المقام طَوته الآية هنا إيجازاً، وبهذه الاعتبارات صحّ تعريف الوعد بالإضافة إلى ضميرهم. وجملة {أليس الصبح بقريب} استئناف بيانيّ صدر من الملائكة جواباً عن سؤال بجيش في نفسه من استبطاء نزول العذاب. والاستفهام تقريريّ، ولذلك يقع في مثله التقرير على النفي إرخاء للعنان مع المخاطب المقرّر ليعرف خطأه. وإنّما قالوا ذلك في أوّل الليل...
} وجملة لن يصلوا إليك} مبيّنة لإجمال جملة {إنّا رسُل ربّك}، فلذلك فصلت فلم تعطف لأنها بمنزلة عطف البيان...
نحن نعلم أن لوطا سيصحب المؤمنين معه؛ من ديارهم وأموالهم، وما ألفوه من مقام ومن حياة؛ لذلك تنبههم الملائكة ألا تتجه قلوبهم إلى ما تركوه، وعليهم أن ينقذوا أنفسهم، وسيعوضهم الله سبحانه خيرا مما فاتهم. هذا هو المقصود بعدم الالتفات المعنوي، وأيضا مقصود به عدم الالتفات الحسي...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وجاءه المدد من الله، وتدخّل الملائكة الذين كان مظهرهم يوحي بالضعف مما يغري هؤلاء القوم بالانقضاض عليهم، دون أن يملك لوط أمر الدفاع عنهم، وأعلنوا عن صفتهم الملائكية للوط، وأوضحوا له دورهم الإلهي في إنزال العذاب بقومه: {قَالُواْ يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} ولن يقدروا أن يصيبوك بسوء، فلا تحمل هَمَّ إحساسك بالضعف تجاههم، لأنك قوي بالله الذي بسط عليك حمايته، فلن تحتاج بعد ذلك إلى قوّة ذاتيّة من نفسك، أو من قومك، أو من عشيرة مانعة تحميك، وعليك أن تعدّ نفسك للخروج من البلد، وتنفذ التعليمات الموجّهة إليك لتحقيق النجاة لك ولأهلك. {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّليْلِ} أي قطعة منه، أو بعض منه، {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} وهو كناية عن الانطلاق بعزم، لا مجال فيه للالتفات والانصراف عنه {إِلاَّ امرَأَتَكَ} التي كانت على نهج القوم في كفرهم وضلالهم، كما كانت تتعاون معهم ضدّك فتخبرهم بمن يأتي إليك، وتسهل لهم مهمة الاطلاع على أسرارك، {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ} من العذاب لأنها منهم، فلا يميزها عنهم شيء، ولا قيمة لعلاقتها بك لأن الله يجزي كل إنسان بعمله، فلا يغني أحدٌ عن أحد شيئاً، ولا يضر أحدٌ أحداً شيئاً. أليس الصبح بقريب؟! {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} موعد العذاب النازل بهم، فلا خوف من الانتظار الطويل، ولا بدّ من العجلة في الخروج، لأنه لم يبق هناك وقت كثير لنزول العذاب، {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} فلم يبق لبزوغه إلا سواد هذا الليل...