20 - ويقول الذين آمنوا : هلا نزلت سورة تدعونا إلى القتال ؟ فإذا نزلت سورة لا تحتمل غير وجوبه ، وذكر فيها القتال مأموراً به رأيت الذين في قلوبهم نفاق ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت خوفاً منه وكراهية له ، فأحق بهم طاعة لله وقول يقره الشرع ، فإذا جد الأمر ولزمهم القتال ، فلو صدقوا الله في الإيمان والطاعة لكان خيراً لهم من النفاق ، فهل يتوقع منكم - أيها المنافقون - إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا صلاتكم بأقاربكم ؟
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حال المنافقين عندما يدعون إلى القتال فى سبيل الله ، وكيف أنهم يستولى عليهم الذعر والهلع عند مواجهة هذا التكليف ، وكيف سيكون مصيرهم إذا ما استمروا على هذا النفاق . فقال - تعالى - : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ . . . على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : لما بين الله حال المنافق والكافر ، والمهتدى المؤمن عند استماع الآيات العلمية ، من التوحيد والحشر وغيرهما . . أتبع ذلك ببيان حالهم فى الآيات العملية ، فإن المؤمن كان ينتظر ورودها ، ويطلب تنزيلها ، وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول : هلا أمرت بشئ من العبادة .
والمنافق كان إذا نزلت الآية أو السورة وفيها تكليف كره ذلك . . فذكر - سبحانه - تباين حال الفريقين فى العلم والعمل . فالمنافق لا يفهم العلم ولا يريد العمل ، والمؤمن يعلم ويحب العمل .
فقوله - تعالى - : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } حكاية لتطلع المؤمنين الصادقين إلى نزول القرآن ، وتشوقهم إلى الاستماع إليه ، والعمل بأحكامه .
أى : ويقول الذين آمنوا إيمانا حقا ، لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله هلا نزلت سورة جديدة من هذا القرآن الكريم ، الذى نحبه ونحب العمل بما فيه من هدايات وآداب وأحكام وجهاد فى سبيل الله - عز وجل - .
قوله : { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت } بيان لموقف المنافقين من الجهاد فى سبيل الله ، وتصوير بديع لما انطوت عليه نفوسهم من جبن خالع .
والمراد بقوله { مُّحْكَمَةٌ } : أى : واضحة المعانى فيما سيقت له من الأمر بالجهاد فى سبيل الله ، بحيث لا يوجد مجال لتأويل معناها على الوجه الذى سيقت له .
أى : هذا هو حال المؤمنين بالنسبة بحبهم للقرآن الكريم ، أما حال المنافقين فإنك تراهم إذا ما أنزلت سورة فاصلة بينة تأمر أمرا صريحا بالقتال لإعلاء كلمة الله تراهم ينظرون إليك كنظر من حضره الموت فصار بصره شاخصا لا يتحرك من شدة الخوف والفزع .
والمقصود أنهم يوجهون أبصارهم نحو النبى - صلى الله عليه وسلم - بحدة وهلع ، لشدة كراهتهم للقتال معه ، إذ فى هذا القتال عز للإِسلام ، ونصر للمؤمنين ، والمنافقون يبغضون ذلك .
فالآية الكريمة ترسم صورة خالدة بليغة لكل نفس لئيمة خوارة ، مبتوتة عن الإِيمان ، وعن الفطرة السليمة ، متجردة عن الحياء الذى يستر مخازيها .
وقوله - تعالى - { فأولى لَهُمْ } تهديد ووعيد لهم على جبنهم وخبث طويتهم .
وقوله { أولى } يرى بعضهم أنه فعل ماض بمعنى قارب ، وفاعله ضمير يعود إلى الموت ، أى : قاربهم ما هيلكهم وهو الموت الذى يرتعدون منه . .
ويرى آخرون أن قوله { أولى } اسم تفضيل بمعنى أحق وأجدر ، وأنه خبر لمبتدأ محذوف ، واللام بمعنى الباء . أى : فالعقاب والهلاك أولى بهم وأحق وأجدر .
وينتقل السياق إلى تصوير موقف المنافقين من الجهاد ، وما يعتمل في نفوسهم من جبن وخور وذعر وهلع عند مواجهة هذا التكليف ، ويكشف دخيلتهم في هذا الأمر ، كما يكشف لهم ما ينتظرهم لو ظلوا على هذا النفاق ، ولم يخلصوا ويستجيبوا ويصدقوا الله عندما يعزم الأمر ويتحتم الجهاد :
( ويقول الذين آمنوا : لولا نزلت سورة . فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ، فأولى لهم طاعة وقول معروف ، فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم . فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ! أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ? ) . .
وتطلع الذين آمنوا إلى تنزيل سورة : إما أن يكون مجرد تعبير عن شوقهم إلى سورة جديدة من هذا القرآن الذي يحبونه ، ويجدون في كل سورة منه زادا جديدا حبيبا . وإما أن يكون تطلعا إلى سورة تبين أمرا من أمور الجهاد ، وتفصل في قضية من قضايا القتال تشغل بالهم . فيقولون : ( لولا نزلت سورة ! ) . .
( فإذا أنزلت سورة محكمة ) . . فاصلة بينة لا تحتمل تأويلا - ( وذكر فيها القتال ) . . أي الأمر به . أو بيان حكم المتخلفين عنه ، أو أي شأن من شؤونه ، إذا بأولئك ( الذين في قلوبهم مرض ) . . وهو وصف من أوصاف المنافقين . . يفقدون تماسكهم ، ويسقط عنهم ستار الرياء الذي يتسترون به ، وينكشف جزعهم وضعف نفوسهم من مواجهة هذا التكليف ، ويبدون في حالة تزري بالرجال ، يصورها التعبير القرآني المبدع صورة فريدة كأنها معروضة للأنظار :
( رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ) . .
وهو تعبير لا تمكن محاكاته ، ولا ترجمته إلى أي عبارة أخرى . وهو يرسم الخوف إلى حد الهلع . والضعف إلى حد الرعشة . والتخاذل إلى حد الغشية ! ويبقى بعد ذلك متفردا حافلا بالظلال والحركة التي تشغف الخيال ! وهي صورة خالدة لكل نفس خوارة لا تعتصم بإيمان ، ولا بفطرة صادقة ، ولا بحياء تتجمل به أمام الخطر . وهي هي طبيعة المرض والنفاق !
وبينما هم في هذا التخاذل والتهافت والانهيار تمتد إليهم يد الإيمان بالزاد الذي يقوي العزائم ويشد القوائم لو تناولوه في إخلاص :
( فأولى لهم طاعة وقول معروف . فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ) . .
نعم . أولى لهم من هذه الفضيحة . ومن هذا الخور . ومن هذا الهلع . ومن هذا النفاق . .
يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد ، فلما فرضه الله ، عز وجل{[26680]} ، وأمر به نكل عنه كثير من الناس ، كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا } [ النساء : 77 ] .
وقال ها هنا : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ } أي : مشتملة على حُكْم القتال ؛ ولهذا قال : { فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } أي : من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء .
ثم قال مشجعا لهم : { فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ } أي : وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا ، أي : في الحالة الراهنة ، { فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ } أي : جد الحال ، وحضر القتال ، { فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ } أي : أخلصوا له النية ، { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَىَ لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللّهَ لَكَانَ خَيْراً لّهُمْ } .
يقول تعالى ذكره : ويقول الذين صدّقوا الله ورسوله : هلا نزلت سورة من الله تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار فإذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ يعني : أنها محكمة بالبيان والفرائض . وذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله «فإذَا أُنْزِلَتْ سُورةٌ مُحْدَثَةٌ » .
وقوله : وَذُكِرَ فِيها القِتالُ يقول : وذُكر فيها الأمر بقتال المشركين . وكان قتادة يقول في ذلك ما :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزّلَتْ سُورَةٌ فإذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيها القِتالُ قال : كلّ سورة ذُكر فيها الجهاد فهي محكمة ، وهي أشدّ القرآن على المنافقين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَذُكِرَ فِيها القِتالُ قال : كل سورة ذُكر فيها القتال فهي محكمة .
وقوله : رأيْتَ الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يقول : رأيت الذين في قلوبهم شك في دين الله وضعف يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ يا محمد ، نَظَرَ المَغْشِيّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ ، خوفا أن تغزيهم وتأمرهم بالجهاد مع المسلمين ، فهم خوفا من ذلك وتجبنا عن لقاء العدوّ ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه الذي قد صرع . وإنما عنى بقوله : مِنَ المَوْتِ من خوف الموت ، وكان هذا فعل أهل النفاق . كالذي :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ قال : هؤلاء المنافقون طبع الله على قلوبهم ، فلا يفقهون ما يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقوله : فَأَوْلَى لَهُمْ يقول تعالى ذكره : فأولى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض .
وقوله : فأوْلَى لَهُمْ وعيد توعّد الله به هؤلاء المنافقين . كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فَأَوْلَى لَهُمْ قال : هذه وعيد ، فأولى لهم ، ثم انقطع الكلام فقال : طَاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَأَوْلَى لَهُمْ قال : وعيد كما تسمعون .
هذا ابتداء وصف حال المؤمنين في جدهم في دين الله وحرصهم على ظهوره وحال المنافقين من الكسل والفشل والحرص على فساد دين الله وأهله ، وذلك أن المؤمنين كان حرصهم يبعثهم على تمني الظهور وتمني قتال العدو وفضيحة المنافقين ونحو ذلك مما هو ظهور للإسلام ، فكانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ ، والله تعالى قد جعل ذلك بآماد مضروبة وأوقات لا تتعدى ، فمدح الله المؤمنين بحرصهم . وقولهم : { لولا نزلت سورة } معناه : تتضمن إظهارنا وأمرنا بمجاهدة العدو ونحوه . ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين عند نزول أمر القتال .
وقوله : { محكمة } معناه : لا يقع فيها نسخ ، وبهذا الوجه خصص السورة بالأحكام ، وأما الإحكام الذي هو بمعنى الإتقان ، فالقرآن فيه كله سواء . وقال قتادة : كل سورة فيها القتال فهي محكمة ، وهو أشد القرآن على المنافقين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن ، وليس من تفسير هذه الآية في شيء .
وفي مصحف ابن مسعود : «سورة محدثة » . والمرض الذي في القلوب : استعارة لفساد المعتقد وحقيقة الصحة والمرض في الأجسام ، وتستعار للمعاني ، ونظر الخائف الموله قريب من نظر { المغشي عليه } ، وخسسهم هذا الوصف والتشبيه .
وقوله تعالى : { فأولى لهم } الآية ، «أولى » : وزنه أفعل ، من وليك الشيء يليك . وقالت فرقة وزنه : أفلع ، وفيه قلب ، لأنه مشتق من الويل ، والمشهور من استعمال «أولى » : أنك تقول : هذا أولى بك من هذا ، أي أحق ، وقد تستعمل «أولى » فقط على جهة الحذف والاختصار لما معها من القول ، فتقول على جهة الزجر والتوعد : أولى لك يا فلان ، وهذه الآية من هذا الباب ، ومنه قوله تعالى : { أولى لك فأولى }{[10369]} [ القيامة : 34-35 ] ، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه للحسن : أولى لك . وقالت فرقة من المفسرين : «أولى » رفع بالابتداء . و : { طاعة } خبره .
وقالت فرقة من المفسرين : { أولى لهم } ابتداء وخبر ، معناه : الزجر والتوعد .