اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةٞۖ فَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ مُّحۡكَمَةٞ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلۡقِتَالُ رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ نَظَرَ ٱلۡمَغۡشِيِّ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ} (20)

قوله : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } أي هلاَّ . ولا التفات إلَى قول بعضهم{[51385]} إنَّ «لاَ » زائدة . والأصل لو نزلت . والعامة على رفع محكمة لقيامها مقام الفاعل . وزَيْدُ بنُ عَلِيٍّ بالنصب فيهما على الحَالِ{[51386]} . والقائم مقام الفاعل ضمير السورة المتقدمة وسَوَّغ وقوعَ الحال كذا وَصْفُها كقولك : الرَّجُلُ جَاءَنِي رَجُلاً صَالِحاً وقرىْ : فَإذَا نَزَلَتْ سُورَةٌ{[51387]} . وقرأ زيدٌ بْنُ عَلِيٍّ وابنُ عُمَيْر «وَذَكَرَ » مبنياً للفاعل أي الله تعالى «القِتَالَ » نصباً{[51388]} .

فصل

المعنى ويقول الذين آمنوا حرصاً منهم على الجهاد هلا أنزلت سورة تأمرنا بالجِهاد .

واعلم أن المؤمن كان ينتظر نزول الأحكام والتكاليف ويطلب تنزيلها وإذا تأخرت عنه التكليف كان يقول : هلا أمرت بشيء من العبادة خوفاً من أن لا يؤهل لها . وأما المنافق فإذا أنزلت{[51389]} السورة أو الآية وفيها تكليف فيشق عليه ذلك فحصل التَّبَايُن بين الفريقين في العلم والعمل .

والمراد بالسورة التي فيها تكليف ؟ . وقوله : «مُحْكَمَةُ » أي لم تنسخ ، وقال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين{[51390]} .

{[51391]}قوله : { رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } يعنى المنافقين { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } شَزْراً بتحديقٍ شديدٍ كراهِيةً منهم للجهاد ، وجبناً عن لقاء العدوِّ .

قوله : { نَظَرَ المغشي } الأصل نَظَراً مثل نَظَراً مثل نَظَر المَغْشِيِّ عليه من الموت كما ينظر الشاخص بصره عنْد الموت .

قوله : { فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ } . اختلف اللّغويون والمُعْرِبُونَ ( رَحِمَهُ اللهِ عَلَيْهِمْ ) في هذه اللفظة فقال الأصمعي ( رَحمهُ الله ){[51392]} : إنها فعل ماضٍ بمعنى قاربه ما يهلكه{[51393]} ، وأنشد ( رَحمهُ اللهُ ) :

4474 فَعَادَى بَيْنَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا *** وَأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ عَلى الثَّلاَثِ{[51394]}

أي قارب أن يزيد .

قال ثعلب : لم يقل أحدٌ في أوْلَى أحسنت من الأصمعيِّ{[51395]} . وقال البغوي : معناه وَلِيَكَ وَقَرَبَك ما تكره{[51396]} ولكن الأكثرين{[51397]} على أنه اسم . ثم اختلف هؤلاء فقيل هو مشتق من الوَلْي وهو القريب كقوله :

4475 تُكَلِّفُنِي لَيْلَى وَقَدْ شَطَّ وَلْيُهَا *** وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنا وَخُطُوبُ{[51398]}

وقيل : هو مشتق من الوَيْل والأصل فيه أوئل . فقلبت العين إلى ما بعد اللام فصار وزنه أفلع{[51399]} . وإلَى هذا نحا الجُرْجَانيّ{[51400]} والأصل عدم القلب وأما معناها فقيل : هي تهديد ووعيد كقوله :

4476 فَأَوْلَى ثُمَّ أَولَى ثُمَّ أَوْلَى *** وَهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ{[51401]}

وقال المبرد : يقال لمن هم بالغضب{[51402]} : أولى لك كقول أعرابيِّ كان يوالِي رمي الصيد فيفلت منه فيقول : أَوْلَى لَكَ . ثم رمى صيداً فَقَارَبَهُ فأفلت منه فقال ( رَحْمَةُ الله عليه ورِضَاهُ ){[51403]} :

4477 فَلَوْ كَانَ أَوْلَى يُطْعِمُ الْقَوْمَ صِدْتُهُمْ *** وَلَكِنْ أَوْلَى يَتْرُكُ الْقَوْمَ جُوَّعَا{[51404]}

هذا ما يتعلق باشتقاقه ومعناه .

وأما الإعراب فإن قلنا بقول الجمهور ففيه أوجه :

أحدهما : أن «أولى » مبتدأ ( و ){[51405]} «لهم » خبره تقديره : فالهلاك لهم . وسوغ الابتداء بالنكرة كونهُ دُعَاء نحو : { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] .

الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : العِقَابُ أو الهَلاك أَوْلَى لهم . أي أقرب واَدْنَى{[51406]} . وقال ابنُ الخطيب : التقدير : فالموت أولى لهم ؛ لأنَّ الموت سبق ذكره في قوله : { نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت } ، وذلك أن الحياة في طاعة الله ورسوله خير منها{[51407]} . ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء أي أولى وأحق بِهِمْ{[51408]} .

الثالث : أنه مبتدأ و«لهم » متعلق به ، واللام بمعنى الباء . و«طاعة » خبره التقدير : أولى بهم طاعة دون غيرها{[51409]} .

وإن قلنا بقول الأصمعي فيكون فعلاً ماضياً ، وفاعله مضمر يدل عليه السِّيَاق ، كأنه قيل : فأولى هو أي الهلاك{[51410]} .

وهذا ظاهر عبارة الزمخشري حيث قال : ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه{[51411]} . وقال ابن عطية : المشهور من استعمال العرب أنك تقول : هذا أولى بك من هذا ، أي أحق{[51412]} . وقد تستعمل العرب «أولى لك » فقط على جهة الحذف والاخْتِصَار ؛ لما معها من القول فتقول : أولى لك يا فلان على جهة الزجر والوعيد . انتهى{[51413]} .

وقال أبو البقاء : أَوْلَى مؤنثة أَوْلاة{[51414]} . وفيه نظر ؛ لأن ذلك إنما يكون في التذكير والتأنيث الحقيقيين ؛ أما التأنيث اللفظي وفلا يقال فيه ذلك{[51415]} . وسيأتي له مزيد بيان في القيامة{[51416]} إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى .


[51385]:ولعله الفراء حيث أكد في المعاني 2/377 تركيبها قال: "لولا" التي هي "لو" ضمت إليها "لا" فصارتا حرفا واحدا. وهو رأي المبرد أيضا في المقتضب 3/76 وكذلك ابن الشجري في أماليه 2/76 وقد قال بالتركيب الذي أضاف معنى جديدا كل من ابن يعيش 8/144 وابن الأنباري في الإنصاف 215. وانظر قضايا التركيب 286: 288.
[51386]:قراءة شاذة غير متواترة انظر البحر 8/81.
[51387]:كذا في البحر المحيط لأبي حيان 8/81، وذكر القرطبي في الجامع 16/243: فإذا أنزلت سورة محدثة وكلتا القراءتين شاذة.
[51388]:المرجعين السابقين.
[51389]:في (ب) نزلت.
[51390]:الرازي 28/62.
[51391]:القرطبي 16/243 وهذا الإعراب ذكره أبو البقاء في التبيان 1163.
[51392]:ما بين القوسين ساقط من (ب) وزائد من (أ).
[51393]:القرطبي المرجع السابق والبحر المحيط 8/71.
[51394]:لم أعرف منشده وهو من تام الوافر. وشاهده في "أولى" فهو بمعنى قارب ما يهلكه على رأي الأصمعي، والهادية: أول كل شيء وما تقدم منه. ولهذا قيل: أقبلت هوادي الخيل إذا رؤيت أعناقها. وانظر البيت في القرطبي 16/244 ومقاييس اللغة 6/141 واللسان ولي 4923، والهمع 1/128 والبحر 8/71 بلفظ "تعادى" ولعله خطأ من الناسخ.
[51395]:القرطبي المرجع السابق.
[51396]:معالم التنزيل له 6/63.
[51397]:في النسختين: الأكثرون بالرفع.
[51398]:من الطويل وهو لعلقمة الفحل. وهو في البحر 8/71 ومعاهد التنصيص 1/63، وحاشية الدمنهوري 93. والشاهد وليها بمعنى القرب.
[51399]:ففيه قلب مكاني.
[51400]:صاحب نظم القرآن وقد تقدم التعريف به. وانظر رأيه في القرطبي 16/244.
[51401]:من الوافر ومعناه واضح في الوعيد الواقع لا محالة. ولم أعرف قائله وكرر لفظ أولى للتأكيد فهو كقوله: أولى ثم أولى لك فأولى" أي ويل وهلاك فالوعيد واقع ومؤكد كالدر المحلوب لا يرد بعد الحلب إلى منبعه الأصلي. والشاهد في كلمة أولى فمعناها الوعيد والتهديد وانظر القرطبي 16/243 والبحر 8/71 واللسان ولي 4924.
[51402]:في القرطبي فيما نقله عنه: في العطب.
[51403]:زيادة من (أ) وانظر الكامل 4/51 للمبرد بالمعنى والقرطبي 16/244 والبحر المحيط 8/71.
[51404]:لأحد الأعراب وهو من الطويل. وشاهده أن أولى في البيت لهذا حكاية وذلك أنه كان لا يحسن أن يرمي وأحب أن يمتدح عند أصحابه فقال أولى وضرب بيده على الأخرى وقال أولى فحكى ذلك. وانظر اللسان ولي 4924 والقرطبي 16/244 والبحر 8/71 وفي البحر: صيدهم ولعله تحريف.
[51405]:زيادة للسياق.
[51406]:في (ب) أو أدنى وهذا الإعراب قال به أبو حيان عن قتادة في البحر 8/83.
[51407]:الرازي 28/62.
[51408]:البحر المحيط المرجع السابق.
[51409]:التبيان والبحر السابقين.
[51410]:ذكره أبو حيان في مرجعه السابق.
[51411]:الكشاف 3/535 و536.
[51412]:البحر المحيط السابق.
[51413]:السابق.
[51414]:التبيان 1063.
[51415]:فكلمة أولى كعطية تأنيث لفظي.
[51416]:عند قوله تعالى: {أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى} الآيتان 34، 35 من القيامة.