البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةٞۖ فَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ مُّحۡكَمَةٞ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلۡقِتَالُ رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ نَظَرَ ٱلۡمَغۡشِيِّ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ} (20)

فأولى لهم ، قال صاحب الصحاح : قول العرب أولى لك : تهديد وتوعيد ، ومنه قول الشاعر :

فأولى ثم أولى ثم أولى *** وهل للدار يحلب من مرد

انتهى . واختلفوا ، أهو اسم أو فعل ؟ فذهب الأصمعي إلى أنه بمعنى قاربه ما يهلكه ، أي نزل به ، وأنشد :

تعادى بين هاديتين منها *** وأولى أن يزيد على الثلاث

أي : قارب أن يزيد . قال ثعلب : لم يقل أحد في أولى أحسن مما قال الأصمعي . وقال المبرد : يقال لمن هم بالعطب ، كما روي أن أعرابياً كان يوالي رمي الصيد فينفلت منه فيقول : أولى لكرمي صيداً فقاربه ثم أفلت منه ، وقال :

فلو كان أولى يطعم القوم صيدهم *** ولكن أولى يترك القوم جوّعا

والأكثرون على أنه اسم ، فقيل : هو مشتق من الولي ، وهو القرب ، كما قال الشاعر :

تكلفني ليلى وقد شط وليها *** وعادت عواد بيننا وخطوب

وقال الجرجاني : هو ما حول من الويل ، فهو أفعل منه ، لكن فيه قلب .

كان المؤمنون حريصين على ظهور الإسلام وعلو كلمته وتمني قتل العدو ، وكانوا يستأنسون بالوحي ، ويستوحشون إذا أبطأ .

والله تعالى قد جعل ذلك باباً ومضروبة لا يتعدى .

فمدح تعالى المؤمنين بطلبهم إنزال سورة ، والمعنى تتضمن أمرنا بمجاهدة العدو ، وفضح أمر المنافقين .

والظاهر أن ظاني ذلك هم خلص في إيمانهم ، ولذلك قال بعد { رأيت الذين في قلوبهم مرض } .

وقال الزمخشري : كانوا يدعون الحرص على الجهاد ، ويتمنونه بألسنتهم ، ويقولون : { لولا نزلت سورة } في معنى الجهاد .

{ فإذا أنزلت } ، وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه ، كاعوا وشق عليهم وسقطوا في أيديهم ، كقوله : { فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس } انتهى ؛ وفيه تخويف لما يدل عليه لفظ القرآن و { لولا } : بمعنى هلا ؛ وعن أبي مالك : لا زائدة ، والتقدير : لو نزلت ، وهذا ليس بشيء .

وقرىء : فإذا نزلت .

وقرأ زيد بن علي : سورة محكمة ، بنصبهما ، ومرفوع نزلت بضم ، وسورة نصب على الحال .

وقرأ هو وابن عمر : { وذكر } مبنياً للفاعل ، أي الله .

{ فيها القتال } ونصب .

الجمهور : برفع سورة محكمة على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وبناء وذكر للمفعول ، والقتال رفع به ، وإحكامها كونها لا تنسخ .

قال قتادة : كل سورة فيها القتال ، فهي محكمة من القرآن ، لا بخصوصية هذه الآية ، وذلك أن القتال نسخ ما كان من المهادنة والصلح ، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة .

وقيل : محكمة بالحلال والحرام .

وقيل : محكمة أريدت مدلولات ألفاظها على الحقيقة دون المتشابه الذي أريد به المجاز ، نحو قوله : { على العرش استوى } { في جنب الله } { فضرب الرقاب } .

{ رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك } : أي تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً .

{ نظر المغشي عليه } : أي نظراً كما ينظر من أصابته الغشية من أجل حلول الموت .

وقيل : يفعلون ذلك ، وهو شخوص البصر إلى الرسول من شدة العداوة .

وقيل : من خشية الفضيحة ، فإنهم إن يخالفوا عن القتال افتضحوا وبان نفاقهم .

وأولى لهم : تقدم شرحه في المفردات .

وقال قتادة : كأنه قال : العقاب أولى لهم .

وقيل : وهم المكروه ، وأولى وزنها أفعل أو أقلع على الاختلاف ، لأن الاستفعال الذي ذكرناه في المفردات .

فعلى قول الجمهور : إنه اسم يكون مبتدأ ، والخبر لهم .

وقيل : أولى مبتدأ ، ولهم من صلته وطاعة خبر ؛ وكأن اللام بمعنى الباء ، كأنه قيل : فأولى بهم طاعة .

ولم يتعرض الزمخشري لإعرابه ، وإنما قال : ومعناه الدعاء عليهم بأن يليه المكروه .

وعلى قول الأصمعي : أنه فعل يكون فاعله مضمراً يدل عليه المعنى .

وأضمر لكثرة الاستعمال كأنه قال : قارب لهم هو ، أي الهلاك .

قال ابن عطية : والمشهور من استعمال العرب أولى لك فقط على جهة الحذف والاختصار ، لما معها من القوة ، فيقول ، على جهة الزجر والتوعد : أولى لك يا فلان .

وهذه الآية من هذا الباب .

ومنه قوله : { أولى لك فأولى } وقول الصديق للحسن رضي الله عنهما : أولى لك انتهى .