الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةٞۖ فَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ مُّحۡكَمَةٞ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلۡقِتَالُ رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ نَظَرَ ٱلۡمَغۡشِيِّ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ} (20)

قوله : { لَوْلاَ نُزِّلَتْ } : هذه بمعنى : هَلاَّ ، ولا التفاتَ إلى قول بعضِهم : إنَّ " لا " زائدةٌ والأصلُ : لو نُزِّلَتْ . والعامَّةُ على رفع " سورةٌ مُحْكَمَةٌ " لقيامِها مقامَ الفاعل . وزيد بن علي بالنصبِ فيهما على الحالِ والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ السورة المتقدمةِ ، وسوَّغ وقوع الحال كذا وَصْفُها كقولك : الرجل جاءني رجلاً صالحاً . وقُرئ : { فَإِذَآ نَزَلَتْ سُورَةٌ } . وقرأ زيدُ بن علي وابن عمير " وذَكَرَ " مبنياً للفاعل أي : اللَّه تعالى . " القتالَ " نصباً .

قوله : " نَظَرَ المَغْشِيِّ " الأصلُ : نَظَراً مِثْلَ نَظَر المَغْشِيِّ .

قوله : { فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ } اختلف اللغويون والمُعْربون في هذه اللفظةِ ، فقال الأصمعي : إنها فعلٌ ماضٍ بمعنى : قارَبَ ما يُهْلِكه وأنشد :

4062 فعادَى بينَ هادِيَتَيْنِ مِنْها *** وَأَوْلَى أَنْ يزيدَ على الثلاثِ

أي : قارَبَ أن يزيدَ . قال ثعلب : " لم يَقُلْ أحدٌ في " أَوْلَى " أحسنَ مِنْ قولِ الأصمعيِّ " ، ولكنْ الأكثرون على أنه اسمٌ . ثم اختلف هؤلاء فقيل : هو مشتقٌّ من الوَلْيِ وهو القُرْبُ كقوله :

4063 يُكَلِّفُني لَيْلَى وقد شَطَّ وَلْيُها *** وعادَتْ عَوادٍ بيننا وخُطُوْبُ

وقيل : هو مشتقُّ مِن الوَيْلِ . والأصلُ : فيه أَوْيَل فقُلبت العين إلى ما بعدَ اللام فصارَ وزنُه أَفْلَع . وإلى هذا نحا الجرجانيُّ . والأصلُ عدم القَلْبِ . وأمَّا معناها فقيل : هي تهديدٌ ووعيدٌ كقولِه :

4064 فأَوْلَى ثم أَوْلَى ثم أَوْلَى *** وهَلْ للدَرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ

وقال المبرد : يُقال لمَنْ هَمَّ بالغضبِ : أَوْلَى لك ، كقولِ أعرابي كان يُوالي رَمْيَ الصيدِ فيَفْلَتُ منه فيقول : أَوْلى لك ، ثم رمى صيداً فقارَبَه فأفلتَ منه ، فقال :

4065 فلو كان أَوْلَى يُطْعِمُ القومَ صِدْتُهم *** ولكنَّ أَوْلى يَتْرُكُ القومَ جُوَّعا

هذا ما يتعلَّقُ باشتقاقِه ومعناه . أمَّا الإِعرابُ : فإن قلنا بقول الجمهور ففيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ " أَوْلَى " مبتدأٌ ، و " لهم " خبرُه ، تقديرُه : فالهلاكُ لهم . وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرة كونُه دعاءً نحو : { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] . الثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه العقابُ أو الهلاكُ أَوْلَى لهم ، أي : أقربُ وأَدْنى . ويجوز أن تكونَ اللامُ بمعنى الباءِ أي : أَوْلَى وأحَقُّ بهم . الثالث : أنه مبتدأٌ ، و " لهم " متعلِّقٌ به ، واللامُ بمعنى الباء . و " طاعةٌ " خبره ، والتقدير : أولَى بهم طاعةٌ دونَ غيرِها . وإنْ قلنا بقول الأصمعيِّ فيكون فعلاً ماضياً وفاعلُه مضمر ، يَدُلُّ عليه السِّياقُ كأنه قيل : فأَوْلَى هو أي : الهلاكُ ، وهذا ظاهرُ عبارةِ الزمخشري حيث قال : " ومعناه الدعاءُ عليهم بأَنْ يَلِيَهم المكروهُ " . وقال ابن عطية :/ " المشهورُ من استعمالِ العرب أنك تقول : هذا أَوْلَى بك مِنْ هذا أي : أحقُّ . وقد تَسْتعملُ العربُ " أَوْلَى " فقط على جهةِ الحذفِ والاختصارِ لِما معها من القول فتقول : أَوْلَى لك يا فلانُ على جهةِ الزَّجْرِ والوعيد " انتهى .

وقال أبو البقاء : " أَوْلَى مؤنثة أَوْلات " وفيه نظر لأن ذلك إنما يكون في التذكير والتأنيث الحقيقيَيْن ، أمَّا التأنيثُ اللفظيُّ فلا يُقال فيه ذلك . وسيأتي له مزيدُ بيانٍ في سورة القيامة إنْ شاء الله .