ثم ذكر - سبحانه - الناس بنعمة أخرى من نعمه التى لا تحصى فقال : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ } .
أى : ولقد علمت - أيضا - وشاهدت - أيها العاقل - حال السفن ، وهى تجرى فى البحر ، بمشيئة الله وقدرته ، وبلطفه ورحمته وإحسانه . ليطلعكم على بعض آياته الدالة على باهر قدرته ، وسمو حكمته وسابغ نعمته .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } الذى شاهدتموه وانتفعتم به من السفن وغيرها { لآيَاتٍ } واضحات على قدرة الله - تعالى - ورحمته لعباده { لِّكُلِّ صَبَّارٍ } أى : لكل إنسان كثير الصبر { شَكُورٍ } . أى : كثير الشكر لله - تعالى - على نعمه ورحمته .
( ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته ? إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور . وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ، فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ، وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ) . .
والفلك تجري في البحر وفق النواميس التي أودعها الله البحر والفلك والريح والأرض والسماء . فخلقة هذه الخلائق بخواصها هذه هي التي جعلت الفلك تجري في البحر ولا تغطس أو تقف . ولو اختلت تلك الخواص أي اختلال ما جرت الفلك في البحر . لو اختلت كثافة الماء أو كثافة مادة الفلك . لو اختلت نسبة ضغط الهواء على سطح البحر . لو اختلت التيارات المائية والهوائية . لو اختلت درجة الحرارة عن الحد الذي يبقي الماء ماء ، ويبقي تيارات الماء والهواء في الحدود المناسبة . . لو اختلت نسبة واحدة أي اختلال ما جرت الفلك في الماء ، وبعد ذلك كله يبقى أن الله هو حارس الفلك وحاميها فوق ثبج الأمواج وسط العواصف والأنواء ، حيث لا عاصم لها إلا الله . فهي تجري بنعمة الله وفضله على كل حال . ثم هي تجري حاملة نعمة الله وفضله كذلك . والتعبير يشمل هذا المعنى وذاك : ( ليريكم من آياته ) . . وهي معروضة للرؤية ، يراها من يريد أن يرى ؛ وليس بها من غموض ولا خفاء . . ( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) . . صبار في الضراء ، شكور في السراء ؛ وهما الحالتان اللتان تتعاوران الإنسان .
ولكن الناس لا يصبرون ، ولا يشكرون ، إنما يصيبهم الضر فيجأرون ، وينجيهم الله من الضر فلا يشكر منهم إلا القليل :
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللّهِ لِيُرِيَكُمْ مّنْ آيَاتِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ألم تر يا محمد أن السفن تجري في البحر نعمة من الله على خلقه لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ يقول : ليريكم من عبره وحججه عليكم إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ يقول : إن في جري الفلك في البحر دلالة على أن الله الذي أجراها هو الحقّ ، وأنّ ما يدعون من دونه الباطللكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ يقول : لكلّ من صبر نفسه عن محارم الله ، وشكره على نعمه فلم يكفره .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قال : كان مطرف يقول : إنّ من أحبّ عباد الله إليه : الصبّار الشّكور .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، قال : الصبر نصف الإيمان ، والشكر نصف الإيمان ، واليقين : الإيمان كله ، ألم تر إلى قوله : إنّ فِي ذلك لاَياتٍ لكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ ، إنّ في ذلكَ لاَياتٍ للْمُوقِنينَ إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ للْمُؤْمِنينَ .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لكُلّ صَبّارٍ شَكُور قال : الصبر : نصف الإيمان ، واليقين : الإيمان كله .
إن قال قائل : وكيف خصّ هذه الدلالة بأنها دلالة للصبّار الشّكور دون سائر الخلق ؟ قيل : لأنّ الصبر والشكر من أفعال ذوي الحجى والعقول ، فأخبر أن في ذلك لاَيات لكلّ ذي عقل ، لأن الاَيات جعلها الله عبرا لذوي العقول والتمييز .
{ ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله } بإحسانه في تهيئة أسبابه وهو استشهاد آخر على باهر قدرته وكمال حكمه وشمول إنعامه والباء للصلة أو الحال ، وقرئ { الفلك } بالتثقيل و " بنعمات الله " بسكون العين ، وقد جوز في مثله الكسر والفتح والسكون . { ليريكم من آياته } دلائله . { إن في ذلك لآيات لكل صبار } على المشاق فيتعب نفسه بالتفكير في الآفاق والأنفس . { شكور } يعرف النعم ويتعرف مانحها ، أو للمؤمنين فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر .
الرؤية في قوله { ألم تر } رؤية العين يتركب عليها النظر والاعتبار ، والمخاطب محمد صلى الله عليه وسلم والمراد الناس أجمع ، و { الفلك } جمع وواحد بلفظ واحد ، وقرأ موسى بن الزبير «الفلُك » بضم اللام ، وقوله { بنعمة الله } يحتمل أن يريد ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق والتجارات ، فالباء للأرزاق ، ويحتمل أن يريد الريح وتسخير الله البحر ونحو هذا ، فالباء باء السبب ، وقرأ الجمهور «بنعمة » ، وقرأ الأعرج ويحيى بن يعمر «بنعمات » على الجمع ، وقرأ ابن أبي عبلة «بنَعِمات » بفتح النون وكسر العين ، وذكر تعالى من صفة المؤمن «الصبار » و «الشكور » لأنهما عظم أخلاقه الصبر على الطاعات وعلى النوائب وعلى الشهوات ، والشكر على الضراء والسراء ، وقال الشعبي الصبر نصف الإيمان والشكر نصفه الآخر ، واليقين الإيمان كله .