ثم ساق - سبحانه - آية خامسة فقال : ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا .
أى : ومن آياته - سبحانه - الدالة على قدرته ، أنه يريكم البرق ، فتارة تخافون مما يحدث بعده من صواعق متلفة ، وأمطار مزعجة ، وتارة ترجون من ورائه المطر النافع ، والغيب المدرار .
وانتصاب " خوفا وطمعا " على أنهم مفعول لأجله ، أى : يريكم ذلك من أجل الخوف والطمع ، إذ بهما يعيش المؤمن حياته بين الخوف والرجاء ، فلا يبطر ولا ييأس من رحمة الله . { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مَآءً } كثيرا { فَيُحْيِي بِهِ } أى : بسبب هذا الماء { الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } أى : بأن يحولها من أرض جدباء هامدة إلى أرض خضراء زاخرة بالنبات { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } هذه الإِرشادات ، ويستعملون عقولهم فى الخير لا فى الشر ، وفى الحق لا فى الباطل ، وفى استنباط المعانى الدالة على كمال قدرة الله - تعالى - ورحمته .
( ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا ، وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) . .
وظاهرة البرق ظاهرة ناشئة من النظام الكوني ؛ ويعللها بعضهم بأنها تنشأ من انطلاق شرارة كهربائية بين سحابتين محملتين بالكهرباء ، أو بين سحابة وجسم أرضي كقمة جبل مثلا . ينشأ عنها تفريغ في الهواء يتمثل في الرعد الذي يعقب البرق . وفي الغالب يصاحب هذا وذلك تساقط المطر نتيجة لذلك التصادم . وأيا ما كان السبب فالبرق ظاهرة ناشئة عن نظام هذا الكون كما خلقه البارىء وقدره تقديرا .
والقرآن الكريم حسب طبيعته لا يفصل كثيرا في ماهية الظواهر الكونية وعللها ؛ إنما يتخذ منها أداة لوصل القلب البشري بالوجود وخالق الوجود . ومن ثم يقرر هنا أنها آية من آيات الله أن يريهم البرق ( خوفا وطمعا ) . . وهما الشعوران الفطريان اللذان يتعاوران النفس البشرية أمام تلك الظاهرة . شعور الخوف من الصواعق التي تحرق الناس والأشياء أحيانا عندما يبرق البرق . أو الخوف الغامض من رؤية البرق وما يوقعه في الحس من الشعور بالقوة المصرفة لهيكل هذا الكون الهائل . وشعور الطمع في الخير من وراء المطر الذي يصاحب البرق في معظم الأحوال ؛ والذي عقب بذكره في الآية بعد ذكر البرق : ( وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها ) . .
والتعبير بالحياة والموت بالقياس إلى الأرض تعبير يخيل أن الأرض كائن حي ، يحيا ويموت . وإنها لكذلك في حقيقتها التي يصورها القرآن الكريم . فهذا الكون خليقة حية متعاطفة متجاوبة ، مطيعة لربها خاضعة خاشعة ، ملبية لأمره مسبحة عابدة . والإنسان الذي يدب على هذا الكوكب الأرضي واحد من خلائق الله هذه ، يسير معها في موكب واحد متجه إلى الله رب العالمين .
ذلك كله بالإضافة إلى أن الماء حين يصيب الأرض ، يبعث فيها الخصب ، فتنبت الزرع الحي النامي ؛ وتموج صفحتها بالحياة المنبثقة في هذا النبات . ومن ثم في الحيوان والإنسان . والماء رسول الحياة فحيث كان تكون الحياة .
( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) . . فهنا للعقل مجال للتدبر والتفكير .
يقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ } الدالة على عظمته أنه { يُرِيكُمُ الْبَرْقَ [ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي : ] {[22803]} تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة ، أو صواعق متلفة ، وتارة ترجون وَمِيضَه وما يأتي بعده من المطر المحتاج إليه ؛ ولهذا قال : { وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : بعدما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء ، فلما جاءها الماء { اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] . وفي ذلك عبرة ودَلالَة واضحة على المعاد وقيام الساعة ؛ ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزّلُ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن حججه يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفا لكم إذا كنتم سفرا ، أن تمطروا فتتأذّوا به وطَمَعا لكم ، إذا كنتم في إقامة أن تمطروا ، فتحيوا وتخصبوا وَيُنَزّلُ منَ السّماءِ ماءً يقول : وينزّل من السماء مطرا ، فيحيي بذلك الماء الأرض الميتة ، فتنبت ويخرج زرعها بعد موتها ، يعني جدوبها ودروسها إن فِي ذلكَ لاَياتٍ يقول : إن في فعله ذلك كذلك لعبرا وأدلة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عن الله حججه وأدلته . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفا وَطَمَعا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، في قوله وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفا وَطَمَعا قال : خوفا للمسافر ، وطمعا للمقيم .
واختلف أهل العربية في وجه سقوط «أن » في قوله : يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفا وَطَمَعا فقال بعض نحويي البصرة : لم يذكر ههنا «أن » لأن هذا يدلّ على المعنى وقال الشاعر :
ألا أيّهَذَا الزّاجِرِي أحْضُرَ الوَغَى *** وأنْ أشْهَدَ اللّذّاتِ هَل أنْتَ مُخْلِدي
لَوْ قُلْتُ ما فِي قَوْمِها لَمْ تِيتَم *** يَفْضُلُها في حَسَبٍ وَمِيسمِ
وقال : يريد : ما في قومها أحد . وقال بعض نحويي الكوفيين : إذا أظهرت «أن » فهي في موضع رفع ، كما قال : وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنَامُكُمْ فإذا حذفت جعلت «من » مؤدّية عن اسم متروك ، يكون الفعل صلة ، كقول الشاعر :
وَما الدّهْرُ إلاّ تارَتانِ فَمِنْهُما *** أموتُ وأُخْرَى أبْتَغي العَيْشَ أكْدحُ
كأنه أراد : فمنهما ساعة أموتها ، وساعة أعيشها ، وكذلك : ومن آياته يريكم آية البرق ، وآية لكذا ، وإن شئت أردت : ويريكم من آياته البرق ، فلا تضمر «أن » ولا غيره . وقال بعض من أنكر قول البصري : إنما ينبغي أن تحذف «أن » من الموضع الذي يدلّ على حذفها ، فأما في كلّ موضع فلا ، فأما مع أحضر الوغى فلما كان زجرتك أن تقوم ، وزجرتك لأن تقوم ، يدلّ على الاستقبال جاز حذف «أن » ، لأن الموضع معروف لا يقع في كلّ الكلام ، فأما قوله : ومن آياته أنك قائم ، وأنك تقوم ، وأن تقوم ، فهذا الموضع لا يحذف ، لأنه لا يدلّ على شيء واحد .
والصواب من القول في ذلك أن «من » في قوله وَمِنْ آياتِهِ تدل على المحذوف ، وذلك أنها تأتي بمعنى التبعيض . وإذا كانت كذلك ، كان معلوما أنها تقتضي البعض ، فلذلك تحذف العرب معها الاسم لدلالتها عليه .