اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ يُرِيكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَيُحۡيِۦ بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (24)

قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً } لما ذكر العرضيات اللازمة للأنفس المفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق .

قوله : «يُريكُمُ البَرْق » فيه أوجه أظهرها : الموافق لأخواته{[41928]} أن يكون جملة اسمية من مبتدأ وخبر إلا أنه حذف الحرف المصدري ، ولما حذف بطل عمله والأصل : ومن آياته أن يُرِيَكُمْ ، كقوله :

4038 - أَلاَّ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى *** . . . . . . . . . . . . . . . {[41929]}

الثاني : أن «من آياته » متعلق{[41930]} «بيريكم » أو بمحذوف على أنه حال من البَرْقِ . والتقدير «يريكم البرق من آياته » فيكون قد عطف جملة فعليةً على جملة اسمية .

والثالث : أن «يريكم » صفة لموصوف محذوف أي ومن آياته ( آية{[41931]} ) يريكم البرق بها أو فيها البرق فحذف الموصوف والعائد عليه ومثله :

4039 - وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا{[41932]} *** أموت . . . . . . . . . . . . . {[41933]}

أي منهما تارة أموت منها .

الرابع : أن التقدير : ومن آياته سحابٌ أو شيءٌ يريكم ؛ فيريكم صفة لذلك المقدر ، وفاعل «يريكم » ضمير يعود عليه{[41934]} بخلاف الوجه قبله ، فإن الفاعل ضمير الباري تعالى .

فصل :

المعنى يريكم البرقَ خوفاً للمسافرين من الصواعق ، وطمعاً للمقيمين في المطر وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون } .

فصل :

قدم لوازم الأنفس على العوارض المفارقة ( حيث{[41935]} ذكر أولاً اختلاف الألسنة{[41936]} والألوان ثم المنام والابتغاء ، وقدم في الآفاق العارضة المفارقة ) على اللوازم حيث قال : { يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ عليكم } وذلك لأن الإنسان متغير الحال{[41937]} ، فالعوارض فيها أغرب من اللوازم فقدم ما هو عجيب لكونه أدخلَ في كونهِ «آيةً » فإن الإنسان يتغير حاله بالكبر والصغر والصحة والسقم فله صوت يعرف به لا يتغير وله لون يتميز به عن غيره ، وهو متغير{[41938]} بذلك في الأحوال وذلك لا يتغير وهو آية عجيبة والسماء ( والأرض{[41939]} ) ثابتان لا يتغيران ثم نرى في بعض الأحوال أمطاراً هاطلةً ، وبُرُوقاً هائِلةً والسماء كما كانت والأرض كما كانت وذلك آية تدل على فاعل مختار يديم أمراً مع تغير المحلِّ ويُزِيل أمراً مع ثبات المحلِّ .

فصل :

كما قدم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافعَ كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة وهي أن البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كِنّ{[41940]} يخاف الابتلال فيستعد له ، والذي له صهْريج{[41941]} ، أو مصنع يحتاج إلى الماء أو زرع يسوي مجاري الماء ، وأيضاً أهل البوادي{[41942]} لا يعلمون أن البلاد عشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروقَ اللائحة من جانبٍ دُونَ جانبٍ ، واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمُقِيمينَ في البلاد فهي ظاهرة للبادين فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية .

فصل :

أما كونه آيةً فلأن الذي في السحاب ليس إلا ماءً وهواءً وخروج النار{[41943]} منهما بحيث يحرق الجبال في غاية البعد فلا بد له من خالق وهو الله . وقالت الفلاسفة : السحاب فيه كثافة ولطافة بالنسبة إلى الهواء أو الماء فالهَوَى{[41944]} ألطف منه والماء أكثف فإذا هبت الريحُ قويةً تحرك السحابُ فيَحْدُثُ صوت الرعد وتخرج منه النار ، كما أن النار تخرج من وَقْعِ الحَجَر على الحَديد فإن قيل : الحديد والحجر جسمان صُلْبَان ، والسحاب والريح جسمان ( لَينانِ{[41945]} ) ( فنقول{[41946]} لكن حركة يد الإنسان ضعيفة ، وحركة الريح قوية تقلع الأشجار ) فنقول لهم الرعد والبرق ( أَمْرانِ{[41947]} ) حادثان لا بد لهما من مسبِّب ، وقد{[41948]} علم بالبرهان كونُ كلِّ حادث ( فهما ){[41949]} من الله ثم نقول : ( هب{[41950]} ) أن الأمر كما يقولون فهبوب تلك الريح القوية من الأمور الحادثة العجيبة فلا بد لها من سبب{[41951]} وينتهي إلى واجب الوجود فهو آية للعاقل على قدرة الله كَيْفَمَا فَرَضْتُمْ .

فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا : { آيات لقوم يعقلون } وقوله فيما تقدم : «لقوم يتفكرون ؟ » فالجواب :

لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أن ذلك بالطبيعة لأن المطرد أقرب إلى{[41952]} الطبيعة ( من ){[41953]} المختلف ، والبرق والمطر ليس أمراً مطرداً ( غير مختلف{[41954]} ) بل يختلف إذ يقع ببلدة دون بلدة وفي وقت دون وقت ، وتارة يكون قوياً{[41955]} ، وتارة يكون ضعيفاً فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار ، فقال هو آية لمن له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً .


[41928]:في "ب" الموافق إخوانه وانظر في ذلك التفسير الكبير للإمام الفخر 25/112 و 113.
[41929]:هذا صدر بيت من الطويل للشاعر طرفة بن العبد من معلقته المعروفة عجزه: وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي في هذا البيت يزجر من يعيب عليه لهوه، والشاهد: حذف "أن" ونصب الفعل وهذا على قول الكوفيين بمن فيهم الفراء قائلين إن ذلك ضرورة، وفيه شاهد آخر وهو رفع الفعل وهو "أحضر" بحذف الناصب وتعريه منه والمعنى لأن أحضر وهو المراد هنا وانظر: البيان 2/250، ومعاني القرآن للفراء 2/323 ومعاني القرآن للزجاج 1/139 والسبع الطوال لابن الأنباري 192 والمقتضب 2/134 والمسائل العسكرية 202، والمقتصد 79، والتصريح 2/245 والهمع 1/6 ومجالس ثعلب 317 والبيان- أيضاً- لابن الأنباري 1/101 والخزانة 1/119 والديوان "32" والحماسة البصرية 1/270.
[41930]:في "ب" يتعلق.
[41931]:ساقط من "ب".
[41932]:في "ب" مادتان على رواية في البيت.
[41933]:تمامه: وأخرى أبتغي العيش أكدح وقد تقدم. والبيت من الطويل، وقائله تميم من مقبل، وشاهده: حذف الموصوف وإبقاء صفته لدلالة ما قبله عليه والأصل: وتارة أموت فيها وتارة أخرى أكدح فيها انظر: ديوانه (24) والكتاب 2/346 ومعاني الفراء 2/323 والقرطبي 14/18 والمقتضب 2/136 والهمع 2/120 والمحتسب 1/212 والطبري 21/22 والخزانة 5/55-59 والكامل 3/179 ومعاني القرآن للزجاج 2/248 و 4/182. وانظر في إعراب هذا الوجه وما قبله الدر المصون 4/320 والتبيان 1038 و 1039 والبيان 2/250.
[41934]:انظر هذا الوجه في الدر المصون 4/320 والتبيان 1039.
[41935]:من هنا ساقط من "ب".
[41936]:ساقط من "ب".
[41937]:في تفسير الفخر الرازي: والعوارض له غير بعيدة، وأما اللوازم فيه فقريبة.
[41938]:في "ب" يتغير.
[41939]:ساقط من "ب".
[41940]:الكنّ مفرد الكنون وهو البيت اللسان "ك ن ن" 942.
[41941]:واحد الصهاريج وهي كالحياض يجتمع فيها الماء، اللسان "صَ هـْ رَ جَ" 2516.
[41942]:في "ب" الوادي.
[41943]:في "ب" المياه.
[41944]:الهواء وهو الأصح في "ب".
[41945]:ساقط من "ب".
[41946]:ساقط كله أيضاً من "ب".
[41947]:ساقط من "ب".
[41948]:انظر الفخر الرازي 25/114.
[41949]:زيادة من "ب".
[41950]:ساقط من "ب".
[41951]:في "ب" نسب.
[41952]:في "ب" من.
[41953]:ساقط من "ب".
[41954]:ساقط من "ب".
[41955]:في "ب" قريباً.