21- ومن شأن الناس أننا إذا أنعمنا عليهم ، من بعد شدة أصابتهم في أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم ، لم يشكروا الله على ما أنعم به عليهم بعد صرف الضر عنهم ، بل هم يقابلون ذلك بالإمعان في التكذيب والكفر بالآيات . قل - أيها الرسول - : إن الله قادر على إهلاككم والإسراع بتعذيبكم ، لولا حكم سابق منه بإمهالكم إلى موعد اختص - وحده - بعلمه . إن رسلنا من الملائكة الموكلين بكم يكتبون ما تمكرون ، وسيحاسبكم ويجازيكم .
وبعد أن ساقت السورة الكريمة جانبا من أقوال الذين لا يرجون لقاء الله ومن مقترحاتهم الباطلة ومن معتقداتهم الفاسدة ، أتبعت ذلك بتصوير بعض الطبائع البشرية تصويرا صادقا يكشف عن أحوال النفوس في حالتي السراء والضراء فقال - تعالى - :
{ وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ . . . } .
قوله { أَذَقْنَا } من الذوق وحقيقته إدراك الطعام ونحوه بالذوق باللسان واستعمل هنا على سبيل المجاز في إدراك ما يسر وما يؤلم من المعنويات كالرحمة والضراء .
قال الآلوسى " والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل ، لما روى من أن الله - تعالى - سلط عليهم القحط سبع سنين ، حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه أن يدعو لهم بالخصب ، ووعدوه بالإِيمان ، فلما دعا لهم ورحمهم الله - تعالى - بالمطر ، طفقوا يطعنون وفى آياته - تعالى - ويعاندون نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
وقيل : " إن الناس عام لجميع الكفار " .
والضراء من الضر ، وهو ما يصيب الإِنسان وفى نفسه من أمراض وأسقام .
والمكر : هو التدبير الخفي الذي يفضي بالممكور به إلى ما لا يتوقعه من مضرة وكيد .
والمعنى : وإذا أذقنا الناس منا رحمة كأن منحناهم الصحة والسعادة والغني من بعد ضراء أصابتهم وفى أنفسهم أو فيمن يحبون ، ما كان منهم إلا بالمبادرة إلى الطعن وفى آياتنا الدالة على قدرتنا ، والاستهزاء بها والتهوين من شأنها .
وأسند إذاقته الرحمة إلى ضمير الجلالة ، وأسند المساس إلى الضراء ، رعاية للأدب مع الله - تعالى - ، لأنه وإن كان كل شيء من عنده ، إلا أن الأدب معه - سبحانه - يقتضي إسناد الخير إليه والشر إلى غيره كما وفى قوله - تعالى - : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وفى الحديث : " اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك " .
وإذا الأولى شرطية ، والثانية فجائية والجملة بعدها جواب الشرط .
وجاء التعبير بإذا الفجائية في الجواب ، للإِشارة إلى توغلهم وفى الجحود والكنود فهم بمجرد أن حلت النعمة بهم محل النقمة ، عادوا إلى عنادهم وجهلهم ، ونسبوا كل خير إلى غيره - تعالى - .
قال الرازي : " واعلم أنه - تعالى - ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة وفى قوله - تعالى - { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ . . . } إلا أنه - تعالى - زاد وفى هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها وفى تلك الآية ، وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة .
وفى الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر .
وقوله : { قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } أمر من الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يرد عليهم بما يبطل مكرهم .
أى : قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين الذين يسرعون بالمكر وفى مقام الشكر ، إن الله - تعالى - أسرع مكراً منكم ؛ لأنه لا يخفى عليه بشيء من مكركم ، ولأن الحفظة من الملائكة يسجلون عليكم أقوالكم وأفعالكم ، التي ستحاسبون عليها وفى يوم القيامة حساباً عسيراً ، وسترون أن مكركم السيء لا يحيق إلا بكم .
وقوله : { أَسْرَعُ } أفعل تفضيل من الفعل الثلاثي سرع - كضخم وحسن - ، أو من الفعل الرباعي " أسرع " عند من يرى ذلك .
والجملة الكريمة تحقيق للانتقام منهم . وتنبيه على أن مكرهم الخفي غير خاف الحفظة من الملائكة فضلا عن الخالق - عز وجل - الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .
وسمى - سبحانه - إنكارهم لآياته واستهزاءهم بها مكراً ، لأنهم كانوا كثيراً ما يتجمعون سراً ، ليتشاوروا وفى المؤامرات التي يعرقولن بها سير الدعوة الإِسلامية ، وفى الشبهات التي يوجهونها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وحين ينتهي السياق من عرض ما يقول المستخلفون وما يفعلون ، يعود إلى الحديث عن بعض طبائع البشر ، حين يذوقون الرحمة بعد الضر . كما تحدث من قبل عنهم حين يصيبهم الضر ثم ينجون منه . ويضرب لهم مثلا مما يقع في الحياة يصدق ذلك ، فيقدمه في صورة مشهد قوي من مشاهد القرآن التصويرية :
( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ، إذا لهم مكر في آياتنا . قل : الله أسرع مكراً ، إن رسلنا يكتبون ما تمكرون . هو الذي يسيركم في البر والبحر ، حتى إذا كنتم في الفلك ، وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ، وجاءهم الموج من كل مكان ، وظنوا أنهم أحيط بهم ، دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق . يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) . .
عجيب هذا المخلوق الإنساني لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة ، ولا يثوب إلى فطرته وينزع عنها ما غشاها من شوائب وانحرافات إلا في ساعة الكربة . فإذا أمن فإما النسيان وإما الطغيان . . ذلك إلا من اهتدى فبقيت فطرته سليمة حية مستجيبة في كل آن ، مجلوة دائما بجلاء الإيمان
( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ، إذا لهم مكر في آياتنا ) . .
كذلك صنع قوم فرعون مع موسى . فكلما أخذوا بعذاب استغاثوا به ووعدوا بالعدول عما هم فيه . فإذا ذاقوا الرحمة مكروا في آيات الله وأولوها على غير وجهها ، وقالوا : إنما رفع عنا الرجز بسبب كذا وكذا . . وكذلك صنعت قريش وقد أجدبت وخافت الهلاك ، فجاءت محمدا تناشده الرحم أن يدعو الله فدعاه فاستجاب له بالسقيا ، ثم مكرت قريش بآية الله وظلت فيما هي فيه ! وهي ظاهرة مطردة في الإنسان ما لم يعصمه الإيمان .
( قل : الله أسرع مكرا . إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ) . .
فالله أقدر على التدبير وإبطال ما يمكرون . ومكرهم مكشوف لديه ومعروف ، والمكر المكشوف إبطاله مضمون :
( إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ) . .
فلا شيء منه يخفى ، ولا شيء منه ينسى . أما من هم هؤلاء الرسل وكيف يكتبون ، فذلك غيب من الغيب الذي لا نعرف عنه شيئا إلا من مثل هذا النص ، فعلينا أن ندركه دون ما تأويل ولا إضافة لدلالة اللفظ الصريح .
يخبر{[14142]} تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ، كالرخاء بعد الشدة ، والخصب{[14143]} بعد الجدب ، والمطر بعد القحط ونحو ذلك { إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا } .
قال مجاهد : استهزاء وتكذيب . كما قال : { وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [ يونس : 12 ] ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح على{[14144]} أثر سماء - مطر{[14145]} - أصابهم{[14146]} من الليل ثم قال : " هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ " قالوا{[14147]} الله ورسوله أعلم . قال : " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مُطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب " . {[14148]} وقوله : { قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا } أي : أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب ، وإنما هو في مهلة ، ثم يؤخذ على غرة منه ، والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله ، ويحصونه عليه ، ثم يعرضون على عالم الغيب والشهادة ، فيجازيه على الحقير والجليل{[14149]} والنقير والقِطْمير .