ثم حكى - سبحانه - موقفا آخر ، من مواقفهم القبيحة ممن نصحهم وأرشدهم إلى الصواب ، فقال - تعالى - : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ . . . } .
وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : أن أبا بكر الصديق - رضى الله عنه - كان يطعم مساكين المسلمين ، فلقيه أبو جهل فقال له : يا أبا بكر : أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء ؟
قال نعم . قال : فما باله لم يطعمهم ؟ قال أبو بكر : ابتلى - سبحانه - قوما بالفقر ، وقوما بالغنى ، وأمر الفقراء بالصبر ، وأمر الأغنياء بالإِعطاء .
فقال أبو جهل : والله يا أبا بكر : إن أنت إلا فى ضلال ، أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ، ثم تطعمهم أنت . . فنزلت هذه الآية .
وقيل : كان العاصى بن وائل السهمى ، إذا سأله المسكين قال له : اذهب إلى ربك فهو أولى منى بك . ثم يقول : قد منعه الله فأطعمه أنا . .
والمعنى : وإذا قال قائل من المؤمنين لهؤلاء الكافرين : أنفقوا على المحتاجين شيئا من الخير الكثيبر الذى رزقكم الله - تعالى - إياه .
قال الكافرون - على سبيل الاستهزء والسخرية - للمؤمنين : هؤلاء الفقراء الذين طلبتهم منا أن ننفق عليهم ، لو شاء الله لأطعمهم ولأغناهم كما أغنانا .
{ إِنْ أَنتُمْ } أيها المؤمنون { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } فى أمركم لنا بالإِنفاق عليهم أو على غيرهم .
قال الشوكانى ما ملخصه : وقوله : { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ } حكاية لتهكم الكافرين ، وقد كانوا سمعوا المؤمنين يقولون : إن الرزاق هو الله ، وإنه يغنى من يشاء ، ويفقر من يشاء ، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإِلزام للمؤمنين ، وقالوا : نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله . وهذا غلط منهم ومكابرة ومجادلة بالباطل ، فإن الله - سبحانه - أغنى بعض خلقه وأفقر بعضا ، وأمر الغنى أن يطعم الفقير ، وابتلاه به فيما رغض له من ماله من الصدقة ، وقولهم : { مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ } هو وإن كان كلاما صحيحا فى نفسه ، ولكنهم لما قصدوا به الإِنكار لقدرة الله ، وإنكار جواز الأمر بالإِنفاق مع قدرة الله ، كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلا .
وقوله : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } من تتمة كلام الكفار . وقيل : هو رد من الله عليهم .
وإذا دعوا إلى إنفاق شيء من مالهم لإطعام الفقراء : قالوا ساخرين متعنتين :
( أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ? ) . .
وتطاولوا على من يدعونهم إلى البر والإنفاق قائلين :
( إن أنتم إلا في ضلال مبين ) !
وتصورهم للأمر على هذا النحو الآلي يشي بعدم إدراكهم لسنن الله في حياة العباد . فالله هو مطعم الجميع ، وهو رازق الجميع . وكل ما في الأرض من أرزاق ينالها العباد هي من خلقه ، فلم يخلقوا هم لأنفسهم منها شيئاً ، وما هم بقادرين على خلق شيء أصلاً . ولكن مشيئة الله في عمارة هذه الأرض اقتضت أن تكون للناس حاجات لا ينالونها إلا بالعمل والكد ؛ وفلاحة هذه الأرض ؛ وصناعة خاماتها ؛ ونقل خيراتها من مكان إلى مكان ، وتداول هذه الخيرات وما يقابلها من سلعة أو نقد أو قيم تختلف باختلاف الزمان والمكان . كما اقتضت أن يتفاوت الناس في المواهب والاستعدادات وفق حاجات الخلافة الكاملة في هذه الأرض . وهذه الخلافة لا تحتاج إلى المواهب والاستعدادات المتعلقة بجمع المال والأرزاق وحدها ، إنما تحتاج إلى مواهب واستعدادات أخرى قد تحقق ضرورات أساسية لخلافة الجنس الإنساني في الأرض ، بينما يفوتها جمع المال والأرزاق ويعوزها !
وفي خلال هذا الخضم الواسع لحاجات الخلافة ومطالبها ، والمواهب والاستعدادات اللازمة لها ، وما يترتب على هذه وتلك من تداول للمنافع والأرزاق ، وتصارع وتضارب في الأنصبة والحظوظ . . في خلال هذا الخضم الواسع المترابط الحلقات لا في جيل واحد ، بل في أجيال متعددة قريبة وبعيدة ، ماضية وحاضرة ومستقبلة . . في خلال هذا الخضم تتفاوت الأرزاق في أيدي العباد . . ولكي لا ينتهي هذا التفاوت إلى إفساد الحياة والمجتمع ، بينما هو ناشىء أصلاً من حركة الحياة لتحقيق خلافة الإنسان في الأرض ، يعالج الإسلام الحالات الفردية الضرورية بخروج أصحاب الثراء عن قدر من مالهم يعود على الفقراء ويكفل طعامهم وضرورياتهم . وبهذا القدر تصلح نفوس كثيرة من الفقراء والأغنياء سواء . فقد جعله الإسلام زكاة . وجعل في الزكاة معنى الطهارة . وجعلها كذلك عبادة . وألف بها بين الفقراء والأغنياء في مجتمعه الفاضل الذي ينشئه على غير مثال .
فقولة أولئك المحجوبين عن إدراك حكمة الله في الحياة : ( أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ? ) . . وتطاولهم على الداعين إلى الإنفاق بقولهم : ( إن أنتم إلا في ضلال مبين ) . . إن هو إلا الضلال المبين الحقيقي عن إدراك طبيعة سنن الله ، وإدراك حركة الحياة ، وضخامة هذه الحركة ، وعظمة الغاية التي تتنوع من أجلها المواهب والاستعدادات ، وتتوزع بسببها الأموال والأرزاق .
والإسلام يضع النظام الذي يضمن الفرص العادلة لكل فرد ، ثم يدع النشاط الإنساني المتنوع اللازم للخلافة في الأرض يجري مجراه النظيف . ثم يعالج الآثار السيئة بوسائله الواقية .
وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } أي : وإذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين { قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا } أي : عن الذين آمنوا من الفقراء ، أي : قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالإنفاق محاجين لهم فيما أمروهم به : { أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } أي : وهؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم ، لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه ، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم ، { إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : في أمركم لنا بذلك .
قال ابن جرير : ويحتمل أن يكون من قول الله للكفار حين ناظروا المسلمين{[24766]} وردوا عليهم ، فقال لهم : { إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }{[24767]} ، وفي هذا نظر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.