وقد نفذ إبراهيم ما توعد به الأصنام ، فقد انتهز فرصة ذهاب قومه بعيدا عنها فحطمها ، قال تعالى - { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } .
والفاء فى قوله : " فجعلهم " فصيحة . والجذاذ القطع الصغيرة جمع جذاذ من الجذ بمعنى القطع والكسر .
أى : فولوا مدبرين عن الأصنام فجعلها بفأسه قطعا صغيرة ، بأن حطمها عن آخرها - سوى الصنم الأكبر لم يحطمه بل تركه من غير تكسير . لعلهم إليه يرجعون فيسألونه كيف وقعت هذه الواقعة وهو حاضر ، ولم يستطع الدفاع عن إخوته الصغار ؟ ! !
ولعل إبراهيم - عليه السلام - قد فعل ذلك ليقيم لهم أوضح الأدلة على أن هذه الأصنام لا تصلح أن تكون آلهة ، لأنها لم تستطع الدفاع عن نفسها ، وليحملهم على التكفير فى أن الذى يجب أن يكون معبوداً ، إنما هو الله الخالق لكل شىء ، والقادر على كل شىء .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } لبيان وجه الكسر واستبقاء الكبير ، وضمير " إليه " عائد إلى إبراهيم ، أى : لعلهم يرجعون إلى إبراهيم ، فيحاجهم ويبكتهم .
وعن الكلبى : أن الضمير للكبير ، أى : لعلهم يرجعون إلى الكبير ، كما يرجع إلى العالم فى حل المشكلات فيقولون له : ما لهؤلاء مكسورة ، وما لك صحيحا ، والفأس فى عنقك أو فى يدك ؟ وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ، ويظهر أنهم فى عبادته على جهل عظيم . . .
( فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون ) . .
وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة . . إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم ( لعلهم إليه يرجعون ) فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغارر الآلهة ! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها ، فيرجعون إلى صوابهم ، ويدركون منه ما في عبادة هذه الأصنام من سخف وتهافت .
وعاد القوم ليروا آلهتهم جذاذا إلا ذلك الكبير ! ولكنهم لم يرجعوا إليه يسألونه ولا إلى أنفسهم يسألونها : إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئا . وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها ? لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال ، لأن الخرافة قد عطلت عقولهم عن التفكير ، ولأن التقليد قد غل أفكارهم عن التأمل والتدبر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فجعلهم جذاذا} يعني: قطعا، كقوله سبحانه: {عطاء غير مجذوذ} يعني: غير مقطوع. ثم استثنى {إلا كبيرا لهم} يعني: أكبر الأصنام، فلم يقطعه.. ثم قال: {لعلهم إليه يرجعون} يقول: إلى الصنم الأكبر يرجعون من عيدهم، فلما رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام، فإذا هي مجذوذة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"فَجَعَلَهُمْ جُذَاذا إلاّ كَبِيرا لَهُمْ"... والمجذوذة: المكسورة قِطَعا...
عن ابن عباس، قوله: "فجَعَلَهُمْ جُذَاذا "يقول: حُطاما...
وقوله: "إلاّ كَبِيرا لَهُمْ "يقول: إلا عظيما للآلهة، فإن إبراهيم لم يكسره...
"وقوله لَعَلّهُمْ إلَيْهِ يَرْجِعُونَ" يقول: فعل ذلك إبراهيم بآلهتهم ليعتبروا ويعلموا أنها إذا لم تدفع عن نفسها ما فعل بها إبراهيم، فهي من أن تدفع عن غيرها من أراده بسوء أبعد، فيرجعوا عما هم عليه مقيمون من عبادتها إلى ما هو عليه من دينه وتوحيد الله والبراءة من الأوثان.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وجائز أن يكون قوله: {لعلهم إليه يرجعون} أي يرجعون إلى ما يريد أن يكيد لهم في أصنامهم، لأنه إنما يريد أن يكيد لهم إذا رجعوا إلى الأصنام، فرأوها مجذوذة.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
وقيل: لعلّهم إليه يرجعون فيسألونه.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{لعلهم إليه} إلى إبراهيم ودينه {يرجعون} إذا قامت الحجة عليهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه، لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم، فيبكتهم بما أجاب به من قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْألُوهُمْ}. وعن الكلبي {إِلَيْهِ} إلى كبيرهم. ومعنى هذا: لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً...؟ قال هذا بناء على ظنه بهم، لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها. أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالاً، وأن قياس حال من يسجد له ويؤهله للعبادة أن يرجع إليه في حل كل مشكل. فإن قلت: فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم، فأي فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه غرضاً؟ قلت: إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر، وظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم.
...المسألة الرابعة: إن قيل أولئك الأقوام إما أن يقال إنهم كانوا عقلاء أو ما كانوا عقلاء؛ فإن كانوا عقلاء وجب أن يكونوا عالمين بالضرورة أن تلك الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، فأي حاجة في إثبات ذلك إلى كسرها؟ أقصى ما في الباب أن يقال: القوم كانوا يعظمونها كما يعظم الواحد منا المصحف والمسجد والمحراب، وكسرها لا يقدح في كونها معظمة من هذا الوجه. وإن قلنا: إنهم ما كانوا عقلاء، وجب أن لا تحسن المناظرة معهم ولا بعثة الرسل إليهم. الجواب: أنهم كانوا عقلاء وكانوا عالمين بالضرورة أنها جمادات، ولكن لعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تماثيل الكواكب، وأنها طلسمات موضوعة بحيث أن كل من عبدها انتفع بها، وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد، ثم إن إبراهيم عليه السلام كسرها مع أنه ما ناله منها البتة ضرر، فكان فعله دالا على فساد مذهبهم من هذا الوجه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانوا في غاية التعظيم لأصنامهم لرسوخ أقدامهم في الجهل، لم يقع في أوهامهم قط أن إبراهيم عليه السلام يقدم على ما قال، وعلى تقدير إقدامه الذي هو عندهم من قبيل المحال لا يقدر على ذلك، فتولوا إلى عيدهم، وقصد هو ما كان عزم عليه فشمر في إنجازه تشميراً يليق بتعليقه اليمين بالاسم الأعظم {فجعلهم} أي عقب توليهم {جذاذاً} قطعاً مهشمة مكسرة مفتتة، من الجذ وهو القطع {إلا كبيراً} واحداً {لهم} أي للأصنام أو لعبادها فإنه لم يكسر... {لعلهم} أي أهل الضلال {إليه} وحده {يرجعون} عند إلزامه لهم بالسؤال فتقوم عليهم الحجة، إذ لو ترك غيره معه لربما زعموا أن كلاًّ يكل الكلام إلى الآخر عند السؤال لغرض من الأغراض.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ ْ} أي إلا صنمهم الكبير، فإنه تركه لمقصد سيبينه، وتأمل هذا الاحتراز العجيب، فإن كل ممقوت عند الله، لا يطلق عليه ألفاظ التعظيم، إلا على وجه إضافته لأصحابه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب إلى ملوك الأرض المشركين يقول:"إلى عظيم الفرس" "إلى عظيم الروم "ونحو ذلك، ولم يقل "إلى العظيم" وهنا قال تعالى: {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ ْ} ولم يقل "كبيرا من أصنامهم" فهذا ينبغي التنبيه له، والاحتراز من تعظيم ما حقره الله، إلا إذا أضيف إلى من عظمه. وقوله: {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ْ} أي ترك إبراهيم تكسير صنمهم هذا لأجل أن يرجعوا إليه، ويستملوا حجته، ويلتفتوا إليها، ولا يعرضوا عنها؛ ولهذا قال في آخرها: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وتحولت الآلهة المعبودة إلى قطع صغيرة من الحجارة والأخشاب المهشمة.. إلا كبير الأصنام فقد تركه إبراهيم (لعلهم إليه يرجعون) فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار الآلهة! ولعلهم حينئذ يراجعون القضية كلها، فيرجعون إلى صوابهم، ويدركون منه ما في عبادة هذه الأصنام من سخف وتهافت. وعاد القوم ليروا آلهتهم جذاذا إلا ذلك الكبير! ولكنهم لم يرجعوا إليه يسألونه ولا إلى أنفسهم يسألونها: إن كانت هذه آلهة فكيف وقع لها ما وقع دون أن تدفع عن أنفسها شيئا. وهذا كبيرها كيف لم يدفع عنها؟ لم يسألوا أنفسهم هذا السؤال، لأن الخرافة قد عطلت عقولهم عن التفكير، ولأن التقليد قد غل أفكارهم عن التأمل والتدبر.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الضميران البارزان في {جعلهم} وفي {لهم} عائدان إلى الأصنام بتنزيلها منزلة العاقل، وضمير {لعلهم} عائد إلى قوم إبراهيم، والقرينة تصرف الضمائر المتماثلة إلى مصارفها مثل ضميري الجمع في قوله تعالى {وعمروها أكثر مما عمروها} [الروم: 9].
والجُذاذ بضم الجيم في قراءة الجمهور: اسم جمع جُذاذة، وهي فُعالة من الجذّ، وهو القطع مثل قُلامة وكُناسة، أي كسرهم وجعلهم قطعاً...
ومعنى {لعلهم إليه يرجعون} رجاء أن يرجع الأقوام إلى استشارة الصنم الأكبر ليخبرهم بمن كسر بقية الأصنام لأنه يعلم أن جهلهم يطمعهم في استشارة الصنم الكبير. ولعل المراد استشارة سدنته ليخبروهم بما يتلقونه من وحيه المزعوم.
وضمير {لهم} عائد إلى الأصنام من قوله {أصنامكم} [الأنبياء: 57]. وأجري على الأصنام ضمير جمع العقلاء محاكاة لمعنى كلام إبراهيم لأن قومه يحسبون الأصنام عقلاء، ومثله ضمائر قوله بعده {بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} [الأنبياء: 63].
وهذا العمل الذي عمله إبراهيم عمله بعد أن جادل أباه وقومه في عبادة الأصنام والكواكب ورأى جماحهم عن الحجة الواضحة كما ذكر في سورة الأنعام.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
"الفاء" مبينة نوع الكيد،... وقوله: {لعلهم إليه يرجعون} تعبير للتهكم عليهم والسخرية بآلهتهم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أي قطعاً مكسورة من الجذ وهو كسر الشيء وتفتيته، {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} وهو الصنم الأكبر، {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} في إيحاء خفي بأنه هو الذي صنع ذلك على أساس ما يعتقدونه فيه من سر القدرة التي تخوّله القيام بما يشاء، كما يصنع الإله في حركة الحياة. فقد يفكرون بهذه الطريقة فيرجعون إلى الصنم الأكبر ليسألوه، فلا يملك جواباً، فيدفعهم ذلك إلى التفكير في الاتجاه السلبي لإعادة النظر في العقيدة الوثنية، أو يرجعون إلى إبراهيم ليتهموه ويناقشوه، فيكون ذلك وسيلة لإثارة الحديث معهم حول سلبيات المسألة، أو لعلهم يرجعون إلى الله بالعبادة عندما يكتشفون أن هذه الأصنام لا يمكن أن تكون آلهة. ولعل الأول أقرب، لأن الظاهر أن هدف إبراهيم هو أن يوحي إليهم باتهامه في ظاهر الكلام، ليقودهم إلى الصدمة الفكرية التي تهز قناعاتهم حول الموضوع.