البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَجَعَلَهُمۡ جُذَٰذًا إِلَّا كَبِيرٗا لَّهُمۡ لَعَلَّهُمۡ إِلَيۡهِ يَرۡجِعُونَ} (58)

الجذ : القطع .

قال الشاعر :

بنو المهلب جذ الله دابرهم *** أمسوا رماداً فلا أصل ولا طرف

وفي الكلام حذف تقديره فتولوا إلى عيدهم فأتى إبراهيم الأصنام { فجعلهم جذاذاً } قال ابن عباس : حطاماً .

وقال الضحاك : أخذ من كل عضوين عضواً .

وقيل : وكانت الأصنام مصطفة وصنم منها عظيم مستقبل الباب من ذهب وفي عينيه درتان مضيئتان ، فكسرها بفأس إلا ذلك الصنم وعلق الفأس في عنقه .

وقيل : علقه في يده .

وقرأ الجمهور { جُذاذاً } بضم الجيم والكسائي وابن محيصن وابن مقسم وأبو حيوة وحميد والأعمش في رواية بكسرها ، وابن عباس وأبو نهيك وأبو السماك بفتحها وهي لغات أجودها الضم كالحطام والرفات قاله أبو حاتم .

وقال اليزيدي { جذاذاً } بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة .

وقيل : بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام .

وقيل : الفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود فالمعنى مجذوذين .

وقال قطرب في لغاته الثلاث هو مصدر لا يثنى ولا يجمع .

وقرأ يحيى بن وثاب : جذاذاً بضمتين جمع جذيذ كجديد وجدد .

وقرىء جُذَذاً بضم الجيم وفتح الذال مخففاً من فعل كسر وفي سرر جمع سرير وهي لغة لكلب ، أو جمع جذة كقبة وقبب .

وأتى بضمير من يعقل في قوله { فجعلهم } إذ كانت تعبد وقوله { إلا كبيراً لهم } استثناء من الضمير في { فجعلهم } أي فلم يكسره ، والضمير في { لهم } يحتمل أن يعود على الأصنام وأن يعود على عباده ، والكبر هنا عظم الجثة أو كبيراً في المنزلة عندهم لكونهم صاغوه من ذهب وجعلوا في عينيه جوهرتين تضيئان بالليل ، والضمير في { إليه } عائد على إبراهيم أي فعل ذلك ترجياً منه أن يعقب ذلك رجعه إليه وإلى شرعه .

قال الزمخشري : وإنما استبقى الكبير لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما تسامعوه من إنكار لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بما أجاب به من قوله { بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم } وقال ابن عطية : يحتمل أن يعود إلى الكبير المتروك ولكن يضعف ذلك دخول الترجي في الكلام انتهى وهو قول الكلبي .

قال الزمخشري : ومعنى هذا لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات ، فيقولون ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً والفأس على عاتقك قال : هذا بناء على ظنه بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها أو قاله مع علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم واستجهالاً ، وإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل فإن قلت : فإذا رجعوا إلى الصنم بمكابرتهم لعقولهم ورسوخ الإشراك في أعراقهم فأي فائدة دينية في رجوعهم إليه حتى يجعله إبراهيم صلوات الله عليه غرضاً ؟ قلت : إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر وظهر أنهم في عبادته على أمر عظيم .