اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَجَعَلَهُمۡ جُذَٰذًا إِلَّا كَبِيرٗا لَّهُمۡ لَعَلَّهُمۡ إِلَيۡهِ يَرۡجِعُونَ} (58)

قوله :«فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً » . قرأ العامة «جُذَاذاً »{[28753]} بضم الجيم ، والكسائي بكسرها{[28754]} وابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال بفتحها{[28755]} . قال قطرب : هي لغاتها كلها مصدر ، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث{[28756]} والظاهر أنَّ المضموم اسم للشيء المكسر كالحطام والرفات والفتات بمعنى{[28757]} الشيء المحطم والمفتت{[28758]} . وقال اليزيدي : المضموم جمع جُذَاذَة بالضم نحو زجاج في زجاجة{[28759]} ، والمكسور جمع جَذِيذ نحو كِرَام في كَرِيم{[28760]} . وقال بعضهم : المفتوح مصدر بمعنى المفعول أي : مَجْذُوذِينَ . ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي : ذوات جذاذ{[28761]} .

وقيل : المضموم جمع جُذَاذَة بالضم ، والمكسور جمع جِذَاذَة بالكسر ، والمفتوح مصدر{[28762]} وقرأ ابن وثاب «جُذُذاً »{[28763]} بضمتين دون ألف بين الذالين{[28764]} ، وهو جمع جَذِيذ{[28765]} كقَلِيب وقُلُبٍ{[28766]} . وقرئ بضم الجيم وفتح الذال{[28767]} ، وفيها وجهان :

أحدهما : أن يكون أصلها ضمتين ، وإنما خففت بإبدال الضمة فتحة نحو سُرَر وذُلَل في جمع سرير وذليل ، وهي لغة لبني كلب{[28768]} .

والثاني : أنه جمع جذَّة{[28769]} نحو قبب في قبة ودرر{[28770]} في درة{[28771]} .

والجذ القطع والتكسير ، وعليه قوله{[28772]} :

3728- بَنُو{[28773]} المُهَلَّبِ جَذَّ اللهُ دَابِرَهُمْ *** أَمْسَوا رَمَاداً فَلاَ أصْلٌ وَلاَ طَرَفُ{[28774]}

وتقدم هذا مستوفى في هود{[28775]} . فإن قيل : لِمَ قال «جَعَلَهُمْ » وهذا جمع لا يليق إلا بالعقلاء ؟

فالجواب عَامَلَ الأصنام مُعَاملة العقلاء حيث اعتقدوا فيها ذلك{[28776]} .

قوله : { إلاَّ كَبِيراً } استثناء من المنصوب في «فَجَعَلَهُمْ » أي : لم يكسره بل تركه{[28777]} و «لَهُمْ » صفة له ، وهذا الضمير يجوز أن يعود على الأصنام ، وتأويل عود ضمير العقلاء عليها تقدم . ويجوز أن يعود على عابديها{[28778]} . والضمير في «إلَيْهِ يجوز أن يعود إلى «إبراهيم » ، أي : يرجعون إلى مقالته حين يظهر لهم الحق ، أو غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما شاهدوه من إنكاره لدينهم ، وسب آلهتهم ، فيبكتهم بما أهانهم{[28779]} به من قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ }{[28780]} .

ويجوز أن يعود إلى الكبير{[28781]} ، وفيه وجهان :

أحدهما : لعلهم يرجعون إليه كما يرجعون إلى العالم في حل{[28782]} المشكلات ، فيقولون : ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً والفأس على عاتقك ؟ وهذا قول الكلبي . وإنما قال ذلك بناء على كثرة جهالاتهم ، فلعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تجيب وتتكلم .

والثاني : أنه -عليه السلام-{[28783]} قال ذلك مع علمه أنهم لا يرجعون إليه ( استهزاء{[28784]} بهم ){[28785]} .

فصل{[28786]}

قال السّدّيّ : كان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه ، فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ، ثم عادوا إلى منازلهم ، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم : لو خرجت معنا ، فخرج معهم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال : إنِّي سَقِيم أشتكي رِجْلي{[28787]} ، فلمَّا مَضَوْا وبقي ضعفاء الناس ، نادى وقال : { تالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } أي : إلى عيدكم . فسمعوها منه . واحتج هذا القائل بقوله تعالى : { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }{[28788]} .

وقال الكلبيّ : كان إبراهيم -عليه السلام-{[28789]} من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلاَّ مريضاً ، فلما هَمَّ إبراهيم بكسر الأصنام ، نظر قبل يوم العيد إلى السماء ، وقال لأصحابه : أراني أشتكي غداً ، وهو قوله : { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ }{[28790]} . وأصبح في الغد معصوباً رأسه ، فخرج القوم ليعيدهم ولم يتخلف أحد غيره ، فقال : { وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } فسمع رجل منهم هذا القول ، فحفظه عليه ، ثم أخبر به غيره ، وانتشر ذلك في جماعة ، فلذلك قال تعالى : { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } ، ثم إن إبراهيم -عليه السلام-{[28791]} دخل بيت الأصنام فوجد سبعين صنماً مصطفة{[28792]} ، وعند الباب صنم عظيم من ذهب مستقبل الباب وفي عينه جوهرتان تضيئان بالليل ، فكسرها كلها بفأس في يده حتى لم يبق إلاَّ الكبير علق الفأس في عنقه .

فإن قيل : أولئك الأقوام إمَّا أنْ يكونوا عقلاء أو لم يكونوا عقلاء ، فإن كانوا عقلاء وجب أن يكونوا عالمين بالضرورة أنَّ تلك الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضرّ ، فأي حاجة في إثبات ذلك إلى كسرها ؟ أقصى ما في الباب أن يقال : القوم كانوا يعظمونها كما يعظم الواحد منا المصحف والمسجد والمحراب وكسرها لا يقدح في تعظيمها من هذا الوجه .

وإن لم يكونوا عقلاء لم يحسن مناظرتهم ولا بعثة الرسل إليهم .

فالجواب : أنهم كانوا عقلاء وكانوا عالمين بالضرورة أنها جمادات ، ولكن لعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تماثيل للكواكب ، وأنها طلمسات موضوعة ، بحيث إنَّ كل من عبدها{[28793]} انتفع ، وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد ، ثم إنَّ إبراهيم -عليه السلام-{[28794]} كسرها ولم ينله منها ضرر ألبتة ، فكان فعله دالاً على فساد مذهبهم{[28795]} .


[28753]:جذاذا: سقط من ب.
[28754]:السبعة: (429) الكشف 2/112، النشر 2/324، الإتحاف (311).
[28755]:المختصر (92) المحتسب 2/64. البحر المحيط 6/322.
[28756]:المحتسب 2/64، حيث قال ابن جني: (وكذلك روينا عن قطرب: جذّ الشيء يجذّه جذّا وجُذاذا وجِذاذا وجَذاذا) وانظر أيضا البحر المحيط 6/322.
[28757]:في ب: وبمعنى.
[28758]:انظر البحر المحيط 6/322.
[28759]:البحر المحيط 6/322.
[28760]:وذلك أن (فعال) من أمثلة جمع الكثرة، ومما يطرد فيه كل ما كان على وزن فعيل أو فعيلة وصفا للفاعل صحيح اللام نحو كريم وكريمة، وظريف وظريفة تقول في جمعها: كرام وظراف. انظر البحر المحيط 6/322، وشرح الأشموني 4/135.
[28761]:انظر التبيان 2/920.
[28762]:المرجع السابق.
[28763]:في ب: جذاذ. وهو تحريف.
[28764]:المختصر (92). البحرالمحيط 6/322.
[28765]:في ب: لجذيذ.
[28766]:وذلك أن (فعل) من أمثلة جمع الكثرة، وهو يطرد في كل اسم رباعي ثالثه مدة صحيح اللام، نحو قضيب وقضب، وسرير وسرر، وعمود وعمد، وزبور وزبر، وكتاب وكتب، وإذا كانت المدة ألفا اشترط في المفرد ألا يكون مضعفا فلا يجمع نحو مداد ولا سنان ولا هلال على فعل. ويطرد أيضا في كل وصف على فعول – بفتح الفاء وضم العين – بمعنى فاعل، نحو صبور، وغفور وشكور، تقول في جمعها: صبر وغفر وشكر. انظر شرح الأشموني 4/129-130.
[28767]:التبيان 2/920، البحر المحيط 6/322.
[28768]:انظر التبيان 2/21، البحر المحيط 6/322.
[28769]:في ب: جذذة.
[28770]:في الأًصل: درر. وهو تحريف.
[28771]:وذلك أن (فعل) من أمثلة جموع الكثرة، ومما يطرد فيه ما كان على فعلة – بضم الفاء وسكون العين – اسما نحو غرفة وغرف وحجة وحجج. انظر البحر المحيط 6/322، وشرح الأشموني 4/130.
[28772]:في ب: قول. وهو تحريف.
[28773]:بنوا، وفي ب: بنى.
[28774]:البيت من بحر البسيط قاله جرير، وهو ديوانه 1/176، وفيه: "آل" مكان "بنو" ومجاز القرآن 2/50، الكامل 2/1040، البحر المحيط 6/318. والشاهد فيه أنّ الجذّ معناه القطع والتكسير.
[28775]:عند قوله: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} [هود: 108] وذكر هناك "غير مجذوذ" في المختار : جذّه كسره وقطعه وبابه ردّ والجذاذ بضم الجيم وكسرها ما تكسر منه والضم أفصح، و"عطاء غير مجذوذ" أي غير مقطوع، والجذاذات القراضات. انظر اللباب 4/374.
[28776]:انظر الفخر الرازي 22/182.
[28777]:انظر البحر المحيط 6/322.
[28778]:انظر البحر المحيط 6/322.
[28779]:في الأصل: أهابهم. وفي ب: أعابه. والصواب ما أثبته.
[28780]:[الأنبياء: 63]. وانظر الكشاف 3/14، والفخر الرازي 22/183.
[28781]:قال ابن عطية: (ويحتمل أن يعود الضمير إلى الكبير المتروك، ولكن يضعف ذلك دخول الترجي في الكلام) تفسير ابن عطية 10/162. وهذا قول الكلبي، الكشاف 3/14.
[28782]:في ب: محل. وهو تحريف.
[28783]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28784]:انظر الكشاف 3/14.
[28785]:ما بين القوسين سقط من ب.
[28786]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/182.
[28787]:في ب: رجل.
[28788]:"يقال له إبراهيم": سقط من ب. [الأنبياء: 60].
[28789]:عليه السلام: سقط من ب.
[28790]:[الصافات: 88،89].
[28791]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28792]:في الأصل: مصففة. وهو تحريف.
[28793]:عبدها: سقط من ب.
[28794]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28795]:انظر الفخر الرازي 22/183.