169- فجاء من بعد الذين ذكرناهم وقسمناهم إلى القسمين ، خلف سُوءٍ ورثوا التوراة عن أسلافهم ولكنهم لم يعملوا بها ، لأنهم يأخذون متاع الدنيا عوضا عن قول الحق ، ويقولون في أنفسهم : سيغفر اللَّه لنا ما فعلناه . يرجون المغفرة . والحال أنهم إن يأتهم شيء مثل ما أخذوه يأخذوه . فهم مصرون على الذنب مع طلب المغفرة ، ثم وبخهم الله على طلبهم المغفرة مع إصرارهم على ما هم عليه ، فقال : إنا أخذنا عليهم العهد في التوراة ، وقد درسوا ما فيها ، أن يقولوا الحق ، فقالوا الباطل ، وإن نعيم الدار الآخرة للذين يتقون المعاصي خير من متاع الدنيا . أتستمرون على عصيانكم فلا تعقلون أن ذلك النعيم خير لكم ، وتؤثرون عليه متاع الدنيا ؟
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ . . . } .
قال الإمام القرطبى : الخلْف - بسكون اللام - الأولاد ، الواحد والجمع فيه سواء ، الخلف - بفتح اللام - البدل ، ولداً كان أو غريبا . وقال ابن الأعرابى : الخلف - بفتح اللام - الصالح ، وبسكونها الطالح ، ومنه قيل للردى من الكلام خلف - بسكون اللام - ومنه المثل السائر " سكت ألفا ونطق خلْفا " قال لبيد .
ذهب الذين يعاش في أكنافهم . . . وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فخلْف في الذم بالإسكان ، وخَلَف بالفتح في المدح ، هذا هو المستعمل المشهور ، وفى الحديث الشريف " يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له " وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر .
والعرض - بفتح الراء - متاع الدنيا وحطامها من المال وغيره .
قال صاحب الكشاف : قوله تعالى : { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى } أى حطام هذا الشىء الأدنى ، يريد الدنيا وما يتمتع به منها ، وفى قوله هذا تخسيس وتحقير ، والأدنى إما من الدنو بمعنى القرب ، لأنه عاجل قريب ، وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة ) .
والضمير في قوله { مِن بَعْدِهِمْ } يعود إلى اليهود الذين وصفهم الله في الآية السابقة بقوله { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } والمعنى : فخلف من بعد أولئك القوم الذين قطعناهم في الأرض أمما خلف سوء ، ورثوا كتاب الله وهو التوراة فقرأوه وتعلموه ، ووقفوا على ما فيه من تحليل وتحريم وأمر ونهى ولكنهم لم يتأثروا به بل خالفوا أحكامه ، واستحلوا محارمه مع علمهم بها ، فهم يتهافتون على حطام الدنيا ومتاعها ويتقبلون المال الحرام بشراهة نفس . ويأكلون الحست أكلا لما ويقولون وهم والغون في المعاصى ومصرون على الذنوب : إن الله سيغفر لنا ذنوبنا ولا يؤاخذنا بما أكلنا من أموال ، لأننا من نسل أنبيائه ، فنحن شعبه الذي اصطفاه من سائر البشر ، إلى غير ذلك من الأقاويل التي يفترونها على الله وهم يعلمون .
وجملة { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى } مستأنفة لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتهم إياه . وقيل : هى حال من الضمير في ورثوا .
ثم أخبر - سبحانه - عنهم بأنهم أهل إصرار على ذنوبهم ، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة فقال تعالى : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } أى : أنهم يأخذون عرض الحياة الدنيا ويعرضون عن شريعة الله التي أنزلها عليهم في التوراة ويزعمون أن الله لا يؤاخذهم بما فعلوا . ثم هم بعد ذلك لا يتوبون إلى الله ولا يستغفرونه ، وإنما حالهم أنهم إن لاح لهم عرض حرام آخر مثل الذي أخذوه أولا بالباطل ، تهافتوا عليه من جديد واستحلوه وأكلوه في بطونهم ، وبدون توبة أو ندم .
قال مجاهد قوله تعالى { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } لا يشرف لهم شىء من متاع الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراما ، ويتمنون المغفرة { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه .
وقال السدى : ( كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم وإن خيارهم اجتمعوا ، فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا ، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى ، فيقال له ما شأنك ترتشى في الحكم ؟ فيقول شيغفر لى ، فيطعن عليه البقية الآخرون من بنى إسرائيل صنعه فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه قبل الرشوة ، يقول الله : ( وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه ) .
ثم أنكر - سبحانه - عليهم ما زعموه بقولهم : { سَيُغْفَرُ لَنَا } وهم مصرون على معصيتهم فقال تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } .
والمعنى : لقد أخذ الله العهد في التوراة على هؤلاء المرتشين في أحكامهم : والقائلين سيغفر الله فعلنا هذا ألا يقولوا على الله إلا القول الحق ، ولا يخبروا عنه إلا بالصدق ولا يخالفوا أمره . ولا ينقضوا عهده ، ولا يتجاوزوا حدوده ، وقد درس هؤلاء الكتاب ، أى : قرأوه وفهموه ، ولكنهم لم يعملوا بما أخذ عليهم من عهود ولم يتبعوا أوامر كتابهم ونواهيه ، تلأنهم درسوه ولم يتأثروا به ، ولم تخالط تعاليمه شغاف قلوبهم ، فضيعون واشتروا به ثمناً قليلا فبئس ما يشترون .
وقوله { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } بدل من ميثاق الكتاب أو عطف بيان له . وقيل إنه مفعول لأجله أى : لئلا يقولوا .
وجملة { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } معطوفة في المعنى على قوله تعالى { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب } أى أن الله تعالى قد أخذ عليهم الميثاق في التوراة ودرسوه .
قال ابن دريد : ( كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به ، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له .
ثم بين الله لهم أن ما أعده في الآخرة للمتقين الذين يتعففون عن السحت وعن أكل أموال الناس بالباطل خير من متاع الدنيا وزهرتها الذىآثره هؤلاء الذين يفترون علىالله الكذب فقال تعالى : { والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أى : والدار الآخرة وما أعده فيها من نعيم لأولئك الذين يتقونه حق تقاته في السر والعلن ، خير من عرض هذا الأدنى الذي استحله هؤلاء اليهود بدون حق وآثروه على ما عند الله من نعيم مقيم وثواب جزيل { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } - يا من أكلتم أموال الناس بالباطل وقلتم سيغفر الله لنا ذنوبنا - هذا الحكم الواضح ، الذي لا يخفى على ذى عقل سليم ، لم تطمسه الشهوات ، ولم يستحوذ عليه الشيطان .
وفى هذا إشارة إلى أن الطمع في متاع الحياة الدنيا هو الذي جعل بنى إسرائيل يقولون على الله غير الحق . ويتشبعون من المال الحرام بدون تعفف ويبيعون دينهم بدنياهم .
قال الإمام الآلوسى : ( والمراد من الآية توبيخ أولئك الورثة على بتهم القول بالمغفرة مع إصرارهم على الذنوب وجاء البت من السين فإنها للتأكيد كما نص عليه المحققون ، وعن ابن عباس - رضى الله عنهما - إنهم وبخوا على إيجابهم على الله - تعالى - غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ثم لا يتوبون منها .
وقد أطبق أهل السنة على ذم المتمنى على الله ، ورووا ع شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى " ومن هنا قيل : إن القوم ذموا بأكلهم أموال الناس بالباطل وبإتباعهم أنفسهم هواها وتمنيهم على الله - سبحانه - الأمانى ، ووبخوا على افترائهم على الله في الأحكام التي غيروها ، وأخذوا عرض هذا الأدنى على تغييرها ، وقالوا على الله ما ليس بحق من القول ) .
( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ، ويقولون : سيغفر لنا . وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ) . .
وصفة هذا الخلف الذي جاء بعد ذلك السلف من قوم موسى : أنهم ورثوا الكتاب ودرسوه . . ولكنهم لم يتكيفوا به ولم تتأثر به قلوبهم ولا سلوكهم . . شأن العقيدة حين تتحول إلى ثقافة تدرس وعلم يحفظ . . وكلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا تهافتوا عليه ، ثم تأولوا وقالوا : ( سيغفر لنا ) . . وهكذا كلما عرض لهم من أعراض الدنيا جديد تهافتوا عليه من جديد !
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ؟ ودرسوا ما فيه ؟ .
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الله في الكتاب ألا يتأولوا ولا يحتالوا على النصوص ، وألا يخبروا عن الله إلا بالحق . . فما بالهم يقولون : ( سيغفر لنا )ويتهافتون على أعراض الحياة الدنيا ؟ ويبررون لأنفسهم هذا بالتقول على الله وتأكيد غفرانه لهم ، وهم يعلمون أن الله إنما يغفر لمن يتوبون حقاً ؛ ويقلعون عن المعصية فعلاً ؛ وليس هذا حالهم ، فهم يعودون كلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا ! وهم درسوا هذا الكتاب وعرفوا ما فيه ! بلى ! ولكن الدراسة لا تجدي مالم تخالط القلوب . وكم من دارسين للدين وقلوبهم عنه بعيد . إنما يدرسونه ليتأولوا ويحتالوا ، ويحرفوا الكلم عن مواضعه ، ويجدوا المخارج للفتاوى المغرضة التي تنيلهم عرض الحياة الدنيا . . وهل آفة الدين إلا الذين يدرسونه دراسة ؛ ولا يأخذونه عقيدة يتقون الله ولا يرهبونه ؟ !
( والدار الآخرة خير للذين يتقون . أفلا تعقلون ؟ ) .
نعم ! إنها الدار الآخرة ! إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي يرجح الكفة ، وهو وحده الذي يعصم من فتنة العرض الأدنى القريب في هذه الدنيا . . نعم إنها هي التي لا يصلح قلب ولا تصلح حياة إلا بها ؛ ولا تستقيم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها . . وإلا فما الذي يعدل في النفس البشرية الرغبة الملحة في حيازة كل عرض يلوح لها من أعراض هذه الأرض ؟ وما الذي يحجزها عن الطمع ويكفها عن البغي ؟ وما الذي يهدىء فيها هياج الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع ؟ وما الذي يطمئنها في صراع الحياة الدنيا على النصيب الذي لا يضيع بفوات الحياة الدنيا ؟ وما الذي يثبتها في المعركة بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، وأعراض الأرض تفر من بين يديها وتنأى ؟ والشر يتبجح والباطل يطغى ؟
لا شيء يثبت على الغير والأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج وفي هذه المعركة الكبرى ؛ إلا اليقين في الآخرة ، وأنها خير للذين يتقون ، ويعفون ، ويترفعون ، ويثبتون على الحق والخير في وجه الزعازع والأعاصير والفتن ، ويمضون في الطريق لا يتلفتون . . مطمئنين واثقين ، ملء قلوبهم اليقين . .
وهذه الدار الآخرة غيب من الغيب الذي يريد دعاة " الاشتراكية العلمية " أن يلغوه من قلوبنا ومن عقيدتنا ومن حياتنا ؛ ويحلوا محله تصوراً كافراً جاهلاً مطموساً يسمونه : " العلمية " . .
ومن أجل هذه المحاولة البائسة تفسد الحياة ، وتفسد النفوس ؛ وينطلق السعار المجنون الذي لا يكبحه إلاَّ ذلك اليقين . . ينطلق سعار الرشوة والفساد والطمع والطغيان . وينتشر داء الإهمال وقلة المبالاة والخيانة في كل مجال . .
إن " العلمية " التي تناقض " الغيبية " جهالة من جهالات القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر . جهالة يرجع عنها " العلم البشري " ذاته ، ولا يبقى يرددها في القرن العشرين إلا الجهال ! جهالة تناقض فطرة " الإنسان " ومن ثم تفسد " الحياة " ذلك الإفساد الذي يهدد البشرية بالدمار ! ولكنه المخطط الصهيوني الرهيب الذي يريد أن يسلب البشرية كلها قوام حياتها وصلاحها ، ليسهل تطويعها لملك صهيون في نهاية المطاف ! والذي تردده الببغاوات هنا وهناك ، بينما الأوضاع التي أقامتها الصهيونية وكفلتها في أنحاء الأرض تمضي عن علم في تنفيذ المخطط الرهيب هنا وهناك !
ولأن قضية الآخرة ، وقضية التقوى قضيتان أساسيتان في العقيدة وفي الحياة ، يحيل السياق القرآني المخاطبين الذين يتهافتون على عرض هذا الأدنى . . عرض الحياة الدنيا . . إلى العقل :
( والدار الآخرة خير للذين يتقون . . أفلا تعقلون ؟ ) . .
ولو كان العقل هو الذي يحكم لا الهوى . . ولو كان العلم الحق لا الجهالة التي تسمى العلم هوالذي يقضي . . لكانت الدار الآخرة خيراً من عرض هذا الأدنى . ولكانت التقوى زاداً للدين والدنيا جميعاً :
القول في تأويل قوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هََذَا الأدْنَىَ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَتّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : فخلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم خلْف يعني خلف سَوْء ، يقول : حدث بعدهم وخلافهم ، وتبدّل منهم بدل سوء ، يقال منه : هو خَلَفُ صدق ، وخَلْفُ سَوْءٍ ، وأكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذمّ بتسكينها ، وقد تحرّك في الذمّ وتسكن في المدح ، ومن ذلك في تسكينها في المدح قول حسان :
لنا القَدَمُ الأُولى إليكَ وخَلْفُنا ***لاِءَوّلِنا في طاعَةِ اللّهِ تابِعُ
وأحسب أنه إذا وجه إلى الفساد مأخوذ من قولهم : خلف اللبن : إذا حمض من طول تركه في السقاء حتى يفسد ، فكأنّ الرجل الفاسد مشبّه به ، وقد يجوز أن يكون منه قولهم : خَلَف فم الصائم : إذا تغيرت ريحه . وأما في تسكين اللام في الذمّ ، فقول لبيد :
ذَهَبَ الّذِينَ يُعاشُ فِي أكْنافِهِمْ ***وَبَقِيتُ فِي خَلْفِ كَجِلْدِ الأجْرَبِ
وقيل : إن الخلْف الذي ذكر الله في هذه الاَية أنهم خلَفوا من قبلهم هم النصارى . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قال : النصارى .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى إنما وصف أنه خلَف القوم الذي قصّ قصصهم في الاَيات التي مضت خلف سوْء رديء ، ولم يذكر لنا أنهم نصارى في كتابه ، وقصتهم بقصص اليهود أشبه منها بقصص النصارى . وبعدُ ، فإن ما قبل ذلك خبر عن بني إسرائيل وما بعده كذلك ، فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أشبه ، إذ لم يكن في الاَية دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم ، ولا جاء بذلك دليل يوجب صحة القول به .
فتأويل الكلام إذن : فتبدّل من بعدهم بَدَلُ سوْء ، ورثوا كتاب الله : تعلموه ، وضيعوا العمل به فخالفوا حكمه ، يُرْشَوْنَ في حكم الله ، فيأخذون الرشوة فيه من عرض هذا العاجل الأدنى ، يعني بالأدنى : الأقرب من الاَجل الأبعد ، ويقولون إذا فعلوا ذلك : إن الله سيغفر لنا ذنوبنا تمنيا على الله الأباطيل ، كما قال جلّ ثناؤه فيهم : فَوَيْلٌ للّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ ثّم يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبونَ . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ يقول : وإن شرع لهم ذنب حرام مثله من الرشوة بعد ذلك أخذوه واستحلوه ، ولم يرتدعوا عنه . يخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرار على ذنوبهم ، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت عنه عباراتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ . قال : يعملون الذنب ثم يستغفرون الله ، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ قال : من الذنوب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا قال : يعملون بالذنوب . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ : قال : ذنب آخر يعملون به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : الذنوب . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ قال : الذنوب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلال أو حرام يشتهونه أخذوه ، ويبتغون المغفرة ، فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلا أنه قال : يتمنون المغفرة .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراما ، ويتمنون المغفرة ، وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وإن يجدوا عرضا مثله يأخذوه .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ : أي والله لخلْف سَوْء ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم ، ورّثهم الله وعهد إليهم ، وقال الله في آية أخرى : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ أضَاعُوا الصّلاةَ وَاتّبَعُوا الشّهَوَاتِ قال : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا تمنوا على الله أماني وغرّة يغترّون بها . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه لا يشغلهم شيء عن شيء ولا ينهاهم عن ذلك ، كلما أشرف لهم شيء من الدنيا أكلوه لا يبالون حلالاً كان أو حراما .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : يأخذونه إن كان حلالاً وإن كان حراما . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه قال : إن جاءهم حلال أو حرام أخذوه .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ . . . إلى قوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ قال : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم . وإن خيارهم اجتمعوا فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا ، فجعل الرجل منهم إذا استُقْضِي ارتشى ، فقال له : ما شأنك ترتشي في الحكم ؟ فيقول : سيغفر لي فيطعن عليه البقية الاَخرون من بني إسرائيل فيما صنع . فإذا مات أو نُزِع ، وجُعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي ، يقول : وإن يأت الاَخرين عرض الدنيا يأخذوه . وأما عَرَض الأدنى ، فعرض الدنيا من المال .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا يقول : يأخذون ما أصابوا ، ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام ، ويقولون : سيغفر لنا .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : الكتاب الذي كتبوه ، ويقولون : سَيُغْفَرُ لَنا لا نشرك بالله شيئا . وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ يأتهم المحقّ برشوه ، فيخرجوا له كتاب الله ثم يحكموا له بالرشوة . وكان الظالم إذا جاءهم برشوة أخرجوا له المثناة ، وهو الكتاب الذي كتبوه ، فحكموا له بما في المثناة بالرشوة ، فهو فيها محقّ ، وهو في التوراة ظالم ، فقال الله : ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا عَلى اللّهِ إلاّ الحَقّ وَدَرَسوا ما فِيهِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، قوله : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدهِمْ خَلْفٌ ورِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى قال : يعملون الذنوب .
القول في تأويل قوله تعالى : ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ والدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ .
يقول تعالى ذكره : ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في أحكامهم ، القائلين : سيغفر الله لنا فعلنا هذا ، إذا عوتبوا على ذلك ميثاقُ الكتاب ، وهو أخذ الله العهود على بني إسرائيل بإقامة التوراة والعمل بما فيها . فقال جلّ ثناؤه لهؤلاء الذين قصّ قصتهم في هذه الاَية موبخا لهم على خلافهم أمره ونقضهم عهده وميثاقه : ألم يأخذ الله عليهم ميثاق كتابه ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ ولا يضيفوا إليه إلا ما أنزله على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم في التوراة ، وأن لا يكذبوا عليه ؟ كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ قال : فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها .
وأما قوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ فإنه معطوف على قوله : وَرِثُوا الكِتابَ ومعناه : فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب ، ودرسوا ما فيه . ويعني بقوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ قرءوا ما فيه . يقول : ورثوا الكتاب فعلموا ما فيه ودرسوه ، فضيعوه وتركوا العمل به ، وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَدَرَسُوا ما فِيهِ قال : علموه وعلموا ما في الكتاب الذي ذكر الله وقرأ : بِمَا كُنْتُمْ تُعَلّمُونَ الكِتابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ .
والدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ يقول جلّ ثناؤه : وما في الدار الاَخرة ، وهو ما في المعاد عند الله مما أعدّ لأوليائه والعاملين بما أنزل في كتابه المحافظين على حدوده ، خير للذين يتقون الله ويخافون عقابه ، فيراقبونه في أمره ونهيه ، ويطيعونه في ذلك كله في دنياهم . أفَلا تَعْقِلونَ يقول : أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون عرض هذا الأدنى على أحكامهم ، ويقولون سيغفر لنا ، أن ما عند الله في الدار الاَخرة للمتقين العادلين بين الناس في أحكامهم ، خير من هذا العرض القليل الذي يستعجلونه في الدنيا على خلاف أمر الله والقضاء بين الناس بالجوار ؟
{ خلف } معناه حدث خلفهم و { بعدهم خلْف } بإسكان اللام يستعمل في الأشهر في الذم ومنه قول لبيد : [ الكامل ]
ذهب الذين يعاش في أكنافهم*** وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقد يستعمل في المدح ومنه قول حسان : [ الطويل ]
لنا القدم الأولى إليك وخلفنا*** لأولنا في طاعة الله تابع
والخلَف بفتح اللام يستعمل في الأشهر في المدح ، قال أبو عبيدة والزجاج : وقد يستعمل في الذم أيضاً ومنه قول الشاعر :
وقال مجاهد : المراد ب «الخلف » هاهنا النصارى وضعفه الطبري وقرأ جمهور الناس { ورثوا الكتاب } وقرأ الحسن بن أبي الحسن البصري «وُرّثوا الكتاب » بضم الواو وشد الراء ، وقوله { يأخذون عرض هذا الأدنى } إشارة إلى الرشا والمكاسب الخبيثة و «العرض » ما يعرض ويعن ولا يثبت ، و «الأدنى » إشارة إلى عيش الدنيا ، وقوله : { ويقولون سيغفر لنا } ذم لهم باغترارهم وقولهم : { سيغفر } مع علمهم بما في كتاب الله من الوعيد على المعاصي وإصرارهم عليهم وأنهم إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها فهؤلاء عجزة كما قال صلى الله عليه وسلم : «والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ، فهؤلاء قطعوا بالمغفرة وهم مصرون وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم » .
وقوله تعالى : { ألم يؤخذ عليهم } الآية ، تشديد في لزوم الحق على الله في الشرع والأحكام بين الناس وأن لا تميل الرشا بالحكام إلى الباطل ، و { الكتاب } يريد به التوراة وميثاقها الشدائد التي فيها في هذا المعنى ، وقوله : { أن لا يقولوا على الله إلا الحق } يمكن أن يريد بذلك قولهم الباطل في حكومة مما يقع بين أيديهم ، ويمكن أن يريد قولهم سيغفر لنا وهم قد علموا الحق في نهي الله عن ذلك ، وقرأ جمهور الناس : «يقولوا » بياء من تحت وقرأ الجحدري : «تقولوا » بتاء من فوق وقوله : { ودرسوا } معطوف على قوله : { ألم يؤخذ } الآية بمعنى المضي ، يقدر : أليس قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه وبهذين الفعلين تقوم الحجة عليهم في قولهم الباطل ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، «واَّدارسوا » ما فيه وقال الطبري وغيره ، قوله : { ودرسوا } معطوف على قوله : { ورثوا الكتاب } .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر لبعد المعطوف عليه لأنه قوله : { ودرسوا } يزول منه معنى إقامة الحجة بالتقدير الذي في قوله : { ألم } ثم وعظ وذكر تبارك وتعالى بقوله : { والدار الآخرة خير للذين يتقون } وقرأ جمهور الناس : «أفلا تعقلون » بالتاء من فوق وقرأ أبو عمرو وأهل مكة : «يعقلون » بالياء من أسفل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فخلف من بعدهم}، يعني من بعد بني إسرائيل، {خلف} السوء وهم اليهود، {ورثوا الكتاب}، يعني ورثوا التوراة عن أوائلهم وآبائهم، {يأخذون عرض هذا الأدنى}، وهي الدنيا، لأنها أدنى من الآخرة، يعني الرشوة في الحكم، {ويقولون سيغفر لنا}، فكانوا يرشون بالنهار، ويقولون: يغفر لنا بالليل، {وإن يأتهم عرض مثله}، يعني رشوة مثله ليلا، {يأخذوه}، ويقولون: يغفر لنا بالنهار، يقول الله: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب}، يعني بغير ما يقولون، لقد أخذ عليهم في التوراة أن لا يستحلوا محرما، و {أن لا يقولوا على الله إلا الحق} في التوراة، {ودرسوا}، يعني وقرأوا {ما فيه}، ما في التوراة، {والدار الآخرة}، يعني الجنة، {خير للذين يتقون}، استحلال المحارم، {أفلا تعقلون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فخلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم خلْف يعني خلف سوء، يقول: حدث بعدهم وخلافهم، وتبدّل منهم بدل سوء، يقال منه: هو خَلَفُ صدق، وخَلْفُ سوءٍ، وأكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذمّ بتسكينها... وأحسب أنه إذا وجه إلى الفساد مأخوذ من قولهم: خلف اللبن: إذا حمض من طول تركه في السقاء حتى يفسد، فكأنّ الرجل الفاسد مشبّه به، وقد يجوز أن يكون منه قولهم: خَلَف فم الصائم: إذا تغيرت ريحه... وقيل: إن الخلْف الذي ذكر الله في هذه الآية أنهم خلَفوا مَن قَبلهم هم النصارى... والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى إنما وصف أنه خلَف القوم الذي قصّ قصصهم في الآيات التي مضت خلف سُوء رديء، ولم يذكر لنا أنهم نصارى في كتابه، وقصتهم بقصص اليهود أشبه منها بقصص النصارى. وبعدُ، فإن ما قبل ذلك خبر عن بني إسرائيل وما بعده كذلك، فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أشبه، إذ لم يكن في الآية دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم، ولا جاء بذلك دليل يوجب صحة القول به.
فتأويل الكلام إذن: فتبدّل من بعدهم بَدَلُ سوء، ورثوا كتاب الله: تعلموه، وضيعوا العمل به فخالفوا حكمه، يُرْشَوْنَ في حكم الله، فيأخذون الرشوة فيه من عرض هذا العاجل الأدنى، يعني بالأدنى: الأقرب من الآجل الأبعد، ويقولون إذا فعلوا ذلك: إن الله سيغفر لنا ذنوبنا تمنيا على الله الأباطيل، كما قال جلّ ثناؤه فيهم:"فَوَيْلٌ للّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ ثّم يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبونَ". "وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ "يقول: وإن شرع لهم ذنب حرام مثله من الرشوة بعد ذلك أخذوه واستحلوه، ولم يرتدعوا عنه. يخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرار على ذنوبهم، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة.
عن سعيد بن جبير: "يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا "قال: يعملون بالذنوب، "وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ": قال: ذنب آخر يعملون به...
"ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ والدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ" يقول تعالى ذكره: ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في أحكامهم، القائلين: سيغفر الله لنا فعلنا هذا، إذا عوتبوا على ذلك ميثاقُ الكتاب، وهو أخذ الله العهود على بني إسرائيل بإقامة التوراة والعمل بما فيها. فقال جلّ ثناؤه لهؤلاء الذين قصّ قصتهم في هذه الآية موبخا لهم على خلافهم أمره ونقضهم عهده وميثاقه: ألم يأخذ الله عليهم ميثاق كتابه "ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ" ولا يضيفوا إليه إلا ما أنزله على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم في التوراة، وأن لا يكذبوا عليه؟... قال ابن عباس: "ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ" قال: فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها.
وأما قوله: "وَدَرَسُوا ما فِيهِ" فإنه معطوف على قوله: "وَرِثُوا الكِتابَ" ومعناه: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب، ودرسوا ما فيه. ويعني بقوله: "وَدَرَسُوا ما فِيهِ" قرأوا ما فيه. يقول: ورثوا الكتاب فعلموا ما فيه ودرسوه، فضيعوه وتركوا العمل به، وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك...
"والدّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ" يقول جلّ ثناؤه: وما في الدار الآخرة، وهو ما في المعاد عند الله مما أعدّ لأوليائه والعاملين بما أنزل في كتابه المحافظين على حدوده، خير للذين يتقون الله ويخافون عقابه، فيراقبونه في أمره ونهيه، ويطيعونه في ذلك كله في دنياهم.
"أفَلا تَعْقِلونَ" يقول: أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون عرض هذا الأدنى على أحكامهم، ويقولون سيغفر لنا، أن ما عند الله في الدار الآخرة للمتقين العادلين بين الناس في أحكامهم، خير من هذا العرض القليل الذي يستعجلونه في الدنيا على خلاف أمر الله والقضاء بين الناس بالجوار؟
{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} قيل إن العَرَضَ ما يقل لَبْثُه، يقال: عَرَضَ هذا الأَمْرُ فهو عارض خلاف اللازم... قوله تعالى: {وإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}...قال الحسن:"معناه أنه لا يشبعهم شيء".
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{يأخذون عرض هذا الأدنى} أي شهواتهم من الدنيا، حراما كان أو حلالا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى} أي حطام هذا الشيء الأدنى، يريد الدنيا وما يتمتع به منها. وفي قوله: {هذا الأدنى} تخسيس وتحقير. والأدنى: إما من الدنوّ بمعنى القرب، لأنه عاجل قريب، وإما من دنوّ الحال وسقوطها وقلتها، والمراد: ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} لا يؤاخذنا الله بما أخذنا... {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} الواو للحال، أي يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم، غير تائبين...
... وقوله: {يأخذون عرض هذا الأدنى} قال أبو عبيدة جميع متاع الدنيا عرَض (بفتح الراء)، يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر... والمراد بقوله: {عرض هذا الأدنى} أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها...ثم قال: {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} والمراد الإخبار عن إصرارهم على الذنوب. وقال الحسن هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وأنهم لا يستمتعون منها. ثم بين تعالى قبح فعلهم فقال: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب} أي التوراة {أن لا يقولوا على الله إلا الحق} قيل المراد منعهم عن تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة، وقيل: المراد أنهم قالوا سيغفر لنا هذا الذنب مع الإصرار، وذلك قول باطل...
ثم قال تعالى: {ودرسوا ما فيه} أي فهم ذاكرون لما أخذ عليهم لأنهم قد قرؤه ودرسوه.
ثم قال: {والدار الآخرة خير للذين يتقون} من تلك الرشوة الخبيثة المحقرة {أفلا تعقلون}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان العذاب الذي وقع التأذن بسببه ممتداً إلى يوم القيامة، تسبب عنه قوله: {فخلف} أي نشأ، ولما كانوا غير مستغرقين لزمان البعد، أتى بالجار فقال: {من بعدهم خلف} أي قوم هم أسوأ حالاً منهم {ورثوا الكتاب} أي الذي هو نعمة، وهو التوراة، فكان لهم نقمة لشهادته عليهم بقبح أفعالهم، لأنه بقي في أيديهم بعد أسلافهم يقرؤونه ولا يعملون بما فيه؛ قال ابن فارس: والخلف ما جاء من بعد، أي سواء كان محركاً أو ساكناً، وقال أبو عبيد الهروي في الغريبين: ويقال:؛ خلْف سوء -أي بالسكون- وخلَف صدق...
ولما كان المظنون بمن يرث الكتاب الخير، فكان كأنه قيل: ما فعلوه من الخير فيما ورثوه؟ قال مستأنفاً: {يأخذون} أي يجددون الأخذ دائماً، وحقر ما أخذوه بالإعلام بأنه مما يعرض ولا يثبت بل هو زائل فقال: {عرض} وزاده حقارة بإشارة الحاضر فقال {هذا} وصرح بالمراد بقوله: {الأدنى} أي من الوجودين، وهو الدنيا {ويقولون} أي دائماً من غير توبة.
ولما كان النافع الغفران من غير نظر إلى معين، بنوا للمفعول قولهم: {سيغفر لنا} أي من غير شك، فأقدموا على السوء وقطعوا بوقوع ما يبعد وقوعه في المستقبل حكماً على من يحكم ولا يحكم عليه، وصرح بما أفهمه ذلك من إصرارهم معجباً منهم في جزمهم بالمغفرة مع ذلك بقوله: {وإن} أي والحال أنه إن {يأتهم عرض مثله} أي في الدناءة والخسة -والحرمة كالرشى {يأخذوه}.
ولما كان هذا عظيماً، أنكر عليهم مشدداً- للنكير بقوله مستأنفاً: {ألم يؤخذ عليهم} بناه للمفعول إشارة إلى أن العهد يجب الوفاء به على كل حال، ثم عظمه بقوله: {ميثاق الكتاب} أي الميثاق المؤكد في التوراة {أن لا يقولوا} أي قولاً من الأقوال وإن قل {على الله} أي الذي له كمال العظمة {إلا الحق} أي المعلوم ثباته، وليس من المعلوم ثباته إثبات المغفرة على القطع بغير توبة، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب.
ولما كان ربما وقع في الوهم أنه أخذ على أسلافهم ولم يعلم هؤلاء به، نفى ذلك بقوله: {ودرسوا ما فيه} أي ما في ذلك الميثاق بتكرير القراءة للحفظ {والدار الآخرة} أي فعلوا ما تقدم من مجانبة التقوى والحال أن الآخرة {خير} أي مما يأخذون {للذين يتقون} أي وهم يعلمون ذلك بإخبار كتابهم، ولذلك أنكر عليهم بقوله: {أفلا يعقلون} أي حين أخذوا ما يشقيهم ويفنى بدلاً مما يسعدهم ويبقى، وعلى قراءة نافع وابن عامر وحفص بالخطاب يكون المراد الإعلام بتناهي الغضب.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... وقد سرى شيء كثير من هذا الفساد إلى المسلمين، حتى رجال الدين الذين ورثوا الكتاب الكريم، والقرآن الحكيم، ودرسوا ما فيه، غلب على أكثرهم الطمع في حطام الدنيا القليل، وعرضها الدنيء، والغرور بالنسبة إلى الإسلام والتحلي بلقبه، والتعلل بأماني المغفرة مع الإصرار على الذنب والاتكال على المكفرات والشفاعات، وهم يقرؤون ما في الكتاب من النهي عن الأماني والأوهام، ومن نوط الجزاء بالأعمال، والمغفرة بالتوبة والإصلاح، وكون الشفاعة لا تقع إلا بإذن الله لمن رضي عنه كقوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 28] ولن يرضى الله عن فاسق ولا منافق {فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التوبة: 96] بل ما قص الله علينا مثل هذه الآيات من أخبار بني إسرائيل إلا لنعتبر بأحوالهم، ونتقي الذنوب التي أخذهم بها، ولكننا مع هذا كله اتبعنا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، إلا أننا نحمد الله أن هذا الاتباع فينا غير عام، وأنه لا يزال فينا طائفة ظاهرة على الحق يطعن فيها الجماهير الذين صار الإسلام فيهم غريبا، وقد شرحنا ذلك مرارا بل صرحت الآيات بالتحذير من اتباع أهل الكتاب في أمانيهم وفي فسقهم كقوله تعالى: {ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} [النساء: 123] الخ وقوله: {ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 16]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وصفة هذا الخلف الذي جاء بعد ذلك السلف من قوم موسى: أنهم ورثوا الكتاب ودرسوه.. ولكنهم لم يتكيفوا به ولم تتأثر به قلوبهم ولا سلوكهم.. شأن العقيدة حين تتحول إلى ثقافة تدرس وعلم يحفظ.. وكلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا تهافتوا عليه، ثم تأولوا وقالوا: (سيغفر لنا).. وهكذا كلما عرض لهم من أعراض الدنيا جديد تهافتوا عليه من جديد! (والدار الآخرة خير للذين يتقون.. أفلا تعقلون؟).. ولو كان العقل هو الذي يحكم لا الهوى.. ولو كان العلم الحق لا الجهالة التي تسمى العلم هوالذي يقضي.. لكانت الدار الآخرة خيراً من عرض هذا الأدنى. ولكانت التقوى زاداً للدين والدنيا جميعاً.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وإن كان المراد من تقطيعهم في الأرض أمماً تكثيرَهم والامتنانَ عليهم، كان قوله: {فخلف من بعدهم خلف} تفريعاً على جميع القصص المتقدمة التي هي قصص أسلافهم، فيكون المراد بالخلْف من نشأ من ذرية أولئك اليهود بعد زوال الأمة وتفرقها، منهم الذين كانوا عند ظهور الإسلام، وهم اليهود الذين كانوا بالمدينة، وإلى هذا المعنى في (الخلْف) نحا المفسرون.
والخلْف بسكون اللام من يأتي بعد غيره سابِقِه في مكان أو عمل أو نسل، يُبينه المقام أو القرينة، ولا يغلب فيمن يخلف في أمر سيء، قاله النضر بن شُميل، خلافاً لكثير من أهل اللغة إذ قالوا: الأكثر استعمال الخلْف بسكون اللام فيمن يخلف في الشر، وبفتح اللام فيمن يخلف في الخير، وقال البصريون: يجوز التحريك والإسكان في الرديء، وأما الحسن فبالتحريك فقطْ.
.. و {ورثوا} مجازٌ في القيام مقام الغير كما تقدم في قوله تعالى: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها} في هذه السورة (43) وقوله فيها: {أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها} [الأعراف: 100] فهو بمعنى الخلفية، والمعنى: فخلف من بعدهم خلف في إرث الكتاب، وهذا يجري على كلا القولين في تخصيص الخلف، لأنه بيان للفعل لا لاسم الخلف.
وجملة: {يأخذون عرض هذا الأدنى} حال من ضمير {ورثوا} ، والمقصود هو ذم الخلف بأنهم يأخذون عرض الأدنى ويقولون سيغفر لنا، ومهد لذلك بأنهم ورثوا الكتاب ليدل على أنهم يفعلون ذلك عن علم لا عن جهل، وذلك أشد مذمة، كما قال تعالى: {وأضله الله على علمٍ} [الجاثية: 23].
ومعنى الأخذ هنا الملابسة والاستعمال فهو مجاز أي: يلابسونه، ويجوز كونه حقيقة كما سيأتي.
والعَرَض بفتح العين وفتح الراء الأمر الذي يزول ولا يدوم. ويراد به المال، ويراد به أيضاً ما يعرض للمرء من الشهوات والمنافع.
والأدنى الأقرب من المكان، والمراد به هنا الدنيا، وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير هذا العرض الذي رغبوا فيه...
.. والقول في: {ويقولون} هو الكلام اللساني، يقولون لمن ينكر عليهم ملابسة الذنوب وتناول الشهوات، لأن (ما) بعد يقولون يناسبه الكلام اللفظي، ويجوز أن يكون الكلام النفساني، لأنه فرع عنه، أي قولهم في أنفسهم يعللونها به حين يجيش فيها وازع النهي، فهو بنمزلة قوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} [المجادلة: 8] وذلك من غرورهم في الدين.
وبناء فعل « يُغفر» على صيغة المجهول لأن الفاعل معروف، وهو الله، إذ لا يصدر هذا الفعل إلاّ عنه، وللدلالة على أنهم يقولون ذلك على وجه العموم لا في خصوص الذنب الذي أنكر عليهم، أو الذي تلبَّسُوا به حين القول، ونائب الفاعل محذوف لعلمه من السياق، والتقدير: سيُغفر لنا ذلك، أو ذُنوبنا، لأنهم يحسبون أن ذنوبهم كلها مغفورة {وقالوا لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة} كما تقدم في سورة البقرة (80)، أي يغفر لنا بدون سبب المغفرة، وهو التوبة كما يعلم من السياق، وهو جزمهم بذلك عقب ذكر الذنب دون ذكر كفارة أو نحوها ...
... وجملة: {ويقولون سيُغفر لنا} معطوفة على جملة، {يأخذون} لأن كِلا الخبرين يوجب الذم، واجتماعهما أشد في ذلك.
وجملة: {وَإنْ يأتهم عرض مثلُه يأخذوه} معطوفة على التي قبلها، واستعير إتيان العرْض لبذله لهم إن كان المراد بالعرض المالَ، وقد يُراد به خطور شهوته في نفوسهم إن كان المراد بالعرض جميع الشهوات والملاذ المحرمة، واستعمال الإتيان في الذوات أنسب من استعماله في خطور الأعراض والأمور المعنوية، لقرب المشابهة في الأول دون الثاني.
والمعنى: أنهم يعصون، ويزعمون أن سيّئاتهم مغفورة، ولا يُقلعون عن المعاصي.
وجملة: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب} جواب عن قولهم: {سيُغفر لنا} إبطالاً لمضمونه، لأن قولهم: {سيغفر لنا} يتضمن أنهم يزعمون أن الله وعدهم بالمغفرة على ذلك، والجملة معترضة في أثناء الإخبار عن الصالحين وغيرهم، والمقصود من هذه الجملة إعلام النبي صلى الله عليه وسلم ليحجهم بها، فهم المقصود بالكلام. كما تشهد به قراءة {أفلا تعقلون} بتاء الخطاب.
والميثاق: العهد، وهو وصية موسى التي بلّغها إليهم عن الله تعالى في مواضع كثيرة، وإضافة الميثاق إلى الكتاب على معنى (في) أو على معنى اللام أي الميثاق المعروف به، والكتاب توراة موسى، وأن لا يقولوا هو مضمون ميثاق الكتاب فهو على حذف حرف الجر قبل (أن) الناصبة، والمعنى: بأن لا يقولوا، أي بانتفاء قولهم على الله غيرَ الحق، ويجوز كونه عطف بيان من ميثاق، فلا يقدر حرف جر، والتقدير: ميثاق الكتاب انتفاءُ قولهم على الله الخ.
وفعل {درسوا} عطف على {يؤخذ} ،. لأن يؤخذ في معنى المضي، لأجل دخول لم عليه، والتقدير: ألم يؤخذ ويدرسوا، لأن المقصود تقريرهم بأنهم درسوا الكتاب، لا الإخبار عنهم بذلك كقوله تعالى: {ألم نجعل الأرض مهاداً والجبالَ أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سُباتاً} إلى قوله {وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً} [النبإ: 6 14] والتقدير: ونخلقكم أزواجاً ونجعل نومكم سباتاً، إلى آخر الآية.
والمعنى: أنهم قد أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على الله إلاّ الحق، وهم عالمون بذلك الميثاق، لأنهم درسوا ما في الكتاب فبمجموع الأمرين قامت عليهم الحجة.
وجملة: {والدارُ الآخرة خير للذين يتقون} حالية من ضمير {يأخذون} أي: يأخذون ذلك ويكذبون على الله ويصرون على الذنب وينبذون ميثاق الكتاب على علم في حال أن الدار الآخرة خير مما تعجّلوه، وفي جعل الجملة في موضع الحال تعريض بأنهم يعلمون ذلك أيضاً فهم قد خيّروا عليه عرض الدنيا قصداً، وليس ذلك عن غفلة صادفتهم فحرمتهم من خير الآخرة، بل هم قد حَرموا أنفسهم، وقرينة ذلك قوله: {أفلا تعقلون} المتفرع على قوله: {والدار الآخرة خير للذين يتقون} وقد نُزلوا في تخيرهم عرض الدينا بمنزلة من لا عقول لهم، فخوطبوا ب {أفلا تعقلون} بالاستفهام الإنكاري، وقد قرئ بتاء الخطاب، على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
ليكون أوقع في توجبه التوبيخ إليهم مواجهة، وهي قراءةَ نافع، وابن عامر، وابن ذكوان، وحفص عن عاصم، ويعقوب، وأبي جعفر، وقرأ البقية بياء الغيبة، فيكون توبيخهم تعريضياً.
وفي قوله: {والدارُ الآخرة خير للذين يتقون} كناية عن كونهم خَسروا خير الآخرة بأخذهم عرض الدنيا بتلك الكيفية، لأن كون الدار الآخرة خيراً مما أخذوه يستلزم أن يكون ما أخذوه قد أفات عليهم خيرَ الآخرة.
وفي جعل الآخرة خير للمتقين كناية عن كون الذين أخذوا عَرض الدنيا بتلك الكيفية لم يكونوا من المتقين، لأن الكناية عن خسرانهم خيرَ الآخرة مع إثبات كون خير الآخرة للمتقين تستلزم أن الذين أضاعوا خير الآخرة ليسوا من المتقين، وهذه معان كثيرة جمعها قوله: {والدارُ الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} وهذا من حَد الإعجاز العجيب.