المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا يَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (41)

41- واعلموا - أيها المسلمون - أن ما ظفرتم به من مال الكفار فحكمه : أن يقسم خمسة أخماس ، خُمس منها لله وللرسول ولقرابة النبي واليتامى : وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم وهم فقراء ، والمساكين ، وهم ذوو الحاجة من المسلمين ، وابن السبيل : وهو المنقطع في سفره المباح . والمخصص من خُمس الغنيمة لله وللرسول يرصد للمصالح العامة التي يقررها الرسول في حياته ، والإمام بعد وفاته ، وباقي الخُمس يصرف للمذكورين . أما الأخماس الأربعة الباقية من الغنيمة - وسكتت عنها الآية - فهي للمقاتلين ، فاعلموا ذلك ، واعملوا به إن كنتم آمنتم بالله حقاً ، وآمنتم بما أنزل على عبدنا محمد من آيات التثبيت والمدد ، يوم الفرقان الذي فرَّقنا فيه بين الكفر والإيمان ، وهو اليوم الذي التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر ، والله عظيم القدرة على كل شيء ، وقد نصر المؤمنين مع قلتهم ، وخذل الكافرين مع كثرتهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا يَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (41)

وبعد هذا الحديث المتنوع عن مكر الكافرين وعن دعاويهم الكاذبة ، وعن وجوب مقاتلتهم إذا ما استمروا في طغيانهم وعدوانهم . . بعد كل ذلك بين - سبحانه - للمؤمنين كيفية قسمة الغنائم التي كثيرا ما تترب على قتال أعدائهم ، فقال - تعالى - : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ . . . } .

وقوله : { غَنِمْتُمْ } من الغنم بمعنى الفوز والربح يقال : غنم غنما وغنيمة إذا ظفر بالشئ قال القرطبى ما ملخصه : الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعى ، ومن ذلك قول الشاعر :

وقد طوفت في الآفاق حتى . . . رضيت من الغنيمة بالإِياب

واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله - تعالى - : { غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر .

وسمى الشرع الواصل من الكافر إلينا من الأموال باسمين : غنيمة وفيئا . فالشئ الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعى وإيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة . ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا .

والفئ مأخوذ من فاء يفئ إذا رجع ، وهو كل ما دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف . كخراج الأرضين ، وزية الجماجم .

والمعنى : الاجمالى للآية الكريمة : { واعلموا } - أيها المسلمون - { أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } أى : ما أخذتموه من الكفار قهراً { فَأَنَّ للَّهِ } الذي منه - سبحانه - النصر المتفرع عليه الغنيمة { خُمُسَهُ } أي خمس ما غنمتموه شكرا له على هذا النعمة { وَلِلرَّسُولِ } الذي هو سبب في هدايتكم { وَلِذِي القربى } أى : ولأصحاب القرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم والمراد بهم على الراجح بن هاشم وبنو المطلب .

{ واليتامى } وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم قبل أن يبلغوا .

{ والمساكين } وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين .

{ وابن السبيل } وهو المسافر الذي نفد ماله وهو في الطريق قبل أن يصل إلى بلده .

وقوله { واعلموا } معطوف على قوله قبل ذلك { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ . . . } الخ و { مَا } في قوله : { أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } موصولة والعائد محذوف .

وقوله : { مِّن شَيْءٍ } بيان الموصول محله النصب على أنه حال من العائد المقدر .

أى : أن ما غنمتموه من شئ سواء أكان هذا الشئ قليلا أم كثيرا { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } .

وقوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } خبر مبتدأ محذوف والتقدير : فحكمه أن لله خمسة والجار والمجرور خبر { أَنَّ } مقدم ، وخمسة اسمها مؤخر . والتقدير : فأن خمسه كائن لله وللرسول ولذى القربى . . إلخ .

وأعيدت اللام في قوله { وَلِذِي القربى } دون غيرهم من الأصناف التالية لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبى - صلى الله عليه وسلم - لمزيد اتصالهم به .

وقوله : { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله . . . } شرط جزاؤه محذوف .

أى : إن كنتم آمنتم بالله حق الإِيمان ، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - { يَوْمَ الفرقان } أي يوم بدر { يَوْمَ التقى الجمعان } أى : جمع المؤمنين وجمع الكافرين . . إن كنتم آمنتم بكل ذلك ، فاعملوا بما علمتم ، وارضوا بهذه القسمة عن إذعان وتسليم وحسن قبول .

وما أنزله الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر .

يتناول ما نزل من آيات قرآنية ، كما يتناول نزول الملائكة لتثبيت المؤمنين ، وتبشيرهم بالنصر كما يتناول غير ذلك مما أيدهم الله به في بدر .

وسمى يوم بدر بيوم الفرقان ، لأنه اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل وقوله { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل قصد به بيان أن ما أصابه المؤمنون يوم بدر من غنيمة ونصر إنما هو بقدرة الله التي لا يعجزها شئ فعليهم أن يداموا على طاعته وشكره ليزيدهم من عطائه وفضله .

هذا ، وقد ذكر العلماء عند تفسيره لهذه الآية جملة من المسائل والأحكام من أهمها ما يأتى :

1- أن هذه الآية وضحت أن غنائم الحرب تخمس فيجعل الخمس الأول منها لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، والأربعة الأخماس الباقية بينت السنة أنها تقسم على الجيش : للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم أو سهمان .

قال ابن كثير : ويؤيد هذا ما رواه البيهقى بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال : أتيت النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو بوادى القرى ، وهو معترض فرسا فقلت : يا رسول الله ، ما تقول في الغنيمة ، فقال : لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش ، قلت : فما أحد أولى به من أحد ، قال : لا ، ولا السهم تستخرجه من جيبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم .

وقال بعض العلماء : أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه ، وصرف الخمس إلى من ذكره الله - تعالى - وقسمه الباقى بين الغانمين بالعدل ، للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه . هكذا قسم النبى - صلى الله عليه وسلم الغنائم عام خيبر .

ومن الفقهاء من يقول : للفارس سهمان . والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤمنة نفسه وسائسه ، ومنفعة الفارس بن أكثر من منفعة رجلين .

ويجب قسمتها بينهم بالعدل ، فلا يحابى أحدا ، لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله وفى صحيح البخارى " أن سعد بن أبى وقاص رأى أن له فضلا على من دونه ، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم "

ذهب جمهور العلماء إلى ان المقصود بإِيتاء لفظ الجلالة في قوله { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } : التبرك والتعظيم والحض على إخلاص النية عند القسمة وعلى الامتثال والطاعة له - سبحانه - .

وليس المقصود أن يقسم الخمس على ستة منها الله - تعالى - ، فإنه سبحانه - له الدنيا والآخرة ، وله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما .

وعليه يكون خمس الغنيمة مقسما على خمسة أقسام : للرسول ، ولذى القربى واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل .

ويرى أبو العالية والربيع والقاسم أن هذا الخمس يقسم إلى ستة أقسام ، عملا بظاهر الآية ، وأن سهم الله - تعالى - يصرف في وجوه الخير ، أو يؤخذ للكعبة .

وقد رجح ابن جرير رأى الجمهور فقال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب من قال : قوله { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } افتتاح كلام ، وذلك لاجتماع الحجة على أن الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم . ولو كان لله فيه سهم - كما قال ابو العالية - لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسوما على ستة أسهم . وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها .

فأما على أكثر من ذلك فلا نعلم قائلا غير الذي ذكرناه من الخبر عن أبى العالية . وفى إجماع من ذكرت - الدلالة الواضحة على ما اخترناه .

وسهم النبى - صلى الله عليه وسلم - جعله الله - تعالى - له في قوله { وَلِلرَّسُولِ } كان مفوضا إليه في حياته ، يتصرف فيه كما شاء ، ويضعه حيث يشاء .

روى الإِمام أحمد " أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت : يا عبادة ، ما كلمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ؟ فقال عبادة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم . فلما سلم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتناول وبرة فقال : إن هذه من غنائمكم ، وأنه ليس لى فيها إلا نصيبى معكم الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلو نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا الحدود في الحضر والسفر ، وجاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة . ينجى الله به من الغم والهم " ، قال ابن كثير : هذا حديث حسن عظيم .

وروى أبو داود والنسائى " عن عمور بن عبسة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم إلى بعير من الغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : ولا يحل لى من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس ، والخمس مردودة عليكم " .

هذا بالنسبة لسهمه - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، أما بعد وفاته ، فمنهم من يرى : أن سهمه - صلى الله عليه وسلم - يكون لمن يلى الأمر من بعده . روى هذا عن أبى بكر وعلى قتادة وجماعة . .

ومنهم من يرى أن سهمه - صلى الله عليه وسلم - يصرف في مصالح المسلمين . روى ابن جرير عن الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبى - صلى الله عليه وسلم - في الكراع والسلاح .

ومنهم من يرى صرفه لبقية الأصناف : ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .

وقد رجح ابن جرير هذا الرأى فقال : والصواب من القول في ذلك عندنا : ان سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على أربعة اسهم على ما روى عن ابن عبسا : للقرابة سهم ، ولليتامى سهم ، وللمساكين سهم ، ولابن السبيل سهم ، لأن الله - تعالى - أوجب الخمس لأقوام موصوفين بصفات ، كما أوجب الأربعة الأخماس الآخرين . وقد اجمعوا أن حق أهل الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم ، فكذلك حق أهل الخمس لن يستحقه غيرهم ، فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم . .

4- المراد بذى القربى - كما سبق أن أشرنا - بنو هاشم وبنو المطلب على الراجح . وعليه فإن السهم المخصص لذى القربى لا يصرف إلى لهم .

قال القرطبى ما ملخصه : اختلف العلماء في ذوى القربى على ثلاثة أقوال :

أولها : أن المراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب . " قاله الشافعى وأحمد وأبو ثور ومجاهد . . لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما قسم سهم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلق قال : " إنهم لم يفارقونى في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد " وشبك بين أصابعه " أخرجه البخارى والنسائى .

ثالثها : أن المراد بهم بنو هاشم خاصة . قاله مجاهد وعلى بن الحسين . وهو قول مالك والثورى والأوزاعى وغيرهم .

وقال الآلوسى : وكيفية القسمة عند الأصحاب أنها كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خمسة أسهم سهم له - صلى الله عليه وسلم - للمذكورين من ذوى القربى ، وثلاثة أسهم للاصناف الثلاثة الباقية .

وأما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فسقط سهمه . . وكذا سقط سهم ذوى القربى ، وإنما يعطون بالفقر ، ويقدم فقراؤهم على فقراء غيرهم ، ولا حق لأغنيائهم ، لأن الخلفاء الأربعة قسموا الخمس كذلك وكفى بهم قدوة . .

ثم قال : ومذهب المالكية أن الخمس لا يلزم تخمسه ، وأنه مفوض إلى رأى الإِمام .

- أي انهم يرون أن خمس الغنيمة يجعل في بيت المال فينفق منه على ما ذكر وعلى غيرهم بحسب ما يراه الأمام من مصلحة المسلمين ، وكأنهم يرون أن هذه الأصناف إنما ذكرت على سبيل المثال ، وأنها من باب الخاص الذي قصد به العام ، بينما يرى غيرهم أن هذه الاصناف من باب الخاص الذي قصد به الخاص .

ثم قال : ومذهب الإِمامية أنه ينقسم إلى ستة أسهم كما ذهب أبو بالعالية ، إلا أنهم قالوا : إن سهم الله - تعالى - ، وسهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسهم ذوى القربى الكل للإِمام القائم مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أما الاسهم الثلاثة الباقية فهم لليتامى من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - وسهم لمساكينهم ، وسهم لآبناء سبيلهم ، لا يشركهم في ذلك غيرهم .

رووا ذلك عن زين العابدين ، ومحمد بن على الباقر .

ثم قال : والظاهر أن الاسهم الثلاثة الأولى التي ذكروها اليوم تخبأ في السرداب ، إذ القام مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد غاب عندهم فتخبأ له حتى يرجع من غيبته . .

هذا ، ومن كل ما سبق نرى أن أكثر العلماء يرون أن خمس الغنيمة يقسم إلى خمسة أقسام ، ومنهم من يرى أنه يقسم الى ستة أقسام ، ومنهم من يرى أنه لا يلزم تقسيمه إلى خمسة أقسام أو الى ستة ، وإنما هو موكول إلى نظر الإِمام واجتهاده . . ومنهم من يرى غير ذلك ، ولكل فريق أدلة المبسوطة في كتب الفروع .

5- ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - في مطلع السورة { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال . . . } أن المراد بالأنفال : الغنائم وعليه تكون الآية التي معنا وهى قوله { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } مفصلة لما أجملته الآية التي في مطلع السورة .

أى أن الآية التي في مطلع السورة بينت أن الأمر في قسمة الانفال مفوض إلى الله ورسوله ، ثم جاءت الآية التي معنا ففصلت كيفية قسمة الغنائم حتى لا يتطلع أحد إلى ما ليس من حقه .

وهذا أولى من قول بعضهم : إن الآية التي معنا نسخت الآية التي في مطلع السورة : لأن النسخ لا يصار إليه عند التعارض وهنا لا تعارض بين الآيتين .

6- الآية الكريمة أرشدت المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم أن يخلصوا في طاعتهم لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يجعلوا غياتهم من جهادهم إعلاء كلمة الله ، لكى يكونوا مؤمنين حقا .

ويشعر بهذا الإِرشاد تصديره - سبحانه - الآية بقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } كما يشعر به قوله - تعالى - { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان . . } ، فإن كل ذلك فيه معنى الحض على إخلاص النية لله - تعالى - والامتثال لحكمه ، والمداومة على شكره ، حيث منحهم - سبحانه - هذه النعم بفضله وإحسانه .

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : بم تعلق قوله { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله } : قلت بمحذوف يدل عليه قوله { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به ، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة . ولس المراد بالعلم المجرد ، ولكنه العلم المضمن بالعمل ، والطاعة لأمر الله - تعالى - ، لأن العلم المجرد يستوى فيه المؤمن والكافر .

هذه بعض المسائل والأحكام التي استنبطناها من الآية الكريمة ، وهناك مسائل وأحكام اخرى تتعلق بها ذكرها بعض المفسرين فارجع إليه إن شئت .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا يَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (41)

يتألف هذا الجزء من بقية سورة الأنفال - التي وردت أوائلها في الجزء التاسع - ومن قسم كبير من سورة التوبة . . وسنمضي أولاً مع بقية الأنفال ، أما سورة التوبة فسنعرّف بها في موضعها من هذا الجزء إن شاء الله .

لقد ألممنا بالخطوط الرئيسية للسورة في مطلعها عند نهاية الجزء التاسع . وهذه البقية منها تمضي على هذه الخطوط الرئيسية فيها . . إلا أن الظاهرة التي تلمح بوضوح في سياق السورة ، هي أن هذا الشطر الأخير منها ، يكاد يكون مماثلا في سياقه وترتيب موضوعاته للشطر الأول منها ، ومع انتفاء التكرار بسبب تجدد الموضوعات ، إلا أن ترتيب هذه الموضوعات في السياق يكاد يجعل هذا الشطر دورة ، والشطر الأول دورة ، بينهما هذا التناسق العجيب !

لقد بدأ الشطر الأول بالحديث عن الأنفال وتنازعهم عليها ؛ فردها إلى اللّه والرسول . . ثم دعاهم إلى التقوى ، وبين لهم حقيقة الإيمان ليرتفعوا إليها . . ثم كشف لهم عن تدبير الله وتقديره في الموقعة التي يتنازعون أنفالها ، مستحضراً جانباً من مواقف المعركة مشاهدها ، فإذا التدبير كله للّه والمدد كله من الله ، والمعركة كلها مسوقة لتحقيق إرادة الله وإن هم فيها إلا ستار وأداة . . ثم أهاب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند الزحف ؛ وطمأنهم إلى نصرة اللّه ومعيته ، وإلى تخذيل اللّه لأعدائهم وأخذهم بذنوبهم . . ثم حذرهم خيانة اللّه وخيانة الرسول وفتنة الأموال والأولاد ؛ وأمر الرسول - [ ص ] - أن يحذر الذين كفروا عاقبة ما هم فيه ؛ وأن يقبل منهم الاستجابة - لو استجابوا - ويكل خبيئهم إلى اللّه ؛ وأمر المسلمين أن يقاتلوهم إن تولوا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للّه . .

وكذلك يسير هذا الشطر الثاني . . يبدأ ببيان حكم اللّه في الغنائم - بعد أن ردها إلى اللّه ورسوله - ثم يدعوهم إلى الإيمان باللّه وما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . ثم يكشف لهم عن تدبير اللّه وتقديره في الموقعة التي جاءت بهذه الغنائم ؛ ويستحضر جانبا آخر من مواقف المعركة ومشاهدها ، يتجلى فيه هذا التقدير وذلك التدبير ، كما يتجلى فيه أنهم لم يكونوا سوى أداة لقدر اللّه وستار . . ثم يهيب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند اللقاء ، وإلى ذكر اللّه ، وطاعته وطاعة رسوله ؛ ويحذرهم التنازع مخافة الفشل والانكسار ؛ ويدعوهم إلى الصبر ؛ وتجنب البطر والرياء في الجهاد ؛ ويحذرهم عاقبة الكفار الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، منخدعين بمكر الشيطان ؛ ويدعوهم إلى التوكل على الله وحده ، القوي القادر على النصر الحكيم في تقديره وتدبيره . . ثم يريهم سنة اللهفي أخذ الكافرين المكذبين بذنوبهم . . وكما ذكر الملائكة في الشطر الأول وهم يثبتون المؤمنين ويضربون أعناق الكفار وأيديهم ، فكذلك يذكر في هذا الشطر الثاني أن الملائكة يتوفون الذين كفروا يضربون وجوههم وأدبارهم . . وكما قال في الشطر الأول عن الذين كفروا : إنهم شر الدواب ، فكذلك يكرر هنا هذا الوصف بمناسبة الحديث عن نقضهم لعهدهم كلما عاهدوا ، وتمهيدا لما يأمر به الله رسوله [ ص ] من أحكام التعامل معهم في الحرب والسلم ؛ وهي أحكام مفصلة للعلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات المعادية والمسالمة ، بعضها أحكام نهائية ، وبعضها أحكام استكملت فيما بعد في سورة التوبة .

وإلى هنا تكاد تكون هذه الدورة الثانية في السورة مطابقة - من حيث طبيعة الموضوعات ومن حيث ترتيبها في السياق - لما جاء في الدورة الأولى ، مع شيء من التفصيل في أحكام المعاملات بين المعسكر الإسلامي وسائر المعسكرات .

ثم تزيد في ختام السورة موضوعات وأحكام أخرى متصلة بها ، ومكملة لها :

يذكر الله - سبحانه - رسوله [ ص ] والذين آمنوا معه ، بمنته عليهم في تأليف قلوبهم ، وقد كانت مستعصية على التأليف لولا إرادة الله ورحمته ومنته .

ويطمئنهم الله كذلك إلى كفايته لهم وحمايته . . ومن ثم يأمر رسوله بتحريضهم على القتال ؛ ويريهم أنهم بإيمانهم - إذا صبروا - أكفاء لعشرة أضعافهم من الذين كفروا الذين لا يفقهون ، لأنهم لا يؤمنون ! وأنهم في أضعف حالاتهم أكفاء لضعفهم من الذين كفروا - متى صبروا . والله مع الصابرين .

ثم يعاتبهم الله سبحانه على قبولهم الفدية في الأسرى ؛ وهم لم يثخنوا في الأرض بعد ، ولم يخضدوا شوكة عدوهم ؛ ولم يستقر سلطانهم وتثبت دولتهم . فيقرر بهذا منهج الحركة الإسلامية في المراحل المختلفة والأحوال المتعددة ، ويدل على مرونة هذا المنهج وواقعيته في مواجهة الواقع في المراحل المختلفة . . وكذلك يبين الله لهم كيف يعاملون من في أيديهم من الأسرى ، وكيف يحببونهم في الإيمان ، ويزينونه في قلوبهم ؛ ثم يخذل الله هؤلاء الأسرى عن محاولة الخيانة مرة أخرى وييئسهم من جدواها ؛ فالله الذي أمكن منهم أول مرة حين خانوه بالكفر ، سيمكن منهم مرة أخرى لو خانوا رسوله [ ص ] .

وأخيراً تجيء الأحكام المنظمة لعلاقات الجماعة المسلمة فيما بينها ، وعلاقاتها بالمجموعات التي تدخل في الإسلام ، ولكنها لا تلحق بدار الإسلام ، ثم علاقاتها بالذين كفروا في حالات معينة ، ومن حيث المبدأ العام أيضاً . حيث تتجلى في هذه الأحكام طبيعة التجمع الإسلامي ؛ وطبيعة المنهج الإسلامي كله ؛ وحيث يبدو بوضوح كامل أن " التجمع الحركي " هو قاعدة الوجود الإسلامي ، الذي تنبثق منه أحكامه في المعاملات الداخلية والخارجية ؛ وأنه لا يمكن فصل العقيدة والشريعة في هذا الدين عن الحركة والوجود الفعلي للمجتمع المسلم .

وهذا حسبنا في هذا التمهيد القصير ، لنواجه بعده النصوص القرآنية بالتفصيل :

41

( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . والله على كل شيء قدير ) . .

وبين الروايات المأثورة والآراء الفقهية خلاف طويل . . أولاً : حول مدلول " الغنائم " ومدلول " الأنفال " هل هما شيء واحد ، أم هما شيئان مختلفان ? وثانياً : حول هذا الخمس - الذي يتبقى بعد الأخماس الأربعة التي منحها الله للمقاتلين - كيف يقسم ? وثالثاً : حول خمس الخمس الذي لله . أهو الخمس الذي لرسول الله ، أم هو خمس مستقل ? : ورابعا : حول خمس الخمس الذي لرسول الله [ ص ] أهو خاص به أم ينتقل لكل إمام بعده ? وخامساً : حول خمس الخمس الذي لأولي القربى ، أهو باق في قرابة رسول الله [ ص ] من بني هاشم وبني عبد المطلب ، كما كان على عهد رسول الله [ ص ] ، أم يرجع إلى الإمام يتصرف فيه ? وسادساً : أهي أخماس محددة يقسم إليها الخمس ، أم يترك التصرف فيه كله لرسول الله [ ص ] ولخلفائه من بعده ? . . . وخلافات أخرى فرعية .

ونحن - على طريقتنا في هذه الظلال - لا ندخل في هذه التفريعات الفقهية التي يحسن أن تطلب في مباحثها الخاصة . . هذا بصفة عامة . . وبصفة خاصة فإن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعا إسلاميا يواجهنا اليوم أصلا . فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة ، لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة مسلمة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله ، ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها ! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية أول مرة ؛ ورجع الناس إلى الجاهلية التي كانوا عليها ، فأشركوا مع الله أرباباً أخرى تصرف حياتهم بشرائعها البشرية ! ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد إلى الدخول فيه . . إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية والسلطان . والتلقي في هذا الشأن عن رسول الله وحده ! وإلى التجمع تحت قيادة مسلمة تعمل لإعادة إنشاء هذا الدين في حياة البشر ، والتوجه بالولاء كله لهذا التجمع ولقيادته المسلمة ؛ ونزع هذا الولاء من المجتمعات الجاهلية وقياداتها جميعاً .

هذه هي القضية الحية الواقعية التي تواجه اليوم هذا الدين ؛ وليس هناك - في البدء - قضية أخرى سواها . . ليس هناك قضية غنائم ، لأنه ليس هناك قضية جهاد ! بل ليس هناك قضية تنظيمية واحدة ، لا في العلاقات الداخلية ولا في العلاقات الخارجية ، وذلك لسبب بسيط : هو أنه ليس هناك مجتمع إسلامي ذو كيان قائم مستقل ، يحتاج إلى الأحكام التي تضبط العلاقات فيه والعلاقات بينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى ! ! !

والمنهج الإسلامي منهج واقعي ، لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل ؛ ومن ثم لا يشتغل أصلاً بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع ! . . إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام ! هذا ليس منهج هذا الدين . هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية ، حيث لا مقابل لها من الواقع أصلا ! بدلا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين نفسه : دعوة إلى لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؛ ينشأ عنها دخول فئة في هذا الدين من جديد - كما دخل فيه الناس أول مرة - كما ينشأ عن هذا الدخول في الدين تجمع حركي ذو قيادة مسلمة وذو ولاء خاص به وذو كينونة مستقلة عن المجتمعات الجاهلية . . ثم يفتح الله بينه وبين قومه بالحق . . ثم يحتاج حينئذ - وحينئذ فقط - إلى الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه ؛ كما يحتاج إلى الأحكام التي تنظم علاقاته مع غيره . . وحينئذ - وحينئذ فقط - يجتهد المجتهدون فيه لاستنباط الأحكام التي تواجه قضاياه الواقعية - في الداخل وفي الخارج - وحينئذ - وحينئذ فقط - تكون لهذا الاجتهاد قيمته ، لأنه تكون لهذا الاجتهاد جديته وواقعيته !

من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين ، لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم ؛ حتى يحين وقتها عندما يشاء الله ؛ وينشأ المجتمع الإسلامي ، ويواجه حالة جهاد فعلي ، تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام ! وحسبنا - في هذه الظلال - أن نتتبع الأصل الإيماني في السياق التاريخي الحركي ، والمنهج القرآني التربوي . فهذا هو العنصر الثابت ، الذي لا يتأثر بالزمن في هذا الكتاب الكريم . . وكل ما عداه تبع له وقائم عليه :

إن الحكم العام الذي تضمنه النص القرآني :

( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ) .

يتلخص في رد أربعة أخماس كل شيء من الغنيمة إلى المقاتلين ، واستبقاء الخمس يتصرف فيه رسول الله [ ص ] والأئمة المسلمون القائمون على شريعة الله المجاهدون في سبيل الله ، من بعده في هذه المصارف : لله وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . . بما يواجه الحاجة الواقعة عند وجود ذلك المغنم . . . وفي هذا كفاية . .

أما التوجيه الدائم بعد ذلك فهو ما تضمنه شطر الآية الأخير :

( إن كنتم آمنتم بالله ، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ، والله على كل شيء قدير ) . .

إن للإيمان إمارات تدل عليه ؛ والله - سبحانه - يعلق الاعتراف لأهل بدر - وهم أهل بدر - بأنهم آمنوا بالله ، وبما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . يعلق الاعتراف لأهل بدر هؤلاء بالإيمان ، على قبولهم لما شرع الله لهم في أمر الغنائم في صدر الآية ؛ فيجعل هذا شرطاً لاعتبارهم عنده قد آمنوا بالله وبما أنزله على عبده من القرآن ؛ كما يجعله مقتضى لإعلانهم الإيمان لا بد أن يتحقق ليتحقق مدلول هذا الإعلان .

وهكذا نجد مدلول الإيمان - في القرآن - واضحاً جازماً لا تميع فيه ، ولا تفصيص ولا تأويل مما استحدثته التطويلات الفقهية فيما بعد ، عندما وجدت الفرق والمذاهب والتأويلات ، ودخل الناس في الجدل والفروض المنطقية الذهنية ، كما دخل الناس - بسبب الفرق المذهبية والسياسية - في الاتهامات ودفع الاتهامات ؛ وصار النبز بالكفر ، ودفع هذا النبز ، لا يقومان على الأصول الواضحة البسيطة لهذا الدين ؛ إنما يقومان على الغرض والهوى ومكايدة المنافسين والمخالفين ! عندئذ وجد من ينبز مخالفيه بالكفر لأمور فرعية ؛ ووجد من يدفع هذا الاتهام بالتشدد في التحرج والتغليظ على من ينبز غيره بهذه التهمة . . وهذا وذلك غلو سببه تلك الملابسات التاريخية . . أما دين الله فواضح جازم لا تميع فيه ولا تفصيص ولا غلو . . " ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل " . . ولا بد لقيامه من قبول ما شرع الله وتحقيقه في واقع الحياة . . والكفر : رفض ما شرع الله ، والحكم بغير ما أنزل الله ، والتحاكم إلى غير شرع الله . . في الصغير وفي الكبير سواء . . أحكام صريحة جازمة بسيطة واضحة . . وكل ما وراءها فهو من صنع تلك الخلافات والتأويلات . .

وهذا نموذج من التقريرات الصريحة الواضحة الجازمة من قول الله سبحانه :

( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) . .

ومثله سائر التقريرات الواضحة الجازمة الصريحة التي ترسم حقيقة الإيمان وحدوده في كتاب الله .

لقد نزع الله ملكية الغنيمة ممن يجمعونها في المعركة ؛ وردها الى الله والرسول - في أول السورة - ليخلص الأمر كله لله والرسول ؛ وليتجرد المجاهدون من كل ملابسة من ملابسات الأرض ؛ وليسلموا أمرهم كله - أوله وآخره - لله ربهم وللرسول قائدهم ؛ وليخوضوا المعركة لله وفي سبيل الله ، وتحت راية الله ، طاعة لله ؛ يحكمونه في أرواحهم ، ويحكمونه في أموالهم ويحكمونه في أمرهم كله بلا تعقيب ولا اعتراض . . فهذا هو الايمان . . كما قال لهم في مطلع السورة وهو ينتزع منهم ملكية الغنيمة ويردها إلى الله ورسوله : ( يسألونك عن الأنفال . قل الأنفال لله والرسول ، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، وأطيعوا الله ورسوله . . إن كنتم مؤمنين )

حتى إذا استسلموا لأمر الله ، وارتضوا حكمه ذاك ، فاستقر فيهم مدلول الإيمان . . عاد ليرد عليهم أربعة أخماس الغنيمة ، ويستبقي الخمس على الأصل - لله والرسول - يتصرف فيه رسول الله [ ص ] ، وينفق منه على من يعولهم في الجماعة المسلمة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . عاد ليرد عليهم الأخماس الأربعة ، وقد استقر في نفوسهم أنهم لا يملكونها ابتداء بحق الغزو والفتح ، فهم إنما يغزون لله ويفتحون لدين الله ؛ إنما هم يستحقونها بمنح الله لهم إياها ؛ كما أنه هو الذي يمنحهم النصر من عنده ؛ ويدبر أمر المعركة وأمرهم كله . . وعاد كذلك ليذكرهم بأن الاستسلام لهذا الأمر الجديد هو الإيمان . . هو شرط الإيمان ، وهو مقتضى الإيمان . .

واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . .

وهكذا تتواتر النصوص ، لتقرر أصلا واضحاً جازماً من أصول هذا الدين في اعتبار مدلول الإيمان وحقيقته وشرطه ومقتضاه .

ثم نقف أمام وصف الله - سبحانه - لرسوله [ ص ] بقوله : ( عبدنا )في هذا الموضع الذي يرد إليه فيه أمر الغنائم كلها ابتداء ، وأمر الخمس المتبقي أخيراً :

( إن كنتم آمنتم بالله ، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) . .

إنه وصف موحٍ . . إن العبودية لله هي حقيقة الإيمان ؛ وهي في الوقت ذاته أعلى مقام للإنسان يبلغ إليه بتكريم الله له ؛ فهي تجلى وتذكر في المقام الذي يوكل فيه إلى رسول الله [ ص ] التبليغ عن الله ، كما يوكل إليه فيه التصرف فيما خوله الله .

وإنه لكذلك في واقع الحياة ! إنه لكذلك مقام كريم . . أكرم مقام يرتفع إليه الإنسان . .

إن العبودية لله وحده هي العاصم من العبودية للهوى ، والعاصم من العبودية للعباد . . وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له ، إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه .

إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده ، يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى . يقعون من فورهم عبيداً لهواهم وشهواتهم ونزواتهم ودفعاتهم ؛ فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع " الإنسان " من بين سائر الأنواع ؛ وينحدرون في سلم الدواب فإذا هم شر الدواب ، وإذا هم كالأنعام بل هم أضل ، وإذا هم أسفل سافلين بعد أن كانوا - كما خلقهم الله - في أحسن تقويم .

كذلك يقع الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله في شر العبوديات الأخرى وأحطها . . يقعون في عبودية العبيد من أمثالهم ، يصرفون حياتهم وفق هواهم ، ووفق ما يبدو لهم من نظريات واتجاهات قصيرة النظر ، مشوبة بحب الاستعلاء ، كما هي مشوبة بالجهل والنقص والهوى !

ويقعون في عبودية " الحتميات " التي يقال لهم : إنه لا قبل لهم بها ، وإنه لا بد من أن يخضعوا لها ولا يناقشوها . . " حتمية التاريخ " . . و " حتمية الاقتصاد " . . و " حتمية التطور " وسائر الحتميات المادية التي تمرغ جبين " الإنسان " في الرغام وهو لا يملك أن يرفعه ، ولا أن يناقش - في عبوديته البائسة الذليلة - هذه الحتميات الجبارة المذلة المخيفة !

ثم نقف كذلك أمام وصف الله - سبحانه - ليوم بدر بأنه يوم الفرقان :

( إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) . .

لقد كانت غزوة بدر - التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده - فرقاناً . . فرقاناً بين الحق والباطل - كما يقول المفسرون إجمالاً - وفرقاناً بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيراً . .

كانت فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً . . ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض ، وقامت عليه فطرة الأشياء والأحياء . . الحق الذي يتمثل في تفرد الله - سبحانه - بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير ، وفي عبودية الكون كله : سمائه وأرضه ، أشيائه وأحيائه ، لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد ، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك . . والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك ؛ ويغشي على ذلك الحق الأصيل ؛ ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء ، وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء ! . . فهذا هو الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر ؛ حيث فرق بين ذلك الحق الكبير وهذا الباطل الطاغي ؛ وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان !

لقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق ، على أبعاد وآماد : كانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير . . فرقاناً بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور ، وفي الخلق والسلوك ، وفي العبادة والعبودية ؛ وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات . . .

وكانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك . . فرقانا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء ، وللقيم والأوضاع ، وللشرائع والقوانين ، وللتقاليد والعادات . . . وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره ولا متسلط سواه ولا حاكم من دونه ، ولا مشرع إلا إياه . . فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله ؛ وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه ؛ وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة . .

وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية : عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار . وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع . . والإسلام بوصفه تصورا جديدا للحياة ، ومنهجا جديدا للوجود الإنساني ، ونظاما جديداً للمجتمع ، وشكلاً جديداً للدولة . . بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير " الإنسان " في " الأرض " بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته ، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته . . الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع ، لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد . لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه ، تتمثل في شعائر تعبدية لله ، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم . ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد ، والمنهج الجديد ، والدولة الجديدة ، والمجتمع الجديد ، في واقع الحياة ؛ وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً ؛ ثم في حياة البشرية كلها أخيراً . . وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله . .

وكانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ البشرية . . فالبشرية بمجموعها قبل قيام النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام . . هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام . وهذا النظام الجديد الذي انبثق من هذا التصور . وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلاداً جديداً للإنسان . وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها ويقوم عليها النظام الاجتماعي والتشريع القانوني سواء . . هذا كله لم يعد ملكاً للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر وتوكيد وجود المجتمع الجديد . إنما صار - شيئا ًفشيئا - ملكاً للبشرية كلها ؛ تأثرت به سواءفي دار الإسلام أم في خارجها ، سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته ! . . والصليبيون الذين زحفوا من الغرب ، ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه ، قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاءوا ليحطموه ؛ وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائدا عندهم ، بعد ما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي ! والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه - بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام ! - قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية ؛ وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة ؛ وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوربا ! . . وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله - منذ وقعة بدر - متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام ، أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء .

وكانت فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة . فجرت وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين ؛ وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة ، حتى لقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ( غر هؤلاء دينهم ) . . وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو - وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة - لتكون فرقاناً بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة ؛ ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد ؛ فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية ، لا لمجرد السلاح والعتاد ؛ وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية ، لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة ؛ وأن هذا ليس كلاماً يقال ، إنما هو واقع متحقق للعيان .

وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل بمدلول آخر . ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى في أوائل هذه السورة :

( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) .

لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين ، إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة . فأراد الله لهم غير ما أرادوا . أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان [ غير ذات الشوكة ] وأن يلاقوا نفير أبي جهل [ ذات الشوكة ] وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر ؛ ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة ! وقال لهم الله - سبحانه - إنه صنع هذا :

( ليحق الحق ويبطل الباطل ) . .

وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة . . إن الحق لا يحق ، وإن الباطل لا يبطل - في المجتمع الإنساني - بمجرد البيان " النظري " للحق والباطل . ولا بمجرد الاعتقاد " النظري " بأن هذا حق وهذا باطل . . إن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس ؛ وإن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس . إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق ، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا ، ويهزم جند الباطل ويندحروا . . فهذا الدين منهج حركي واقعي ، لا مجرد " نظرية " للمعرفة والجدل ! أو لمجرد الاعتقاد السلبي !

ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة ؛ وكان هذا النصر العملي فرقاناً واقعياً بين الحق والباطل بهذا الاعتبارالذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته - سبحانه -من وراء المعركة ، ومن وراء إخراج الرسول [ ص ] من بيته بالحق ؛ ومن وراء إفلات القافلة [ غير ذات الشوكة ] ولقاء الفئة ذات الشوكة . .

ولقد كان هذا كله فرقاناً في منهج هذا الدين ذاته ، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم . . وإنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته ؛ حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين ! حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين !

وهكذا كان يوم بدر ( يوم الفرقان يوم التقى الجمعان )بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة . .

( والله على كل شيء قدير ) . .

وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء . . مثل لا يجادل فيه مجادل ، ولا يماري فيه ممار . . مثل من الواقع المشهود ، الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله . وأن الله على كل شيء قدير .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا يَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (41)

{ وَاعْلَمُوَا أَنّمَا غَنِمْتُمْ مّن شَيْءٍ فَأَنّ للّهِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .

قال أبو جعفر : وهذا تعليم من الله عزّ وجلّ المؤمنين قسم غنائمهم إذا غنموها ، يقول تعالى ذكره : واعلموا أيها المؤمنون أنما غنمتم من غنيمة .

واختلف أهل العلم في معنى الغنيمة والفيء ، فقال بعضهم : فيهما معنيان كلّ واحد منهما غير صاحبه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن الحسن بن صالح ، قال : سألت عطاء بن السائب عن هذه الاَية : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ ، وهذه الاَية : ما أفاءَ اللّهُ عَلى رسُولهِ ، قال : قلت : ما الفيء وما الغنيمة ؟ قال : إذا ظهر المسلمون على المشركين وعلى أرضهم ، وأخذوهم عنوة فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو غنيمة ، وأما الأرض فهي في سوادنا هذا فيء .

وقال آخرون : الغنيمة ما أُخذ عَنْوة . والفيء : ما كان عن صلح . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان الثوري ، قال : الغنيمة : ما أصاب المسلمون عنوة بقتال فيه الخمس ، وأربعة أخماسه لمن شهدها . والفيء : ما صولحوا عليه بغير قتال ، وليس فيه خمس ، هو لمن سَمّى الله .

وقال آخرون : الغنيمة والفيء بمعنى واحد . وقالوا : هذه الاَية التي في الأنفال ناسخة قولَه : ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرسُولِ . . . الاَية . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أهْلِ القُرَى فَلَلّهِ وللرسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ قال : كان الفيء في هؤلاء ، ثم نسخ ذلك في سورة الأنفال ، فقال : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبيلِ ، فنسخت هذه ما كان قبلها في سورة الحشر ، وجعل الخمس لمن كان له الفيء في سورة الحشر ، وسائر ذلك لمن قاتل عليه .

وقد بيّنا فيما مضى الغنيمة ، وأنها المال يوصل إليه من مال من خوّل الله ماله أهل دينه بغلبة عليه وقهر بقتال . فأما الفيء ، فإنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال أهل الشرك ، وهو ما ردّه عليهم منها بصلح ، من غير إيجاف خيل ولا ركاب . وقد يجوز أن يسمى ما ردّته عليهم منها سيوفهم ورماحهم وغير ذلك من سلاحهم فيئا ، لأن الفيء إنما هو مصدر من قول القائل : فاء الشيء يَفيءُ فَيْئا : إذا رجع ، وأفاءه الله : إذا ردّه . غير أن الذي ورد حكم الله فيه من الفيء يحكيه في سورة الحشر إنما هو ما وصفت صفته من الفيء دون ما أوجف عليه منه بالخيل والركاب ، لعلل قد بينتها في كتابنا : «كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الدين » وسنبينه أيضا في تفسير سورة الحشر إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى .

وأما قول من قال : الاَية التي في سورة الأنفال ناسخة الاَية التي في سورة الحشر فلا معنى له ، إذ كان لا معنى في إحدى الاَيتين ينفي حكم الأخرى . وقد بيّنا معنى النسخ ، وهو نفي حكم قد ثبت بحكم بخلافه ، في غير موضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وأما قوله : مِنْ شَيْءٍ فإنه مراد به كل ما وقع عليه اسم شيء مما خوّله الله المؤمنين من أموال من غلبوا على ماله من المشركين مما وقع فيه القسم حتى الخيط والمخيط . كما

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قوله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ، قال : المخيط من الشيء .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد بمثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .

القول في تأويل قوله تعالى : فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : قوله : فَأنّ للّهِ خُمُسَهُ مفتاح كلام ، ولله الدنيا والاَخرة وما فيهما ، وإنما معنى الكلام : فأن للرسول خمسه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال : سألت الحسن عن قول الله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ ، قال : هذا مفتاح كلام ، لله الدنيا والاَخرة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال : سألت الحسن بن محمد ، عن قوله : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ ، قال : هذا مفتاح كلام ، لله الدنيا والاَخرة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا أبو شهاب ، عن ورقاء ، عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خَمّسَ الغنيمة فضرب ذلك الخُمْسَ في خمسة ، ثم قرأ : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرسُولِ . قال : وقوله : فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ مفتاح كلام ، لله ما في السّمَوَاتِ وما في الأَرْضِ ، فجعل سهم الله ، وسهم الرسول واحدا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : فَأن لِلّهِ خُمُسَهُ قال : لله كلّ شيء .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ قال : لله كلّ شيء ، وخمس لله ورسوله ، ويقسم ما سوى ذلك على أربعة أسهم .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس ، فأربعة أخماس لمن قاتل عليها ، ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس ، فخمس لله والرسول .

حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا أبان ، عن الحسن ، قال : أوصى أبو بكر رضي الله عنه بالخمس من ماله وقال : ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عبد الملك ، عن عطاء : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ قال : خمس الله وخمس رسوله واحد ، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحمل منه ويصنع فيه ما شاء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن أصحابه ، عن إبراهيم : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ ، قال : كل شيء لله ، الخمس للرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل .

وقال آخرون : معنى ذلك : فإن لبيت الله خمسه وللرسول . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن الجراح ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بالغنيمة ، فيقسمها على خمسة : تكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثم يأخذ الخمس ، فيضرب بيده فيه ، فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة ، وهو سهم الله ، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول ، وسهم لذي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ . . . . إلى آخر الاَية ، قال : فكان يجاء بالغنيمة فتوضع ، فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم ، فيجعل أربعة بين الناس ويأخذ سهما ، ثم يضرب بيده في جميع ذلك السهم ، فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة ، فهو الذي سُمي لله ، ويقول : «لا تجعلوا لله نصيبا فإن لله الدنيا والاَخرة » ، ثم يقسم بقيته على خمسة أسهم : سهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل .

وقال آخرون : ما سمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فإنما هو مراد به قرابته ، وليس لله ولا لرسوله منه شيء . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس : فأربعة منها لمن قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربع فربع لله والرسول ولذي القربى يعني قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم فما كان لله والرسول فهو لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئا ، والربع الثاني لليتامى ، والربع الثالث للمساكين ، والربع الرابع لابن السبيل .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال قوله : فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ افتتاح كلام ، وذلك لإجماع الحجة على أن الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم ، ولو كان لله فيه سهم كما قال أبو العالية ، لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسوما على ستة أسهم . وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها ، فأما على أكثر من ذلك فما لا نعلم قائلاً قاله غير الذي ذكرنا من الخبر عن أبي العالية ، وفي إجماع من ذكرت الدلالة الواضحة على صحة ما اخترنا . فأما من قال : سهم الرسول لذوي القربى ، فقد أوجب للرسول سهما وإن كان صلى الله عليه وسلم صرفه إلى ذوي قرابته ، فلم يخرج من أن يكون القسم كان على خمسة أسهم . وقد

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ . . . الاَية ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة جعلت أخماسا ، فكان خمس لله ولرسوله ، ويقسم المسلمون ما بقي . وكان الخمس الذي جعل لله ولرسوله ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، فكان هذا الخمس خمسة أخماس : خمس لله ورسوله ، وخمس لذوي القُرْبى ، وخمس لليتامى ، وخمس للمساكين ، وخمس لابن السبيل .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال : سألت يحيى بن الجزار عن سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : هو خمس الخمس .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، وجرير عن موسى بن أبي عائشة ، عن يحيى بن الجزار ، مثله .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن يحيى بن الجزار ، مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ قال : أربعة أخماس لمن حضر البأس ، والخمس الباقي لله ، وللرسول خمسه يضعه حيث رأى ، وخمسه لذوي القربى ، وخمسه لليتامى ، وخمسه للمساكين ، ولابن السبيل خمسه .

وأما قوله : وَلِذِي القُرْبَىَ فإن أهل التأويل اختلفوا فيهم ، فقال بعضهم : هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحلّ لهم الصدقة ، فجعل لهم خمس الخمس .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأهل بيته لا يأكلون الصدقة ، فجعل لهم خمس الخمس .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبد السلام ، عن خَصِيف ، عن مجاهد ، قال : قد علم الله أن في بني هاشم الفقراء ، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة .

حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان ، قال : حدثنا الصباح بن يحيى المزني ، عن السديّ ، عن ابن الديلمي ، قال : قال عليّ بن الحسين رضي الله عنه لرجل من أهل الشأم : أما قرأت في الأنفال : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ . . . الاَية ؟ قال : نعم ، قال : فإنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم .

حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : هؤلاء قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحلّ لهم الصدقة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أن نَجُدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى ، فكتب إليه كتابا : تزعم أنا نحن هم ، فأبى ذلك علينا قومنا .

قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فأنّ للّهِ خُمُسَهُ قال : أربعة أخماس لمن حضر البأس ، والخمس الباقي لله ، وللرسول خمسه يضعه حيث رأى ، وخمس لذوي القربى ، وخمس لليتامى ، وخمس للمساكين ، ولابن السبيل خمسه .

وقال آخرون : بل هم قريش كلها . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرني عبد الله بن نافع ، عن أبي معشر ، عن سعيد المُقِبري ، قال : كتب نجْدة إلى ابن عباس يسأله عن ذي القربى ، قال : فكتب إليه ابن عباس : قد كنا نقول إنا هم ، فأبى ذلك علينا قومنا ، وقالوا : قريش كلها ذوو قُرْبىَ .

وقال آخرون : سهم ذي القربى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم صار من بعده لوليّ الأمر من بعده . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أنه سئل عن سهم ذي القربى ، فقال : كان طُعْمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيّا ، فلما توفي جعل لوليّ الأمر من بعده .

وقال آخرون : بل سهم ذي القربى كان لبني هاشم ، وبني المطلب خاصة . وممن قال ذلك الشافعيّ ، وكانت علته في ذلك ما

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن جبير بن مطعم ، قال : لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه ، فقلنا : يا رسول الله ، هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم ، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا ، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة ؟ فقال : «إنّهُمْ لَمْ يُفارِقُونا فِي جاهِلِيّةٍ وَلا إسْلامٍ ، إنّمَا بَنُو هاشِمٍ وَبَنُو المُطّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ » . ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي ، قول من قال : سهم ذي القربى كان لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وحلفائهم من بني المطلب ، لأن حليف القوم منهم ، ولصحة الخبر الذي ذكرناه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

واختلف أهل العلم في حكم هذين السهمين ، أعني سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسهم ذي القربى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : يصرفان في معونة الإسلام وأهله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا أبو شهاب ، عن ورقاء ، عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : جعل سهم الله وسهم الرسول واحدا ولذي القربى ، فجعل هذان السهمان في الخيل والسلاح ، وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يُعْطَى غيرهم .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال : سألت الحسن عن قول الله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى قال : هذا مفتاح كلام ، لله الدنيا والاَخرة .

ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قائلون : سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقال قائلون : سهم القرابة لقرابة الخليفة . واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله ، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال : سألت الحسن بن محمد ، فذكر نحوه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمر بن عبيد ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح ، فقلت لإبراهيم : ما كان عليّ رضي الله عنه يقول فيه ؟ قال : كان عليّ أشدّهم فيه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ . . . الاَية . قال ابن عباس : فكانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس : أربعة بين من قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربعة : لله ، وللرسول ، ولذي القربى ، يعني قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئا . فلما قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، ردّ أبو بكر رضي الله عنه نصيب القرابة في المسلمين ، فجعل يحمل به في سبيل الله ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «لا نُورَثُ ، ما تَرَكْنا صَدَقَةٌ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه سئل عن سهم ذي القربى ، فقال : كان طُعْمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما توفي حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله صدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : سهم ذوي القربى من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وليّ أمر المسلمين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عنِ عمران بن ظَبيان ، عن حكيم بن سعد ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : يعطى كلّ إنسان نصيبه من الخمس ، ويلي الإمام سهم الله ورسوله .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه سئل عن سهم ذوي القربى ، فقال : كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيّا ، فلما توفي جُعِل لوليّ الأمر من بعده .

وقال آخرون : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم : على اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . وذلك قول جماعة من أهل العراق .

وقال آخرون : الخمس كله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد الغفار ، قال : حدثنا المنهال بن عمرو ، قال : سألت عبد الله بن محمد بن عليّ ، وعليّ بن الحسين عن الخمس ، فقالا : هو لنا . فقلت لعليّ : إن الله يقول : واليَتامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ فقال : يتامانا ومساكيننا .

والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على أربعة أسهم على ما رُوي عن ابن عباس : للقرابة سهم ، ولليتامى سهم ، وللمساكين سهم ، ولابن السبيل سهم ، لأن الله أوجب الخمس لأقوام موصوفين بصفات ، كما أوجب الأربعة الأخماس الاَخرين . وقد أجمعوا أن حقّ الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم ، فكذلك حقّ أهل الخمس لن يستحقه غيرهم ، فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم ، كما غير جائز أن تخرج بعض السهمان التي جعلها الله لمن سماه في كتابه بفقد بعض من يستحقه إلى غير أهل السهمان الأخر . وأما اليتامى فهم أطفال المسلمين الذين قد هلك آباؤهم . والمساكين هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين . وابن السبيل المجتاز سفرا قد انْقُطِعَ به . كما

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : الخمس الرابع لابن السبيل ، وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين .

القول في تأويل قوله تعالى : إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ باللّهِ وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ وَاللّه عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .

يقول تعالى ذكره : أيقنوا أيها المؤمنون أنما غنمتم من شيء فمقسوم القَسمْ الذي بينته ، وصَدقوا به إن كنتم أقررتم بوحدانية الله ، وبما أنزل الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم يوم فرق بين الحقّ والباطل ببدر ، فأبان فلج المؤمنين وظهورهم على عدوّهم ، وذلك يوم التقى الجمعان : جمع المؤمنين ، وجمع المشركين . والله على إهلاك أهل الكفر وإذلالهم بأيدي المؤمنين ، وعلى غير ذلك مما يشاء قدير لا يمتنع عليه شيء أراده .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يَوْمَ الفُرْقانِ يعني بالفرقان : يوم بدر ، فَرَق الله فيه بين الحق والباطل .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير وإسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، يزيد أحدهما على صاحبه في قوله : يَوْمَ الفُرْقانِ يوم فرق الله بين الحقّ والباطل ، وهو يوم بدر ، وهو أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة . فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مئة وبضعة عشر رجلاً ، والمشركون ما بين الألف والتسع مئة ، فهزم الله يومئذ المشركين ، وقُتل منهم زيادة على سبعين ، وأسر منهم مثلُ ذلك .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن مقسم : يَوْمَ الفُرْقانِ ، قال : يوم بدر ، فرق الله بين الحقّ والباطل .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عثمان الجزري ، عن مقسم ، في قوله : يَوْمَ الفُرْقانِ ، قال : يوم بدر ، فرق الله بين الحقّ والباطل .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، ابن عباس ، قوله : يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ يوم بدر . وبدر بين المدينة ومكة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : ثني يحيى بن يعقوب أبو طالب ، عن ابن عون ، عن محمد بن عبد الله الثقفي ، عن أبي عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب ، قال : قال الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشرة من شهر رمضان .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ قال ابن جريج : قال ابن كثير : يوم بدر .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ : أي يوم فرق بين الحقّ والباطل ببدر ، أي يوم التقى الجمعان منكم ومنهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ ، وذاكم يوم بدر ، يوم فرق الله بين الحقّ والباطل .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا يَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (41)

{ واعلموا أنما غنمتم } أي الذي أخذتموه من الكفار قهرا . { من شيء } مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط . { فأن لله خُمسه } مبتدأ خبره محذوف أي : فثابت أن لله خمسه . وقرئ فإن بالكسر والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } . وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين { وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } فكأنه قال : فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به . وحكمه بعد ، باق غير أن سهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كما فعله الشيخان رضي الله تعالى عنهما . وقيل إلى الإمام . وقيل إلى الأصناف الأربعة . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه :سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته وصار الكل مصروفا إلى الثلاثة الباقية . وعن مالك رضي الله تعالى عنه الأمر فيه مفوض إلى رأي الإمام يصرفه إلى ما يراه أهم ، وذهب أبو العالية إلى ظاهر الآية فقال :يقسم ستة أقسام ويصرف سهم الله إلى الكعبة لما روي ( أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ قبضة منه فيجعلها للكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة ) . وقيل : سهم الله لبيت المال . وقيل هو مضموم إلى سهم الرسول صلى الله عليه وسلم . ذوو القربى : بنو هاشم ، وبنو المطلب . لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى عليهما فقال له عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام . وشبك بين أصابعه " . وقيل بنو هاشم وحدهم . وقيل جميع قريش الغني والفقير فيه سواء . وقيل هو مخصوص بفقرائهم كسهم ابن السبيل . وقيل : الخمس كله لهم . والمراد باليتامى والمساكين وابن السبيل من كان منهم والعطف للتخصيص . والآية نزلت ببدر . وقيل الخمس كان في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة . { إن كنتم آمنتم بالله } متعلق بمحذوف دل عليه { واعلموا } أي : إن كنتم آمنتم بالله فعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية ، فإن العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد لأنه مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو العمل . { وما أنزلنا على عبدنا } محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر . وقرئ { عبدنا } بضمتين أي الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . { يوم الفرقان } يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل . { يوم التقى الجمعان } المسلمون والكافرون . { والله على كل شيء قدير } فيقدر على نصر القليل على الكثير والإمداد بالملائكة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا يَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (41)

انتقال لبيان ما أجمل من حكم الأنفال ، الذي افتتحته السورة ، ناسب الانتقال إليه ما جرى من الأمر بقتال المشركين إن عادوا إلى قتال المسلمين . والجملة معطوفة على جملة { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } [ الأنفال : 39 ] .

وافتتاحه ب { اعلموا } للاهتمام بشأنه ، والتنبيهِ على رعاية العمل به ، كما تقدّم في قوله : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } [ الأنفال : 24 ] فإنّ المقصود بالعلم تقرّر الجزم بأنّ ذلك حكم الله ، والعمل بذلك المعلوم ، فيكون { اعلموا } كناية مراداً به صريحه ولازمه . والخطاب لجميع المسلمين وبالخصوص جيش بدر ، وليس هذا نسخاً لحكم الأنفال المذكور أوّل السورة ، بل هو بيان لإجمال قوله : { للَّه . . وللرسول } وقال أبو عبيد : إنّها ناسخة ، وأنّ الله شرع ابتداء أنّ قسمة المغانم لرسوله صلى الله عليه وسلم يريد أنها لاجتهاد الرسول بدون تعيين ، ثم شرع التخميس . وذكروا : أنّ رسول الله لم يخمّس مغانم بدر ، ثم خمّس مغانم أخرى بعد بدر ، أي بعد نزول آية سورة الأنفال ، وفي حديث علي : أنّ رسول الله أعطاه شارفاً من الخمس يوم بدر ، فاقتضت هذه الرواية أنّ مغانم بدر خمّست .

وقد اضطربت أقوال المفسّرين قديماً في المراد من المغنم في هذه الآية ، ولم تنضبط تقارير أصحاب التفاسير في طريقة الجمع بين كلامهم على تفاوت بينهم في ذلك ، ومنهم من خلطها مع آية سورة الحشر ، فجعل هذه ناسخة لآية الحشر والعكس ، أو أنّ إحدى الآيتين مخصّصة للأخرى : إمّا في السهام ، وإمّا في أنواع المغانم ، وتفصيل ذلك يطول . وتردّدوا في مسمّى الفيء فصارت ثلاثة أسماء مجالاً لاختلاف الأقوال : النفَل ، والغنيمة ، والفيء .

والوجه عندي في تفسير هذه الآية ، واتّصالها بقوله : { يسألونك عن الأنفال } [ الأنفال : 1 ] أنَّ المراد بقوله : { ما غنمتم } في هذه الآية : ما حصلتم من الغنائم من متاع الجيش ، وذلك ما سمّي بالأنفال ، في أوّل السورة ، فالنفل والغنيمة مترادفان ، وذلك مقتضى استعمال اللغة ، فعن ابن عبّاس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، وعطاء : الأنفال الغنائم . وعليه فوجه المخالفة بين اللفظين إذ قال تعالى هنا { غنمتم } وقال في أوّل السورة [ الأنفال : 1 ] : { يسألونك عن الأنفال } لاقتضاء الحال التعبيرَ هنا بفعلٍ ، وليس في العربية فعل من مادّة النفَل يفيد إسناد معناه إلى من حَصَل له ، ولذلك فآية { واعلموا أنما غنمتم } سيقت هنا بياناً لآية { يسألونك عن الأنفال فإنّهما وردتا في انتظام متّصل من الكلام . ونرى أنّ تخصيص اسم النفَل بما يعطيه أميرُ الجيش أحدَ المقاتلين زائداً على سهمه من الغنيمة سواء كان سلبَاً أو نحوه ممّا يسعه الخمس أو من أصل مال الغنيمة على الخلاف الآتي ، إنّما هو اصطلاح شاع بين أمراء الجيوش بعد نزول هذه الآية ، وقد وقع ذلك في كلام عبد الله بن عمر ، وأمّا ما روي عن ابن عبّاس : أنّ الأنفال ما يصل إلى المسلمين بغير قتال ، فجعلها بمعنى الفيء ، فمحمله على بيان الاصطلاح الذي اصطلحوا عليه من بعد .

وتعبيرات السلف في التفرقة بين الغنيمة والنفل غير مضبوطة ، وهذا ملاك الفصل في هذا المقام لتمييز أصناف الأموال المأخوذة في القتال ، فأما صور قسمتها فسيأتي بعضها في هذه الآية .

فاصطلحوا على أنّ الغنيمة ، ويُقال : لها المغنم ، ما يأخذه الغزاة من أمتعة المقاتلين غصباً ، بقتل أو بأسر ، أو يقتحمون ديارهم غازين ، أو مايتركه الأعداء في ديارهم ، إذا فرّوا عند هجوم الجيش عليهم بعد ابتداء القتال . فأمّا ما يظفر به الجيش في غير حالة الغزو من مال العدوّ ، وما يتركه العدوّ من المتاع إذا أخلوا بلادهم قبل هجوم جيش المسلمين ، فذلك الفيء وسيجيء في سورة الحشر .

وقد اختلف فقهاء الأمصار في مقتضى هذه الآية مع آية { يسألونك عن الأنفال } [ الأنفال : 1 ] إلخ . فقال مالك : ليس أموال العدوّ المقاتل حقّ لجيش المسلمين إلاّ الغنيمة والفيء . وأمّا النفَل فليس حقَّاً مستقلاً بالحكم ، ولكنّه ما يعطيه الإمام من الخمس لبعض المقاتلين زائداً على سهمه من الغنيمة ، على ما يرى من الاجتهاد ، ولا تعيين لمقدار النفل في الخمس ولا حدّ له ، ولا يكون فيما زاد على الخُمس . هذا قول مالك ورواية عن الشافعي . وهو الجاري على ما عمل به الخلفاء الثلاثة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، في أشهر الروايتين عنه ، وسعيد بن المسيّب : النفل من الخمس وهو خُمس الخمس .

وعن الأوزاعي ، ومكحول ، وجمهور الفقهاء : النفل ما يعطى من الغنيمة يخرج من ثلث الخمس .

و ( ما ) في قوله : { أنما } اسم موصول وهو اسم ( أنَّ ) وكتبت هذه في المصحف متّصلة ب ( أنّ ) لأنّ زمان كتابة المصحف كان قبل استقرار قواعد الرسم وضبط الفروق فيه بين ما يتشابه نطقه ويختلف معناه ، فالتفرقة في الرسم بين ( ما ) الكافّة وغيرها لم ينضبط زمن كتابة المصاحف الأولى ، وبقيت كتابة المصاحف على مثال المصحف الإمام مبالغة في احترام القرآن عن التغيير .

و { من شيء } بيان لعموم ( ما ) لئلا يتوهّم أنّ المقصود غنيمة معيّنة خاصّة . والفاء في قوله : { فأن لله خمسه } لما في الموصول من معنى الاشتراط ، وما في الخبر من معنى المجازاة بتأويل : إن غنمتم فحقّ لله خمسُهُ إلخ .

والمصدر المؤوّل بعد ( أنّ ) في قوله : { فأن لله خمسه } مبتدأ حذف خبره ، أو خبر حذف مبتدؤه ، وتقدير المحذوف بما يناسب المعنى الذي دلّت عليه لام الاستحقاق ، أي فحقّ لله خمسهُ . وإنّما صيغ على هذا النظم ، مع كون معنى اللام كافياً في الدلالة على الأحقّيّة ، كما قرىء في الشاذ { فللَّه خمسه } لما يفيده الإتيان بحرف ( أنّ ) من الإسناد مرتين تأكيداً ، ولأنّ في حذف أحد ركني الإسناد تكثيراً لوجوه الاحتمال في المقدّر ، من نحو تقدير : حقّ ، أو ثبات ، أو لازم ، أو واجب .

واللام للملك ، أو الاستحقاق ، وقد علم أنّ أربعة الأخماس للغزاة الصادق عليهم ضمير { غنمتم } فثبت به أنّ الغنيمة لهم عدا خمسها .

وقد جعل الله خمس الغنيمة حقّا لله وللرسول ومن عطف عليهما ، وكان أمر العرب في الجاهلية أنّ ربع الغنيمة يكون لقائد الجيش ، ويسمّى ذلك « المرباع » بكسر الميم .

وفي عرف الإسلام إذا جعل شيء حقَّاً لله ، من غير ما فيه عبادة له : أنّ ذلك يكون للذين يأمر الله بتسديد حاجتهم منه ، فلكلّ نوع من الأموال مستحقّون عيّنهم الشرع ، فالمعنى في قوله : { فأن لله خمسه } أنّ الابتداء باسم الله تعالى للإشارة إلى أنّ ذلك الخمس حقّ الله يصرفه حيث يشاء ، وقد شاء فوكل صرفه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولمن يخلف رسوله من أئمّة المسلمين . وبهذا التأويل يكون الخمس مقسوماً على خمسة أسهم ، وهذا قول عامّة علماء الإسلام وشذّ أبو العالية رفيع الرياحي ولاء من التابعين ، فقال : إنّ الخمس يقسم على خمسة أسهم فيعزل منها سهم فيضرب الأمير بيده على ذلك السهم الذي عزله فما قبضت عليه يده من ذلك جعله للكعبة : أي على وجه يشبه القرعة ، ثم يقسم بقية ذلك السهم على خمسة : سهم للنبيء صلى الله عليه وسلم وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل . ونسب أبو العالية ذلك إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم .

وأمّا الرسول عليه الصلاة والسلام فلحقه حالتان : حالة تصرّفه في مال الله بما ائتمنه الله على سائر مصالح الأمة ، وحالة انتفاعه بما يحبّ انتفاعه به من ذلك . فلذلك ثبت في الصحيح : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من الخمس نفقته ونفقة عياله ، ويجعل الباقي مجعل مال الله . وفي الصحيح : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفيء " مالي ممّا أفاء الله عليكم إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم " فيقاس عليه خمس الغنيمة ، وكذلك كان شأن رسول الله في انتفاعه بما جعله الله له من الحقّ في مال الله . وأوضح شيء في هذا الباب حديث عمر بن الخطاب في محاورته مع العباس وعلي ، حين تحاكما إليه ، رواه مالك في « الموطأ » ورجال « الصحيح » ، قال عمر : « إنّ الله كان قد خصّ رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره قال { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين } [ الحشر : 7 ] فكانت هذه خالصة لرسول الله ، ووالله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم قد أعطاكموها وبثّها فيكم حتّى بقي منها هذا المال . فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله » .

والغرض من جلب كلام عمر قوله : « ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله » .

وأمّا ذو { القربى } ف ( أل ) في { القربى } عوض عن المضاف إليه كما في قوله تعالى في سورة [ البقرة : 177 ] { وآتى المال على حبه ذوي القربى } أي ذوي قرابة المؤتي المال . والمراد هنا هو ( الرسول ) المذكور قبله ، أي ولذوي قربى الرسول ، والمراد ب ( ذي ) الجنس ، أي : ذوي قربى الرسول ، أي : قرابته ، وذلك إكرام من الله لرسوله إذ جعل لأهل قرابته حقّاً في مال الله ، لأن الله حرّم عليهم أخذ الصدقات والزكاة . فلا جرم أنّه أغناهم من مال الله . ولذلك كان حقّهم في الخمس ثابتاً بوصف القرابة .

فذو القربى مراد به كلّ من اتّصف بقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام فهو عام في الأشخاص ، ولكن لفظ { القربى } جنس فهو مجمل ، وأجملت رتبة القرابة إحالة على المعروف في قربى الرجل ، وتلك هي قربى نسب الآباء دون الأمّهات . ثم إنّ نسب الآباء بين العرب يعدّ مشتركاً إلى الحَدّ الذي تنشقّ منه الفصائل ، ومحملها الظاهر على عَصبة الرجل من أبناء جدّه الأدنى . وأبناء أدنى أجداد النبي صلى الله عليه وسلم هم بنو عبد المطلب بن هاشم ، وإن شئت فقل : هم بنو هاشم ، لأنّ هاشماً لم يبقَ له عقب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ مِن عبد المطلب ، فالأرجح أنّ قربى الرسول صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم ، وهذا قول مالك وجمهور أصحابه ، وهو إحدى روايتين عن أحمد بن حنبل ، وقاله ابن عبّاس ، وعلي بن الحسين ، وعبد الله بن الحسن ، ومجاهد ، والأوزاعي ، والثوري . وذهب الشافعي ، وأحمد في إحدى روايتين عنه ، التي جرى عليها أصحابه ، وإسحاق وأبو ثور : أنّ القربى هنا : هم بنو هاشم وبنو المطلب ، دون غيرهم من بني عبد مناف . ومال إليه من المالكية ابنُ العربي ، ومتمسّك هؤلاء ما رواه البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، عن جبير بن مُطعِم : أنّه قال : أتيت أنا وعثمان بن عفّان رسولَ الله نكلّمه فيما قسم من الخمس بين بني هاشم وبني المطلب فقلت يا رسول الله : قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئاً ، وقرابتُنا وقرابتهم واحدة فقال : « إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد » . وهو حديث صحيح لا نزاع فيه ، ولا في أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى بني هاشم وبني المطلب دون غيرهم . ولكن فِعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يحتمل العموم في الأموال المعطاة ويحتمل الخصوص لأمور : أحدها : أنّ للنبيء صلى الله عليه وسلم في حياته سهماً من الخمس فيحتمل أنّه أعطى بني المطلب عطاء من سهمه الخاصّ ، جزاء لهم على وفائهم له في الجاهلية ، وانتصارهم له ، وتلك منقبة شريفة أيّدوا بها دعوة الدين وهم مشركون ، فلم يضعها الله لهم ، وأمر رسوله بمواساتهم ، وذلك لا يكسبهم حقّاً مستمراً .

ثانيها : أنّ الحقوق الشرعية تستند للأوصاف المنضبطة ، فالقربى هي النسب ، ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهاشم ، وأمّا بنو المطلب فهم وبنو عبد شمس وبنو نوفل في رتبة واحدة من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ آباءَهم هم أبناء عبد مناف ، وأخوة لهاشم ، فالذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهروه في الجاهلية كانت لهم المزية ، وهم الذين أعطى رسولُ الله أعيانهم ولم يثبت أنّه أعطى من نشأ بعدهم من أبنائهم الذين لم يحضروا ذلك النصر ، فمن نشأ بعدهم في الإسلام يساوون أبناء نوفل وأبناء عبد شمس ، فلا يكون في عطائه ذلك دليل على تأويل ذي القربى في الآية ببني هاشم وبني المطلب .

أمّا قول أبي حنيفة فقال الجصاص في « أحكام القرآن » : قال أبو حنيفة في « الجامع الصغير » : يقسم الخمس على ثلاثة أسهم ( أي ولم يتعرّض لسهم ذوي القربى ) وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال : خمس الله والرسول واحدٌ ، وخمسٌ لذي القربى فلكلّ صنف سمّاه الله تعالى في هذه الآية خمُس الخمس قال : وإنّ الخلفاء الأربعة متّفقون على أنّ ذا القربى لا يستحقّ إلاّ بالفقر . قال : وقد اختلف في ذوي القربى من هم ؟ فقال أصحابنا : قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين حَرّم عليهم الصدقة وهم ( آل علي والعباس وآل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عبد المطلب ) وقال آخرون : بنو المطلب داخلون فيهم .

وقال أصبغ من المالكية : ذوو القربى هم عشيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقربون الذين أمره الله بإنذارهم في قوله : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وهم آل قُصي . وعنه أنّهم آل غالب بن فهر ، أي قريش ، ونسب هذا إلى بعض السلف وأخرَج أبو حنيفة من القربى بني أبي لهب قال : لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا قرابة بيني وبين أبي لهب فإنّه آثر علينا الأفجرين " رواه الحنفية في كتاب الزكاة ، ولا يعرف لهذا الحديث سند ، وبعد فلا دلالة فيه ، لأنّ ذلك خاصّ بأبي لهب فلا يشمل أبناءه في الإسلام . ذكر ابن حجر في { الإصابة } أنّ محمد بن إسحاق ، وغيره . روى عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قدمت دُرة بنت أبي لهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ الناس يصيحون بي ويقولون : إنّي بنت حطَب النار ، فقام رسول الله ؛ وهو مغضَب شديدَ الغضب ، فقال : « ما بال أقوام يؤذونني في نسبي وذوي رحمي ألاَ ومن آذى نسبي وذوي رحمي فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله » . فوصف درّة بأنّها من نسبه . والجمهور على أنّ ذوي القربى يستحقّون دون اشتراط الفقر ، لأنّ ظاهر الآية أنّ وصف قربى النبي صلى الله عليه وسلم هو سبب ثبوت الحقّ لهم في خمس المغنم دون تقييد بوصف فقرهم ، وهذا قول جمهور العلماء .

وقال أبو حنيفة : لا يعطَون إلاّ بوصف الفقر وروي عن عمر بن عبد العزيز . ففائدة تعيين خمس الخمس لهم أنّ لا يحاصهم فيه مَن عَداهم من الفقراء ، هذا هو المشهور عن أبي حنيفة ، وبعض الحنفية يحكي عن أبي يوسف موافقةَ الجمهور في عدم اشتراط الفقر فيهم .

وقد جعل الله الخمس لخمسةِ مصارف ولم يعيّن مقدار ما لكلّ مصرف منه ، ولا شكّ أنّ الله أراد ذلك ؛ ليكون صرفه لمصارفه هذه موكولاً إلى اجتهاد رسوله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده ، فيقسم بحسب الحاجات والمصالح ، فيأخذ كلّ مصرف منه ما يفي بحاجته على وجه لا ضرّ معه على أهل المصرف الآخر ، وهذا قول مالك في قسمة الخمس ، وهو أصح الأقوال ، إذ ليس في الآية تعرّض لمقدار القسمة ، ولم يَرد في السنة ما يصحّ التمسك به لذلك ، فوجب أن يناط بالحاجة ، وبتقديم الأحوج والأهمّ عند التضايق ، والأمر فيه موكول إلى اجتهاد الإمام ، وقد قال عمر : « فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله » .

وقال الشافعي : يقسم لكلّ مصرف الخمس من الخمس ، لأنها خمسة مصارف ، فجعلها متساوية ، لأنَّ التساوي هو الأصل في الشركة المجملة ولم يلتفت إلى دليل المصلحة المقتضية للترجيح وإذ قد جَعل ما لله ولرسوله خمساً واحداً تبعاً للجمهور فقد جعله بعد رسول الله لمصالح المسلمين .

وقال أبو حنيفة : ارتفع سهم رسول الله وسهم قرابته بوفاته ، وبقي الخمس لليتامى والمساكين وابن السبيل ، لأنّ رسول الله إنّما أخذ سهماً في المغنم لأنّه رسول الله ، لا لأنّه إمام ، فلذلك لا يخلفه فيه غيره .

وعند الجمهور أنّ سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلفه فيه الإمام ، يبدأ بنفقته ونفقة عياله بلا تقدير ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين .

{ واليتامى والمساكين وابن السبيل } تقدّم تفسير معانيها عند قوله تعالى : { وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ البقرة : 177 ] وعند قوله تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا إلى قوله وابن السبيل } [ النساء : 36 ] .

واليتامى وابن السبيل لا يعطون إلاّ إذا كانوا فقراء ففائدة تعيين خمس الخمس لكلّ صنف من هؤلاء أن لا يحاصهم فيه غيرهم من الفقراء والشأن ، في اليتامى في الغالب أن لا تكون لهم سعة في المكاسب فهم مظنّة الحاجّة ، ولكنّها دون الفقر فجُعل لهم حقّ في المغنم توفيراً عليهم في إقامة شؤونهم ، فهم من الحاجة المالية أحسن حالاً من المساكين ، وهم من حالة المقدرة أضعف حالاً منهم ، فلو كانوا أغنياء بأموال تركها لهم آباؤهم فلا يعطون من الخمس شيئاً .

والمساكينُ الفقراء الشديدو الفقرِ جعل الله لهم خمس الخمس كما جعل لهم حقّاً في الزكاة ، ولم يجعَل للفقراء حقّاً في الخمس كما لم يجعل لليتامى حقّاً في الزكاة .

وابنُ السبيل أيضاً في حاجة إلى الإعانة على البلاغ وتسديد شؤونه ، فهو مظنّة الحاجة ، فلو كان ابن السبيل ذا وفْر وغنىً لم يعط من الخمس ، ولذلك لم يشترط مالك وبعض الفقهاء في اليتامى وأبناءِ السبيل الفقر ، بل مُطلقَ الحاجة . واشترط أبو حنيفة الفقر في ذوي القربى واليتامى وأبناء السبيل ، وجعل ذكرِهم دون الاكتفاء بالمساكين ؛ لتقرير استحقاقهم .

وقوله : { إن كنتم آمنتم بالله } شرط يتعلق بما دلّ عليه قوله : { واعلموا أنما غنمتم } لأن الأمر بالعلم لما كان المقصود به العملَ بالمعلوم والأمتثالَ لمقتضاه كما تقدّم ، صحّ تعلّق الشرط به ، فيكون قوله : { واعلموا } دليلاً على الجواب أوْ هو الجوابَ مقدّماً على شرطه ، والتقدير : إنْ كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ ما غنمتم إلخ . واعمَلوا بما علمتم فاقطعوا أطماعكم في ذلك الخمس واقتنعوا بالأخماس الأربعة ، لأنّ الذي يتوقّف على تحقّق الإيمان بالله وآياته هو العِلم بأنّه حكم الله مع العمل المترتّب على ذلك العلم . مطلق العلم بأنّ الرسول قال ذلك .

والشرط هنا محقق الوقوع إذ لا شك في أنّ المخاطبين مؤمنون بالله والمقصود منه تحقّق المشروط ، وهو مضمون جملة { واعلموا أن ما غنمتم من شيء } إلى آخرها . وجيء في الشرط بحرف ( إنْ ) التي شأن شرطها أن يكون مشكوكاً في وقوعه زيادة في حثّهم على الطاعة حيث يفرض حالهم في صورة المشكوك في حصول شرطه إلهاباً لهم ؛ ليبعثهم على إظهار تحقّق الشرط فيهم ، فالمعنى : أنكم آمنتم بالله والإيمانُ يرشد إلى اليقين بتمام العلم والقدرة له وآمنتم بما أنزل الله على عبده يومَ بدر حين فرق الله بين الحقّ والباطل فرأيتم ذلك رأي العين وارتقى إيمانكم من مرتبة حقّ اليقين إلى مرتبة عين اليقين فعلمتم أنّ الله أعلم بنفعكم من أنفسكم إذ يعدكم إحدى الطائفتين أنّها لكم وتودّون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم ، فكان ما دفعكم الله إليه أحفظ لمصلحتكم وأشدّ تثبيتاً لقوّة دينكم . فمَن رأوا ذلك وتحقّقوه فهم أحرياء بأن يعلموا أنّ ما شرع الله لهم من قسمة الغنائم هو المصلحة ، ولم يعبأوا بما يدخل عليهم من نقص في حظوظهم العاجلة ، علماً بأنّ وراء ذلك مصالحَ جمة آجلة في الدنيا والآخرة .

وقوله : { وما أنزلنا } عطف على اسم الجلالة ، والمعنى : وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ، وهذا تخلّص للتذكير بما حصل لهم من النصر يوم بدر ، والإيمانُ به يجوز أن يكون الاعتقاد الجازم بحصوله ، ويجوز أن يكون العلم به ، فيكون على الوجه الثاني من استعمال المشترك في معنييه ، أو من عموم المشترك .

وتخصيص { ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } بالذكر من بين جملة المعلومات الراجعة للاعتقاد ، لأن لذلك المُنْزَل مزيد تعلق بما أمروا به من العمل المعبر عنه بالأمر بالعلم في قوله تعالى : { واعلموا } .

والإنزالُ : هو إيصال شيء من علُوّ إلى سُفل ، وأطلق هنا على إبلاغ أمر من الله ، ومن النعم الإلهية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فيجوز أن يكون هذا المُنزل من قبيل الوحي ، أي والوحي الذي أنزلناه على عبدنا يوم بَدر ، لكنه الوحي المتضمّن شيئاً يؤمنون به مثل قوله : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } [ الأنفال : 7 ] .

ويجوز أن يكون من قبيل خوارق العادات ، والألطاف العجيبة ، مثل إنزال الملائكة للنصر ، وإنزال المطر عند حاجة المسلمين إليه ، لتعبيد الطريق ، وتثبيتتِ الأقدام ، والاستقاء .

وإطلاق الإنزال على حصوله استعارة تشبيهاً له بالواصل إليهم من علوّ تشريفاً له كقوله تعالى : { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [ الفتح : 26 ] . والتطهر ولا مانع من إرادة الجميع لأنّ غرض ذلك واحد ، وكذلك ما هو من معناه ممّا نعلمه أو لما علمناه .

و { يوم الفرقان } هو يوم بدر ، وهو اليوم السابع عشر من رمضان سنة اثنتين سمّي يوم الفرقان ؛ لأنّ الفرقان الفرق بين الحقّ والباطل كما تقدّم آنفاً في قوله : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً } [ الأنفال : 29 ] وقد كان يوم بدر فارقاً بين الحقّ والباطل ؛ لأنّه أول يوم ظهر فيه نصر المسلمين الضعفاء على المشركين الأقوياء ، وهو نصر المحقّين الأذلّة على الأعزّة المبطلين ، وكفى بذلك فرقاناً وتمييزاً بين من هم على الحقّ ، ومن هم على الباطل .

فإضافة { يوم } إلى { الفرقان } إضافة تنويه به وتشريف ، وقوله : { يوم التقى الجمعان } بدل من { يوم الفرقان } فإضافة { يوم } إلى جملة : { التقى الجمعان } للتذكير بذلك الإلتقاء العجيب الذي كان فيه نصرهم على عدوّهم . والتعريف في { الجمعان } للعهد . وهما جمع المسلمين وجمع المشركين .

وقوله : { والله على كل شيء قدير } اعتراض بتذييل الآيات السابقة وهو متعلّق ببعض جملة الشرط في قوله : { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } فإنّ ذلك دليل على أنّه لا يتعاصى على قدرته شيء ، فإنّ ما أسداه إليكم يوم بدر لم يكن جارياً على متعارف الأسباب المعتادة ، فقدرة الله قلبت الأحوال وأنشأت الأشياءَ من غير مجاريها ولا يبعد أن يكون من سبب تسمية ذلك اليوم { يوم الفرقان } أنّه أضيف إلى الفرقان الذي هو لَقب القرآن ، فإنّ المشهور أنّ ابتداء نزول القرآن كان يوم سبعة عشر من رمضان ، فيكون من استعمال المشترك في معنييه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{۞وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَيۡءٖ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا يَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (41)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{واعلموا} يخبر المؤمنين {أنما غنمتم من شيء} يوم بدر، {فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى}، يعنى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، {واليتامى والمساكين وابن السبيل}، يعني الضعيف نازل عليك، {إن كنتم آمنتم بالله}، يعني صدقتم بتوحيد الله،وصدقتم ب: {وما أنزلنا على عبدنا} من القرآن {يوم الفرقان}، يعني يوم النصر فرق بين الحق والباطل، فنصر النبي صلى الله عليه وسلم وهزم المشركين ببدر {يوم التقى الجمعان}، يعني جمع النبي صلى الله عليه وسلم ببدر، وجمع المشركين، فأقروا الحكم لله في أمر الغنيمة والخمس، وأصلحوا ذات بينكم، {والله على كل شيء قدير}، يعني قادر فيما حكم من الغنيمة والخمس...

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

عن مالك: أن الفيء والخمس يجعلان في بيت المال، ويعطي الإمام قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما...

وروى ابن القاسم، عن مالك: أن الفيء والخمس واحد. وروى داود بن سعيد عن مالك عن عمه عن عمر بن عبد العزيز أن القرابة لا يعطون منه إلا الفقراء، وقاله مالك...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

هذا تعليم من الله عزّ وجلّ المؤمنين قسم غنائمهم إذا غنموها، يقول تعالى ذكره:"واعلموا" أيها المؤمنون "أنما غنمتم "من غنيمة...

وقد بيّنا فيما مضى الغنيمة، وأنها: المال يوصل إليه من مال من خوّل الله ماله أهل دينه بغلبة عليه وقهر بقتال. فأما الفيء، فإنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال أهل الشرك، وهو ما ردّه عليهم منها بصلح، من غير إيجاف خيل ولا ركاب...

وأما قوله: "مِنْ شَيْءٍ" فإنه مراد به كل ما وقع عليه اسم شيء مما خوّله الله المؤمنين من أموال من غلبوا على ماله من المشركين مما وقع فيه القسم حتى الخيط والمخيط...

"فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ"

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: قوله: "فَأنّ للّهِ خُمُسَهُ" مفتاح كلام، ولله الدنيا والآخرة وما فيهما، وإنما معنى الكلام: فأن للرسول خمسه... عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خَمّسَ الغنيمة فضرب ذلك الخُمْسَ في خمسة، ثم قرأ: "وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرسُولِ". قال: وقوله: "فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ" مفتاح كلام، لله ما في السّمَوَاتِ وما في الأَرْضِ، فجعل سهم الله، وسهم الرسول واحدا...

وقال آخرون: معنى ذلك: فإن لبيت الله خمسه وللرسول... عن أبي العالية الرياحي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بالغنيمة، فيقسمها على خمسة: تكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس، فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة، وهو سهم الله، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل...

وقال آخرون: ما سمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فإنما هو مراد به قرابته، وليس لله ولا لرسوله منه شيء...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال قوله: "فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ" افتتاح كلام، وذلك لإجماع الحجة على أن الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم، ولو كان لله فيه سهم كما قال أبو العالية، لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسوما على ستة أسهم. وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها، فأما على أكثر من ذلك فما لا نعلم قائلاً قاله غير الذي ذكرنا من الخبر عن أبي العالية، وفي إجماع من ذكرت الدلالة الواضحة على صحة ما اخترنا. فأما من قال: سهم الرسول لذوي القربى، فقد أوجب للرسول سهما وإن كان صلى الله عليه وسلم صرفه إلى ذوي قرابته، فلم يخرج من أن يكون القسم كان على خمسة أسهم. وقد

حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ..."، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة جعلت أخماسا، فكان خمس لله ولرسوله، ويقسم المسلمون ما بقي. وكان الخمس الذي جعل لله ولرسوله ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فكان هذا الخمس خمسة أخماس: خمس لله ورسوله، وخمس لذوي القُرْبى، وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، وخمس لابن السبيل...

وأما قوله: "وَلِذِي القُرْبَىَ" فإن أهل التأويل اختلفوا فيهم، فقال بعضهم: هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم... عن مجاهد، قال: كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحلّ لهم الصدقة، فجعل لهم خمس الخمس...

وقال آخرون: بل هم قريش كلها... وقال آخرون: سهم ذي القربى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صار من بعده لوليّ الأمر من بعده...

وقال آخرون: بل سهم ذي القربى كان لبني هاشم، وبني المطلب خاصة. وممن قال ذلك الشافعيّ، وكانت علته في ذلك ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جبير بن مطعم، قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه، فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال: «إنّهُمْ لَمْ يُفارِقُونا فِي جاهِلِيّةٍ وَلا إسْلامٍ، إنّمَا بَنُو هاشِمٍ وَبَنُو المُطّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ». ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى.

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، قول من قال: سهم ذي القربى كان لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وحلفائهم من بني المطلب، لأن حليف القوم منهم، ولصحة الخبر الذي ذكرناه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واختلف أهل العلم في حكم هذين السهمين، أعني سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم ذي القربى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: يصرفان في معونة الإسلام وأهله...

ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قائلون: سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال قائلون: سهم القرابة لقرابة الخليفة. واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما...

وقال آخرون: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس، والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم: على اليتامى، والمساكين، وابن السبيل...

وقال آخرون: الخمس كله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم... والصواب من القول في ذلك عندنا، أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس، والخمس مقسوم على أربعة أسهم على ما رُوي عن ابن عباس: للقرابة سهم، ولليتامى سهم، وللمساكين سهم، ولابن السبيل سهم، لأن الله أوجب الخمس لأقوام موصوفين بصفات، كما أوجب الأربعة الأخماس الاَخرين. وقد أجمعوا أن حقّ الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم، فكذلك حقّ أهل الخمس لن يستحقه غيرهم، فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم، كما غير جائز أن تخرج بعض السهمان التي جعلها الله لمن سماه في كتابه بفقد بعض من يستحقه إلى غير أهل السهمان الأخر. وأما اليتامى فهم أطفال المسلمين الذين قد هلك آباؤهم. والمساكين هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. وابن السبيل المجتاز سفرا قد انْقُطِعَ به...

"إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ باللّهِ وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ وَاللّه عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".

يقول تعالى ذكره: أيقنوا أيها المؤمنون أنما غنمتم من شيء فمقسوم القَسمْ الذي بينته، وصَدقوا به إن كنتم أقررتم بوحدانية الله، وبما أنزل الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم يوم فرق بين الحقّ والباطل ببدر، فأبان فلج المؤمنين وظهورهم على عدوّهم، وذلك يوم التقى الجمعان: جمع المؤمنين، وجمع المشركين. والله على إهلاك أهل الكفر وإذلالهم بأيدي المؤمنين، وعلى غير ذلك مما يشاء قدير لا يمتنع عليه شيء أراده.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قال عامة أهل التأويل: إن الغنيمة هي التي أصاب المسلمون من أموال المشركين بالقتال عنوة، والفيء ما يعطون بأيديهم صلحا...

ثم ليس في ظاهر الآية دليل أن المراد بقوله تعالى: (ولذي القربى) قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل في ظاهره دلالة أنه أراد به قرابة أهل السهام في ذلك لأنه خاطب به الكل بقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) وظاهره أنه أراد به قربى من خاطب، وكان الخطاب لهم جميعا. فلو كان الخمس حقا لجميع القرابة أعطى من ذلك غنيهم وفقيرهم، وما يأخذه الأغنياء من الخمس فإنه لا يجري مجرى الصدقة، ولا يجري مجرى القربة، فبان بذلك أنه لا يعطى منه أغنياؤهم، بل يصرف إلى فقرائهم على قد رحاجتهم...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

وقوله تعالى: {من شَيْءٍ} واختلفوا في سهمهم [يعني ذوي القربى] اليوم على أربعة أقاويل:

أحدها: أنه لهم أبداً كما كان لهم من قبل، قاله الشافعي.

والثاني: أنه لقرابة الخليفة القائم بأمور الأمة. والثالث: أنه إلى الإمام يضعه حيث شاء. والرابع: أن سهمهم وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود على باقي السهام وهي ثلاثة، قاله أبو حنيفة...

جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :

في قول الله –عز وجل-: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} دليل على أن أربعة أخماس الغنائم لأهلها الغانمين لها والموجفين عليها الخيل والركاب والرجل؛ لأن الله –عز وجل- لما أضاف الغنيمة إليهم بقوله: {غنمتم}، وأخبر أن الخمس خارج عنهم لمن سمى في الآية، علم العلماء استدلالا ونظرا صحيحا أن الأربعة الأخماس المسكوت عنها لهم مقسومة بينهم، وهذا ما لا خلاف فيه...

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

...قوله تعالى: {إن كنتم آمنتم بالله}، قيل: أراد اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول يأمر فيه بما يريد، فاقبلوه إن كنتم آمنتم بالله. قوله تعالى: {والله على كل شيء قدير}، على نصركم مع قلتكم وكثرتهم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: بم تعلق قوله: {إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بالله}؟ قلت: بمحذوف يدل عليه {واعلموا} المعنى: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم المجرّد، ولكنه العلم المضمن بالعمل، والطاعة لأمر الله تعالى؛ لأنّ العلم المجرّد يستوي فيه المؤمن والكافر {وَمَا أَنزَلْنَا} معطوف على {للَّهِ} أي إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} يقدر على أن ينصر القليل على الكثير والذليل على العزيز، كما فعل بكم ذلك اليوم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{إن كنتم آمنتم بالله} يعني: إن كنتم آمنتم بالله فاحكموا بهذه القسمة، وهو يدل على أنه متى لم يحصل الحكم بهذه القسمة، لم يحصل الإيمان بالله...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه}. وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين {وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} فكأنه قال: فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

والظاهر أنّ {اليتامى والمساكين وابن السبيل} عامّ في يتامى المسلمين ومساكينهم وابن السبيل منهم وانظر إلى حسن هذا التركيب كيف أفرد كينونة الخمس لله وفصل بين اسمه تعالى وبين المعاطيف بقوله خمسه ليظهر استبداده تعالى بكينونة الخمس له ثم أشرك المعاطيف معه على سبيل التبعية له ولم يأتِ التركيب:فإن لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل خمسه...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصا لهذه الأمة الشريفة، من بين سائر الأمم المتقدمة، من إحلال المغانم وقال عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح قال: خمس الله والرسول واحد، يحمل منه ويصنع فيه ما شاء -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا أعم وأشمل، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتصرف في الخمس الذي جعله الله له بما شاء، ويرده في أمته كيف شاء- ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن أبي سلام الأعرج، عن المقدام بن معد يكرب الكندي: أنه جلس مع عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والحارث بن معاوية الكندي، رضي الله عنهم، فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة، كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس؟ فقال عبادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وَبَرة بين أنملتيه فقال:"إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا، فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر، وجاهدوا في [سبيل] الله، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة [عظيم] ينجي به الله من الهم والغم" وروى الإمام أحمد، والترمذي -وحسنه- عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفَقَار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد {وَابْنِ السَّبِيلِ} هو المسافر، أو المريد للسفر، إلى مسافة تقصر فيها الصلاة، وليس له ما ينفقه في سفره ذلك.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان التقدير: فإذا أعانكم مولاكم عليهم وغلبتموهم وغنمتم فيه فلا تنسبوا إلى أنفسكم فعلاً، بل اعلموا أنه هو الفاعل وحده لأن جميع الأفعال متلاشية بالنسبة إلى فعله فلا تتنازعوا في المغنم تنازع من أخذه بقوته وحازه بقدرته، عطف عليه قوله: {واعلموا} ابتداء بهذا الأمر إشارة إلى أن ما بعدها من المهمات ليبذلوا الجهد في تفريغ أذهانهم لوعيه وتنزيله منازله ورعيه {وللرسول} أي يصرف إليه خمس هذا الخمس ما دام حياً ليصرفه في مصالح المسلمين، ويصرف بعده إلى القائم مقامه اعلموا ذلك كله علم المصدق المؤمن المذعن لما علم لتنشأ عنه ثمرة العمل {أنزلنا} أي إنزالاً واحداً سريعاً لأجل التفريج عنكم من القرآن والجنود والسكينة في قلوبكم وغير ذلك مما تقدم وصفه {على عبدنا} أي الذي يرى دائماً أن الأفعال كلها لنا فلا ينسب لنفسه شيئاً إلا بنا ولما وصفه سبحانه بالفرقان تذكيراً لهم بالنعمة، بينه بما صور حالهم إتماماً لذلك -أو أبدل منه- فقال: {يوم التقى} أي عن غير قصد من الفريقين بل بمحض تدبير الله {الجمعان} أي اللذان أحدهما أنتم وكنتم حين الترائي -لولا فضلنا- قاطعين بالموت، وثانيهما أعداؤكم وكانوا على اليقين بأنكم في قبضتهم، وذلك هو الجاري على مناهج العوائد، ولو قيل: يوم بدر، لم يفد هذه الفوائد.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

وفائدة ذكر اليتيم مع كون استحقاقه بالفقر والمسكنة لا باليتيم دفع توهم أن اليتيم لا يستحق من الغنيمة شيئاً لأن استحقاقها بالجهاد واليتيم صغير فلا يستحقها. وفي التأويلات لعلم الهدى الشيخ أبي منصور أن ذوي القربى إنما يستحقون بالفقر أيضاً، وفائدة ذكرهم دفع ما يتوهم أن الفقير منهم لا يستحق لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم...

{على عَبْدِنَا} محمد صلى الله عليه وسلم، وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من التشريف والتعظيم...

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

وفي (مسند أحمد) أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:"قلت: يا رسول الله، الرجل يكون حامية القوم، يكون سهمه وأسهم غيره سواء؟ قال: ثكلتك أمك ابن أم سعد: وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم".

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

تقدم وجه التناسب بين الآيات من أول السورة إلى هنا، وفي هذه الآية عود إلى وصف غزوة بدر وما فيها من الحكم والعبر والأحكام، وقد بدئ هذا السياق بحكم شرعي يتعلق بالقتال وهو تخميس الغنائم كما بدئت السورة بذكر الأنفال (الغنائم) التي اختلفوا فيها وتساءلوا عنها في تلك الغزوة. وبالمناسبة بين الآية هنا وما قبلها مباشرة ظاهر فقد جاء في الآيتين اللتين قبلها الأمر بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة، ووعد الله المؤمنين بالنصر عليهم، وذلك يستتبع أخذ الغنائم منهم، فناسب أن نذكر بعده ما يرضيه سبحانه في قسمة الغنائم. وإننا نذكر أقوال العلماء في الغنيمة وما في معناها أو على مقربة منها كالفيء والنفل والسلب والصفي قبل تفسير الآية لطوله حتى لا يختلط بمدلول الألفاظ فنقول: الغُنم –بالضم- والمغنم والغنيمة في اللغة ما يصيبه الإنسان ويناله ويظفر به من غير مشقة كذا في القاموس وهو قيد يشير إليه ذوق اللغة أو يشتم منه ما يقاربه ولكنه غير دقيق. فمن المعلوم بالبداهة أنه لا يسمى كل كسب أو ربح أو ظفر بمطلوب غنيمة، كما أن العرب أنفسهم قد سموا ما يؤخذ من الأعداء في الحرب غنيمة وهو لا يخلو من مشقة، فالمتبادر من الاستعمال أن الغنيمة والغنم ما يناله الإنسان ويظفر به من غير مقابل مادي يبذله في سبيله (كالمال في التجارة مثلا) ولذلك قالوا إن الغرم ضد الغنم وهو ما يحمله الإنسان من خسر وضرر بغير جناية منه ولا خيانة يكون عقابا عليهما. فإن جاءت الغنيمة بغير عمل ولا سعي مطلقا سميت الغنيمة الباردة. وفي كليات أبي البقاء: الغنم بالضم الغنيمة، وغنمت الشيء أصبته غنيمة ومغنما، والجمع غنائم ومغانم. «والغنم بالغرم» أي مقابل به. وغرمت الدية والدين: أديته. ويتعدى بالتضعيف يقال غرمته وبالألف (أغرمته): جعلته له غارما والغنيمة أعم من النفل... والتحقيق أن الغنيمة في الشرع ما أخذه المسلمون من المنقولات في حرب الكفار عنوة. وهذه هي التي يخمس فخمسها لله وللرسول كما سيأتي تفصيله والباقي للغانمين يقسم بينهم...

{واعلموا أنما ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} هذا عطف على الأمر بالقتال وما يتعلق به في الآيتين اللتين قبل هذه الآية كما تقدم آنفا وأن ما رسمت في مصحف الإمام موصولة هكذا «أنما» والجمهور على أن هذه الآية نزلت في غزوة بدر وعلى أن ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها ولكن أهل السير اختلفوا فيها فزعم بعضهم أنها شرعت يوم قريظة وبعضهم أنها لم تبين بالصراحة إلا في غنائم حنين وقال ابن إسحاق في سرية عبد الله بن جحش التي كانت في رجب قبل بدر بشهرين. قال ذكر لي بعض آل جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس وذلك قبل أن يفرض الله الخمس فعزل له الخمس وقسم سائر الغنيمة بين أصحابه قال: فوقع رضا الله بذلك. وقال السبكي نزلت الأنفال في بدر وغنائمها والذي يظهر أن آية قسمة الغنيمة نزلت بعد تفرقة الغنائم لأن أهل السير نقلوا أنه صلى الله عليه وسلم قسمها على السواء وأعطاها لمن شهد الوقعة أو غاب لعذر تكرما منه لأن الغنيمة كانت أولا بنص أول سورة الأنفال للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ولكن يعكر على ما قال أهل السير حديث علي حيث قال: وأعطاني شارفا من الخمس يومئذ: فإنه ظاهر في أنه كان فيها خمس اه.

والمراد بحديث علي ما أخرجه البخاري في أول كتاب فرض الخمس وغيره عنه قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس الخ. قال الحافظ في شرحه من الفتح عقب نقل عبارة السبكي: ويحتمل أن تكون قسمة غنائم بدر وقعت على السواء بعد أن أخرج الخمس للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى ما تقدم من قصة سرية عبد الله بن جحش وأفادت آية الأنفال وهي قوله تعالى: {واعلموا أن ما غنمتم} إلى آخر بيان مصرف الخمس لا مشروعية أصل الخمس والله أعلم.

ثم قال الحافظ في شرح حديث حل الغنائم لنا دون من قبلنا: وكان ابتداء ذلك من غزوة بدر وفيها نزل قوله تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} [الأنفال: 69] فأحل الله لهم الغنيمة وقد ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن عباس. وقد قدمت في أوائل فرض الخمس أن أول غنيمة خمست غنيمة السرية التي خرج فيها عبد الله بن جحش وذلك قبل بدر بشهرين ويمكن الجمع بما ذكر ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم أخر غنيمة تلك السرية حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم بدر اه. وقال الواقدي كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهرين وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة. وإنما يصح هذا القول إذا أريد به أن أول غنيمة غنمت بعد نزول هذه الآية هي غنيمة الغزوة المذكورة بناء على أن الآية نزلت في جملة السورة في غزوة بدر بعد انقضاء القتال كما تقدم، والصواب ما حققه الحافظ ابن حجر وذكرناه آنفا.

وقال في فتح البيان: وأما معنى الغنيمة في الشرع فحكى القرطبي الاتفاق أن المراد بقوله: {أن ما غنمتم من شيء} مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر وقال ولا يقتضي في اللغة هذا التخصيص ولكن عرف الشرع قيد هذا اللفظ بهذا النوع. وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله: {يسألونك عن الأنفال} حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر وقيل إنها (يعني آية {يسألونك عن الأنفال} ) محكمة غير منسوخة وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليست مقسومة بين الغانمين، وكذلك لمن بعده من الأئمة حكاه الماوردي عن كثير من المالكية قالوا وللإمام أن يخرجها عنهم. واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين. وكان أبو عبيدة يقول: افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومنّ على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئا.

« وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وممن حكى ذلك ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري والقاضي عياض وابن عربي. والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين كثيرة جدا. قال القرطبي: ولم يقل أحد فيما أعلم أن قوله تعالى: {يسألونك عن الأنفال} الآية ناسخ لقوله: {واعلموا أن ما غنمتم} الآية. بل قال الجمهور إن قوله: {واعلموا أن ما غنمتم} ناسخ وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف والتبديل لكتاب الله. وأما قصة مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها وقال: وأما قصة حنين فقد عوض الأنصار لما قالوا يعطي الغنائم قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه صلى الله عليه وسلم فقال: (أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟) كما في مسلم وغيره. وليس لغيره أن يقول هذا القول بل ذلك خاص به اه.

والتحقيق أن مكة فتحت عنوة وأنه صلى الله عليه وسلم أعتق أهلها فقال: (أنتم الطلقاء) وأن الأرض التي تفتح عنوة لا يجب قسمها كالغنائم المنقولة بل يعمل الإمام فيها بما يرى فيه المصلحة دع ما ميز الله به مكة عن سائر بقاع الأرض ببيته وشعائر دينه حتى قيل إنها لا تملك. وجملة القول إنه ليس بين الآيتين تعارض يتفصى منه بالنسخ فالأولى ناطقة بأن الأنفال لله يحكم فيها بحكمه وللرسول صلى الله عليه وسلم ينفذ حكمه تعالى بالبيان والعمل والاجتهاد. والثانية ناطقة بوجوب أخذ خمس الغنائم وتقسيمه على من ذكر فيها. فهي إذا مبينة لإجمال الأولى ومفسرة لها لا ناسخة لها.

ومعنى الآية واعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتم من الكفار المحاربين فالحق الأول الواجب فيه أن خمسه لله تعالى يصرف فيما يرضيه من مصالح الدين العامة كالدعوة إلى الإسلام وعمارة الكعبة وكسوتها وإقامة شعائره تعالى، وللرسول يأخذ كفايته منه لنفسه ونسائه وكان يمونهن إلى سنة، ولذي القربى أي أقرب أهله وعشيرته إليه نسبا وولاء ونصرة وهم الذين حرمت عليهم الصدقة كما حرمت عليه تكريما له ولهم بالتبع له عن أن يكون رزقهم من أوساخ الناس وما ذلك من حمل مننهم. وقد خص الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ببني هاشم وبني أخيه المطلب المسلمين دون بني أخيه الشقيق بل توأم عبد شمس وأخيه لأبيه نوفل وكلهم أولاد عبد مناف، ويلي ذوي القربى المحتاجون من سائر المسلمين وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل...

وحكمة تقسيم الخمس على هذا النحو أن الدولة التي تدير سياسة الأمة لا بد لها من مال تستعين به على ذلك وهو أقسام: أولها ما كان للمصلحة العامة كشعائر الدين وحماية الحوزة وهو ما جعل لله في الآية، وثانيها ما كان لنفقة إمامها ورئيس حكومتها وهو سهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، وثالثها ما كان لأقوى عصبته وأخلصهم له وأظفرهم تمثيلا لشرفه وكرامته وهو سهم أولي القربى. ورابعها ما يكون لذوي الحاجات من ضعفاء الأمة وهم الباقون. وهذا الاعتبار كله أو أكثره لا يزال مراعى ومعمولا به في أكثر الدول والأمم مع اختلاف شؤون الاجتماع والمصالح العامة والخاصة...

وقد أكد الله أمر هذا التخميس بقوله: {إن كنتم آمنتم بالله} الواحد القهار الفاعل المختار {وما أنزلنا على عبدنا} الكامل في عبوديتنا محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات، والملائكة المثبتين لكم في القتال، والنصر المبين على الأعداء {يوم الفرقان} الذي فرقنا به بين الإيمان وأهله وبين الكفر وأهله وهو يوم بدر {يوم التقى الجمعان} جمع المؤمنين وجمع المشركين في الحرب والنزال، أي إن كنتم آمنتم بما ذكر إيمان إيقان وإذعان، وقد شاهدتم ذلك بالعيان، فاعلموا أن ما غنمتم من شيء قل أو كثر فإن لله خمسه لأنه هو مولاكم وناصركم، كما أنه مالك أمركم في سائر شؤونكم، وللرسول الذي هداكم به وفضلكم على غيركم الخ فيجب أن ترضوا بحكم الله في الغنائم كغيرها وبقسمة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها. وفيه أن الإيمان يقتضي الإذعان النفسي والعملي. قال علي كرم الله وجهه ورضي عنه: كانت ليلة الفرقان التي التقى فيها الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{والله على كل شيء قدير} فكان مما شهدتم من تصريف قدرته بقضائه وقدره مع تأييد رسوله وإنجاز وعده له، أن نصركم على قلتكم وجوعكم وضعفكم على ثلاثة أضعاف عددكم أو أكثر من الأقوياء كما تقدم في تفسير أوائل السورة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

... وأخيراً تجيء الأحكام المنظمة لعلاقات الجماعة المسلمة فيما بينها، وعلاقاتها بالمجموعات التي تدخل في الإسلام، ولكنها لا تلحق بدار الإسلام، ثم علاقاتها بالذين كفروا في حالات معينة، ومن حيث المبدأ العام أيضاً. حيث تتجلى في هذه الأحكام طبيعة التجمع الإسلامي؛ وطبيعة المنهج الإسلامي كله؛ وحيث يبدو بوضوح كامل أن "التجمع الحركي "هو قاعدة الوجود الإسلامي، الذي تنبثق منه أحكامه في المعاملات الداخلية والخارجية؛ وأنه لا يمكن فصل العقيدة والشريعة في هذا الدين عن الحركة والوجود الفعلي للمجتمع المسلم.

وهذا حسبنا في هذا التمهيد القصير، لنواجه بعده النصوص القرآنية بالتفصيل:

السياق متصل بين مطالع هذا الدرس وخواتم الدرس الماضي في آخر الجزء التاسع.. فهو استطراد في أحكام القتال الذي بدأ الحديث عنه هناك في قوله تعالى: (...قل للذين كفروا:إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن اللهبما يعملون بصير، وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم، نعم المولى ونعم النصير)..

ثم تابع الحديث في هذا الدرس عن أحكام الغنائم التي تنشأ من النصر في ذلك القتال الذي بين غايته وهدفه:

(حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)..

ومع أن غاية الجهاد قد تحددت بهذا النص الواضح؛ وتبين منها أنه جهاد لله، وفي سبيل أهداف تخص دعوة الله ودينه ومنهجه للحياة.. ومع أن ملكية الأنفال التي تتخلف عن هذا الجهاد قد بت في أمرها من قبل، فردت إلى الله والرسول، وجرّد منها المجاهدون لتخلص بينّتهم وحركتهم لله.. مع هذا وذلك فإن المنهج القرآني الرباني يواجه الواقع الفعلي بالأحكام المنظمة له. فهناك غنائم وهناك محاربون. وهؤلاء المحاربون يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم:هم يتطوعون للجهاد، وهم يجهزون أنفسهم على نفقتهم الخاصة؛ وهم يجهزون غيرهم من المجاهدين الذين لا يجدون ما ينفقون.. ثم هم يغنمون من المعركة غنائم. يغنمونها بصبرهم وثباتهم وبلائهم في الجهاد.. ولقد خلص الله نفوسهم وقلوبهم من أن يكون فيها شيء يحيك من شأن هذه الغنائم فرد ملكيتها ابتداء لله ورسوله.. وهكذا لم يعد من بأس في إعطائهم نصيبهم من هذه الغنائم -وهم يشعرون أنهم إنما يعطيهم الله ورسوله- فيلبي هذا الإعطاء حاجتهم الواقعية، ومشاعرهم البشرية، دون أن ينشأ عنه محظور من التكالب عليه، والتنازع فيه، بعد ذلك الحسم الذي جاء في أول السورة..

إنه منهج الله الذي يعلم طبيعة البشر؛ ويعاملهم بهذا المنهج المتوازن المتكامل، الذي يلبي حاجات الواقع كما يلبي مشاعر البشر؛ وفي الوقت ذاته يتقي فساد الضمائر وفساد المجتمع، من أجل تلك المغانم!

(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.. إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. والله على كل شيء قدير)..

وبين الروايات المأثورة والآراء الفقهية خلاف طويل.. أولاً: حول مدلول "الغنائم" ومدلول "الأنفال" هل هما شيء واحد، أم هما شيئان مختلفان؟ وثانياً: حول هذا الخمس -الذي يتبقى بعد الأخماس الأربعة التي منحها الله للمقاتلين- كيف يقسم؟ وثالثاً: حول خمس الخمس الذي لله. أهو الخمس الذي لرسول الله، أم هو خمس مستقل؟: ورابعا: حول خمس الخمس الذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهو خاص به أم ينتقل لكل إمام بعده؟ وخامساً: حول خمس الخمس الذي لأولي القربى، أهو باق في قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني عبد المطلب، كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم يرجع إلى الإمام يتصرف فيه؟ وسادساً: أهي أخماس محددة يقسم إليها الخمس، أم يترك التصرف فيه كله لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] ولخلفائه من بعده؟... وخلافات أخرى فرعية.

ونحن -على طريقتنا في هذه الظلال- لا ندخل في هذه التفريعات الفقهية التي يحسن أن تطلب في مباحثها الخاصة.. هذا بصفة عامة.. وبصفة خاصة فإن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعا إسلاميا يواجهنا اليوم أصلا. فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة، لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة مسلمة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله، ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية أول مرة؛ ورجع الناس إلى الجاهلية التي كانوا عليها، فأشركوا مع الله أرباباً أخرى تصرف حياتهم بشرائعها البشرية! ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد إلى الدخول فيه.. إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية والسلطان. والتلقي في هذا الشأن عن رسول الله وحده! وإلى التجمع تحت قيادة مسلمة تعمل لإعادة إنشاء هذا الدين في حياة البشر، والتوجه بالولاء كله لهذا التجمع ولقيادته المسلمة؛ ونزع هذا الولاء من المجتمعات الجاهلية وقياداتها جميعاً.

هذه هي القضية الحية الواقعية التي تواجه اليوم هذا الدين؛ وليس هناك -في البدء- قضية أخرى سواها.. ليس هناك قضية غنائم، لأنه ليس هناك قضية جهاد! بل ليس هناك قضية تنظيمية واحدة، لا في العلاقات الداخلية ولا في العلاقات الخارجية، وذلك لسبب بسيط: هو أنه ليس هناك مجتمع إسلامي ذو كيان قائم مستقل، يحتاج إلى الأحكام التي تضبط العلاقات فيه والعلاقات بينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى!!!

والمنهج الإسلامي منهج واقعي، لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل؛ ومن ثم لا يشتغل أصلاً بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع!.. إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام! هذا ليس منهج هذا الدين. هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية، حيث لا مقابل لها من الواقع أصلا! بدلا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين نفسه: دعوة إلى لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ ينشأ عنها دخول فئة في هذا الدين من جديد -كما دخل فيه الناس أول مرة- كما ينشأ عن هذا الدخول في الدين تجمع حركي ذو قيادة مسلمة وذو ولاء خاص به وذو كينونة مستقلة عن المجتمعات الجاهلية.. ثم يفتح الله بينه وبين قومه بالحق.. ثم يحتاج حينئذ -وحينئذ فقط- إلى الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه؛ كما يحتاج إلى الأحكام التي تنظم علاقاته مع غيره.. وحينئذ -وحينئذ فقط- يجتهد المجتهدون فيه لاستنباط الأحكام التي تواجه قضاياه الواقعية -في الداخل وفي الخارج- وحينئذ -وحينئذ فقط- تكون لهذا الاجتهاد قيمته، لأنه تكون لهذا الاجتهاد جديته وواقعيته!

من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين، لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم؛ حتى يحين وقتها عندما يشاء الله؛ وينشأ المجتمع الإسلامي، ويواجه حالة جهاد فعلي، تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام! وحسبنا -في هذه الظلال- أن نتتبع الأصل الإيماني في السياق التاريخي الحركي، والمنهج القرآني التربوي. فهذا هو العنصر الثابت، الذي لا يتأثر بالزمن في هذا الكتاب الكريم.. وكل ما عداه تبع له وقائم عليه:

إن الحكم العام الذي تضمنه النص القرآني:

(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل).

يتلخص في رد أربعة أخماس كل شيء من الغنيمة إلى المقاتلين، واستبقاء الخمس يتصرف فيه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والأئمة المسلمون القائمون على شريعة الله المجاهدون في سبيل الله، من بعده في هذه المصارف: لله وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.. بما يواجه الحاجة الواقعة عند وجود ذلك المغنم... وفي هذا كفاية..

أما التوجيه الدائم بعد ذلك فهو ما تضمنه شطر الآية الأخير:

(إن كنتم آمنتم بالله، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، والله على كل شيء قدير)..

إن للإيمان إمارات تدل عليه؛ والله -سبحانه- يعلق الاعتراف لأهل بدر -وهم أهل بدر- بأنهم آمنوا بالله، وبما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. يعلق الاعتراف لأهل بدر هؤلاء بالإيمان، على قبولهم لما شرع الله لهم في أمر الغنائم في صدر الآية؛ فيجعل هذا شرطاً لاعتبارهم عنده قد آمنوا بالله وبما أنزله على عبده من القرآن؛ كما يجعله مقتضى لإعلانهم الإيمان لا بد أن يتحقق ليتحقق مدلول هذا الإعلان.

وهكذا نجد مدلول الإيمان -في القرآن- واضحاً جازماً لا تميع فيه، ولا تفصيص ولا تأويل مما استحدثته التطويلات الفقهية فيما بعد، عندما وجدت الفرق والمذاهب والتأويلات، ودخل الناس في الجدل والفروض المنطقية الذهنية، كما دخل الناس -بسبب الفرق المذهبية والسياسية- في الاتهامات ودفع الاتهامات؛ وصار النبز بالكفر، ودفع هذا النبز، لا يقومان على الأصول الواضحة البسيطة لهذا الدين؛ إنما يقومان على الغرض والهوى ومكايدة المنافسين والمخالفين! عندئذ وجد من ينبز مخالفيه بالكفر لأمور فرعية؛ ووجد من يدفع هذا الاتهام بالتشدد في التحرج والتغليظ على من ينبز غيره بهذه التهمة.. وهذا وذلك غلو سببه تلك الملابسات التاريخية.. أما دين الله فواضح جازم لا تميع فيه ولا تفصيص ولا غلو.. "ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل".. ولا بد لقيامه من قبول ما شرع الله وتحقيقه في واقع الحياة.. والكفر: رفض ما شرع الله، والحكم بغير ما أنزل الله، والتحاكم إلى غير شرع الله.. في الصغير وفي الكبير سواء.. أحكام صريحة جازمة بسيطة واضحة.. وكل ما وراءها فهو من صنع تلك الخلافات والتأويلات..

وهذا نموذج من التقريرات الصريحة الواضحة الجازمة من قول الله سبحانه:

(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)..

ومثله سائر التقريرات الواضحة الجازمة الصريحة التي ترسم حقيقة الإيمان وحدوده في كتاب الله.

لقد نزع الله ملكية الغنيمة ممن يجمعونها في المعركة؛ وردها الى الله والرسول -في أول السورة- ليخلص الأمر كله لله والرسول؛ وليتجرد المجاهدون من كل ملابسة من ملابسات الأرض؛ وليسلموا أمرهم كله -أوله وآخره- لله ربهم وللرسول قائدهم؛ وليخوضوا المعركة لله وفي سبيل الله، وتحت راية الله، طاعة لله؛ يحكمونه في أرواحهم، ويحكمونه في أموالهم ويحكمونه في أمرهم كله بلا تعقيب ولا اعتراض.. فهذا هو الايمان.. كما قال لهم في مطلع السورة وهو ينتزع منهم ملكية الغنيمة ويردها إلى الله ورسوله: (يسألونك عن الأنفال. قل الأنفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله.. إن كنتم مؤمنين)

حتى إذا استسلموا لأمر الله، وارتضوا حكمه ذاك، فاستقر فيهم مدلول الإيمان.. عاد ليرد عليهم أربعة أخماس الغنيمة، ويستبقي الخمس على الأصل -لله والرسول- يتصرف فيه رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، وينفق منه على من يعولهم في الجماعة المسلمة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. عاد ليرد عليهم الأخماس الأربعة، وقد استقر في نفوسهم أنهم لا يملكونها ابتداء بحق الغزو والفتح، فهم إنما يغزون لله ويفتحون لدين الله؛ إنما هم يستحقونها بمنح الله لهم إياها؛ كما أنه هو الذي يمنحهم النصر من عنده؛ ويدبر أمر المعركة وأمرهم كله.. وعاد كذلك ليذكرهم بأن الاستسلام لهذا الأمر الجديد هو الإيمان.. هو شرط الإيمان، وهو مقتضى الإيمان..

واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان..

وهكذا تتواتر النصوص، لتقرر أصلا واضحاً جازماً من أصول هذا الدين في اعتبار مدلول الإيمان وحقيقته وشرطه ومقتضاه.

ثم نقف أمام وصف الله -سبحانه- لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (عبدنا) في هذا الموضع الذي يرد إليه فيه أمر الغنائم كلها ابتداء، وأمر الخمس المتبقي أخيراً:

(إن كنتم آمنتم بالله، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)..

إنه وصف موحٍ.. إن العبودية لله هي حقيقة الإيمان؛ وهي في الوقت ذاته أعلى مقام للإنسان يبلغ إليه بتكريم الله له؛ فهي تجلى وتذكر في المقام الذي يوكل فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم التبليغ عن الله، كما يوكل إليه فيه التصرف فيما خوله الله.

وإنه لكذلك في واقع الحياة! إنه لكذلك مقام كريم.. أكرم مقام يرتفع إليه الإنسان..

إن العبودية لله وحده هي العاصم من العبودية للهوى، والعاصم من العبودية للعباد.. وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له، إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه.

إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده، يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى. يقعون من فورهم عبيداً لهواهم وشهواتهم ونزواتهم ودفعاتهم؛ فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع" الإنسان "من بين سائر الأنواع؛ وينحدرون في سلم الدواب فإذا هم شر الدواب، وإذا هم كالأنعام بل هم أضل، وإذا هم أسفل سافلين بعد أن كانوا -كما خلقهم الله- في أحسن تقويم.

كذلك يقع الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله في شر العبوديات الأخرى وأحطها.. يقعون في عبودية العبيد من أمثالهم، يصرفون حياتهم وفق هواهم، ووفق ما يبدو لهم من نظريات واتجاهات قصيرة النظر، مشوبة بحب الاستعلاء، كما هي مشوبة بالجهل والنقص والهوى!

ويقعون في عبودية" الحتميات "التي يقال لهم: إنه لا قبل لهم بها، وإنه لا بد من أن يخضعوا لها ولا يناقشوها.." حتمية التاريخ".. و "حتمية الاقتصاد".. و" حتمية التطور "وسائر الحتميات المادية التي تمرغ جبين" الإنسان "في الرغام وهو لا يملك أن يرفعه، ولا أن يناقش -في عبوديته البائسة الذليلة- هذه الحتميات الجبارة المذلة المخيفة!

ثم نقف كذلك أمام وصف الله -سبحانه- ليوم بدر بأنه يوم الفرقان:

(إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)..

لقد كانت غزوة بدر -التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده- فرقاناً.. فرقاناً بين الحق والباطل -كما يقول المفسرون إجمالاً- وفرقاناً بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيراً..

كانت فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً.. ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأشياء والأحياء.. الحق الذي يتمثل في تفرد الله -سبحانه- بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله: سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك.. والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك؛ ويغشي على ذلك الحق الأصيل؛ ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء، وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء!.. فهذا هو الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر؛ حيث فرق بين ذلك الحق الكبير وهذا الباطل الطاغي؛ وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان!

لقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق، على أبعاد وآماد: كانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير.. فرقاناً بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور، وفي الخلق والسلوك، وفي العبادة والعبودية؛ وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات...

وكانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك.. فرقانا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء، وللقيم والأوضاع، وللشرائع والقوانين، وللتقاليد والعادات... وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره ولا متسلط سواه ولا حاكم من دونه، ولا مشرع إلا إياه.. فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله؛ وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه؛ وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة..

وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار. وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع.. والإسلام بوصفه تصورا جديدا للحياة، ومنهجا جديدا للوجود الإنساني، ونظاما جديداً للمجتمع، وشكلاً جديداً للدولة.. بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير" الإنسان "في" الأرض "بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته.. الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد. لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه، تتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم. ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد، والمنهج الجديد، والدولة الجديدة، والمجتمع الجديد، في واقع الحياة؛ وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً؛ ثم في حياة البشرية كلها أخيراً.. وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله..

وكانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ البشرية.. فالبشرية بمجموعها قبل قيام النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام.. هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام. وهذا النظام الجديد الذي انبثق من هذا التصور. وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلاداً جديداً للإنسان. وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها ويقوم عليها النظام الاجتماعي والتشريع القانوني سواء.. هذا كله لم يعد ملكاً للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر وتوكيد وجود المجتمع الجديد. إنما صار -شيئا ًفشيئا- ملكاً للبشرية كلها؛ تأثرت به سواءفي دار الإسلام أم في خارجها، سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته!.. والصليبيون الذين زحفوا من الغرب، ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه، قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاءوا ليحطموه؛ وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائدا عندهم، بعد ما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي! والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه -بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام!- قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية؛ وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة؛ وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوربا!.. وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله -منذ وقعة بدر- متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام، أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء.

وكانت فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة. فجرت وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين؛ وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة، حتى لقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: (غر هؤلاء دينهم).. وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو -وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة- لتكون فرقاناً بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة؛ ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد؛ فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا لمجرد السلاح والعتاد؛ وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية، لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة؛ وأن هذا ليس كلاماً يقال، إنما هو واقع متحقق للعيان.

وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل بمدلول آخر. ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى في أوائل هذه السورة:

(وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).

لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين، إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة. فأراد الله لهم غير ما أرادوا. أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان [غير ذات الشوكة] وأن يلاقوا نفير أبي جهل [ذات الشوكة] وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر؛ ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة! وقال لهم الله -سبحانه- إنه صنع هذا:

(ليحق الحق ويبطل الباطل)..

وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة.. إن الحق لا يحق، وإن الباطل لا يبطل -في المجتمع الإنساني- بمجرد البيان" النظري "للحق والباطل. ولا بمجرد الاعتقاد" النظري "بأن هذا حق وهذا باطل.. إن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس؛ وإن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس. إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا.. فهذا الدين منهج حركي واقعي، لا مجرد" نظرية "للمعرفة والجدل! أو لمجرد الاعتقاد السلبي!

ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة؛ وكان هذا النصر العملي فرقاناً واقعياً بين الحق والباطل بهذا الاعتبارالذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته -سبحانه -من وراء المعركة، ومن وراء إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق؛ ومن وراء إفلات القافلة [غير ذات الشوكة] ولقاء الفئة ذات الشوكة..

ولقد كان هذا كله فرقاناً في منهج هذا الدين ذاته، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم.. وإنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته؛ حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين! حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين!

وهكذا كان يوم بدر (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة..

(والله على كل شيء قدير)..

وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء.. مثل لا يجادل فيه مجادل، ولا يماري فيه ممار.. مثل من الواقع المشهود، الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله. وأن الله على كل شيء قدير.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

هذا تعليم الله تعالى بشأن توزيع الغنائم، فالله سبحانه وتعالى تعهد الحرب من وقت الإعداد لها إلى الإقدام عليها إلى اللقاء فيها حتى الإنتهاء، ثم علمنا توزيع غنائمها ليكون التوزيع حكما شرعيا نخضع له، فلا نختلف ولا نتأثر، وقسمة الله تعالى هي العادلة وغيرها قسمة باطلة، وقسمة ضيزى لا صلاح فيها، ولا خير.ثانيهما أن هذه الغنائم ليست سلبا ولا نهبا، كما ادعى بعض الكذابين من كتاب الفرنجة، إنما هي مغانم النصر، ومغارم الاعتداء، وإنما حرب المسلمين للمعتدين رد لاعتدائهم، وسلوا جيوش أوروبا فإنها لا تكتفي بما يؤخذ من أموال المغلوب نتيجة للغلب، بل إنها بعد الصلح تأخذ كل ما تغنم، وتفرض عليه ما أنفقته في الحرب، وأنى هذا من عدل الإسلام الذي لا يفرض أن ثمة مجرمي حرب، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين.وإن هذا يدل على أكمل التعاون؛ لأن خمس الله ورسوله لسد حاجة بيت المال، ولإعانة الضعفاء.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وهذا الخمس العام المردود على ذوي الحاجات من المسلمين هو الذي يطلق عليه كتاب الله هنا {خمس الله والرسول} كما يطلق في عرف الشرع على أي نوع من أنواع الحقوق العامة اسم "حق الله "وإن كان مآل ذلك الحق إلى عموم الناس. فقد جاءت السنة النبوية الكريمة ببعض التفصيل والتفضيل، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فاضل بين الفارس والراجل من المجاهدين، فأعطى للراجل سهما واحدا، وأعطى للفارس سهمين اثنين. قال أبو بكر "ابن العربي ":"وذلك لكثرة العناء وعظم المنفعة "- أي بالنسبة للفارس – "فجعل الله التقدير في الغنيمة بقدر العناء في أخذها، حكمة منه سبحانه فيها

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ونستنتج ممّا ذكرناه آنفاً ما يلي: إنّ آية الغنائم ذات معنى واسع يشمل كل فائدة وربح، لأن معنى الغنيمة اللغوي عام ولا دليل على تخصيص الآية. والشيء الوحيد الذي استند إليه جماعة من مفسّري أهل السنة، هو أنّ الآيات السابقة والآيات اللاحقة لهذه الآية تتعلق بالجهاد، وهذا الأمر يكون قرينة على أنّ آية (ما غنمتم) تتعلق بغنائم الحرب...

في حين أنّ أسباب النّزول وسياق الآيات لا يخصص عمومية الآية كما هو معلوم، وبعبارة أجلى: لا مانع من كون مفهوم الآية ذا معنى عام، وأن يكون سبب نزولها هو غنائم الحرب في الوقت ذاته، فهي من مصاديق هذا المفهوم أو الحكم...

الخلاصة، أنّ الآية محل البحث جاءت في سياق آيات الجهاد، إلاّ أنّها تقول: «إنّ أية فائدة أو ربح تحصلون عليه ومنه غنائم الحرب فعليكم أن تعطوا خمسه»...

من مجموع ما قلناه يتّضح أنّ الخمس ليس امتيازا للسّادة، بل هو نوع من الحرمان لحفظ المصالح العامّة ...

... إنّ ذكر سهم على أنّه سهم الله، للتأكيد على أهمية مسألة الخمس وإثباتها، ولتأكيد ولاية الرّسول والقيادة الإِسلامية وحاكمية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً...