61- واذكروا - أيها اليهود - أيضاً يوم سيطر البطر على أسلافكم ، ولم يؤدوا لنعمة الله حقها فقالوا لموسى : إننا لن نصبر على طعام واحد ( وهو المن والسلوى ) فادع لنا ربك كي يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقولها وقثائها وعدسها وثومها وبصلها ، فتعجب موسى من ذلك ، وأنكره عليهم فقال لهم : أتفضلون هذه الأصناف على ما هو أفضل وأحسن ، وهو المن والسلوى ؟ . . فانزلوا إذن من سيناء وادخلوا مدينة من المدن فإنكم ستجدون فيها ما تريدون ، وبسبب ذلك البطر والعناد أحاطت بهؤلاء اليهود المذلة والفقر والخنوع ، واستحقوا غضب الله عليهم لما ألفوه من العناد والعصيان ، وما جروا عليه من الكفر بآيات الله وبقتلهم الأنبياء مخالفين بذلك الحق الثابت المقرر ، وقد جرأهم على ذلك - الكفر وهذا القتل - ما رُكِّب في نفوسهم من التمرد والعدوان ومجاوزة الحد في المعاصي .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد ذكرت بني إسرائيل بنعمة جليلة ، ونصحتهم بأن يعملوا على شكرها : وحذرتهم عاقبة الإِفساد في الأرض وجحودهم النعمى واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير :
ثم ذكرهم - سبحانه - بما كان منهم من جحود النعمة واستخفافهم بها وإيثارهم - بسوء اختيارهم - ما هو أدنى على ما هو خير ، فقال تعالى :
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يا موسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ . . . }
الصبر : حبس النفس على الشيء ، بمعنى إلزامها إياه ، ومنه الصبر على الطاعات ، أو يطلق على حبسها بمعنى كفها . ومنه الصبر عن المعاصي . والطعام : ما رزقوه في التيه من المن والسولى : والبقل : ما تنبته الأرض من الخضر مما يأكله الناس والأنعام من نحو النعناع والكراث وغيرهما . والقوم : قيل هو الثوم ، وقيل هو الحنطة . والقثاء : نوع من المأكولات أكبر حجماً من ( الخيار ) .
قال ابن جرير : ( وكان سبب مسألتهم موسى - عليه السلام - ذلك فيما بلغنا عن قتادة أنه قال : كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى : فملوا ذلك وذكروا عيشاً كان لهم بمصر ، فسألوه موسى ، فقال الله تعالى : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } .
ثم ساق ابن جرير رواية ، فيها تصريح بأن سؤالهم لم يكن في البرية بل كان في التيه فقال : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : أنبأنا . ابن زيد قال :
" كان طعام بني إسرائيل في التيه واحداً ، وشرابهم واحداً . كان شرابهم عسلاً ينزل لهم من السماء يقال له المن ، وطعامهم طير يقال له السلوى ، يأكلون الطير ويشربون العسل ، لم يكونوا يعرفون خبزاً ولا غيره ، فقالوا يا موسى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } : " لما سئموا من الإِقامة في التيه . والمواظبة على مأكول واحد لبعدهم عن الأرض التي ألفوها ، وعن العوائد التي عهدوها ، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك ، وتشوقهم إلى ما كانوا يألفون ، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم " .
وقال صاحب الكشاف : " كانوا أهل فلاحة فنزعوا إلى عكرهم - فأجموا - أي ملوا وكرهوا - ما كانوا فيه من النعمى وطلبت أنفسهم عدم البقاء { على طَعَامٍ وَاحِدٍ } أرادوا ما رزقوه في التيه من المن والسلوى " .
ومعنى الآية الكريمة إجمالاً : وذاكروا يا بني إسرائيل بعد أن أسبغنا عليكم نعمنا ما كان من سوء اختيار أسلافكم ، وفساد أذواقكم ، وإعناتكم لنبيهم موسى - عليه السلام - حيث قالوا له ببطر وسوء أدب : لن نصبر على طعام المن والسلوى في كل وقت ، فسل ربك أن يخرج لنا مما تنبته الأرض من خضرها وفاكهتها وحنطتها وعدسها وبصلها ، لأن نفوسنا قد عافت المن والسلوى ، فوبخهم نبيهم موسى - عليه السلام - بقوله : أتختارون الذي هو أقل فائدة وأدنى لذة ، وتتركون المن والسلوى وهو خير مما تطلبون لذة وفائدة ؟ انزلوا إلى مصر من الأمصار فإنكم تجدون به ما طلبتموه من البقول وأشباهها .
وأحاطت ببني إسرائيل المهانة والاستكانة كما تحيط القبة بمن ضربت عليه ، وحق عليهم غضب الله .
ثم بين الله - تعالى - السبب في جحودهم للنعم وفي أنه ضرب عليهم الذلة والمسكنة وأنزل عليهم غضبه بقوله :
{ ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } إلخ أي : إن الكفر بآيات الله قد تأصل فيهم ، وقتل أنبيائهم بغير الحق قد تكرر منهم حتى صار كالطبيعة الثانية والسجية الثابتة ، فليس غريباً على هؤلاء أن يقولوا لن نصبر على المن والسلوى وأن ينزل بهم غضب الله ونقمته من أجل جحودهم وكفرهم .
وقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } تذكير لهم برغبة من رغباتهم الناشئة عن ذوق سقيم . لا يقدر النعمى قدرها ، وفيه انتقال من تعداد النعم عليهم إلى بيان موفقهم الجحودي منها ، وانسياقهم وراء شهواتهم وأهوائهم وحماقاتهم ، وفيه إشعار بسوء أدبهم في مخاطبتهم لنبيهم موسى - عليه السلام - إذ عبروا عن عدم رغبتهم في تناول المن والسلوى بحرف { لَن } المفيد تأكيد النفي فقالوا : { لَن نَّصْبِرَ } . . إلخ فكأنهم يقولن له مهددين ، ليلجئوه إلى دعاء ربه سريعاً : إننا ابتداء من هذا الوقت الذي نخاطبك فيه إلى أن نموت ، لن نحبس أنفسنا عن كراهية على تناول طعام واحد ، لأننا قد سئمناه ومللناه ، ولن نعود إليه : فالتعبير " بلن " يشعر بشدة ضجرهم ، وبلوغ الكراهية لهذا الطعام منهم منتهاها .
قال الحسن البصري - رضي الله عنه - : " بطروا طعم المن والسلوى فلم يصبروا عليه ، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه ، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقل وثوم " .
ووصفوه بالوحدة مع أن المن والسلوى نوعان ، لأنهم أرادوا من الوحدة أنه طعام متكرر في كل يوم لا يختلف بحسب الأوقات ، والعرب تقول لمن يفعل على مائدته في كل يوم من الطعام أنواعاً لا تتغير ، إنه يأكل من طعام واحد .
وسألوا موسى - عليه السلام - أن يدعو لهم ، لأن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم ، وكذلك دعاء الصالحين ، حيث يصدر من قلوب عامرة بتقوى الله وجلاله ، فيلاقى من الإِجابة ما لا يلاقيه دعاء نفوس تستهويها الشهوات ، وتستولي عليها السيئات .
وقولهم : { فادع لَنَا رَبَّكَ } ولم يقولوا ربنا ، لعدم رسوخ الإِيمان في قلوبهم ، ولأنه سبحانه - قد اختصه بما لم يعط مثله من مناجاته وتكميله وإيتائه التوراة .
وقولهم : { يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } هو مضمون ما طلبوه من موسى - عليه السلام - وهو في معنى مقول قول محذوف والتقدير : أي قل لربك يخرج لنا .
وجاء التعبير بالفعل { يُخْرِجْ } مجزوماً - مع أن مقتضى الظاهر أن يقال : " أن يخرج - للإِيماء إلى أنهم واثقون بأنه إن دعا ربه أجابه ، حتى لكأن إخراج ما تنبت الأرض متوقف على مجرد دعاء موسى ربه ، وأنه لو لم يدع لهم ، لكان شحيحاً عليهم بما فيه نفعهم .
والجملة الكريمة : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } من مقول موسى - عليه السلام - لهم ، وفيها توبيخ شديد لهم على سوء اختيارهم ، وضعف عقولهم . لإِيثارهم الأدنى وهو البقل وما عطف عليه ، على ما هور خير منه وهو المن والسلوى .
قال ابن جرير عند تفسيره للآية الكريمة : " أي قال لهم موسى : أتاخذون الذي هو أخس خطراً وقيمة وقدراً من العيش ، بدلا بالذي هو خير منه خطراًٍ وقيمة وقدراً ، وذلك كان استبدالهم ، وأصل الاستبدال : هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك ، ومعنى قوله : { أدنى } أخس وأضع وأصغر قدراً وخطراً ، وأصله من قولهم : هذا رجل دنى بين الدناءة ، وإنه ليدنى في الأمور - بغير همز - إذ كان يتتبع خسيسها . ثم قال : ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى : البقول والقثاء والعدس والبصل والثوم ، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه " .
ثم أضاف موسى - عليه السلام - إلى توبيخهم السابق على بطرهم وجحودهم توبيخاً آخر فقال لهم : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أي إذا كان هذا هو مرغوبكم ، فاتركوا هذا المكان ، وأنزلوا إلى مصر من الأمصار ، لكي تجدوا ما سألتموني إياه من البقل والثوم وأشباههما ، لأن ما اخترتموه لا يوجد في المكان الذي حللتم به ، وإنما يوجد في الأمصار والقرى .
قال ابن كثير : " هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف " .
وقال ابن جرير : " فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين { اهبطوا مِصْراً } وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها ، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين واتفاق قراءة القراء على ذلك . . " اه .
وقال أبو حيان في البحر : " وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان ابن تغلب ( مصر ) بغير تنوين ، وقد وردت كذلك في مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود ، وبعض مصاحف عثمان - رضي الله عنه " اه .
والمعنى على القراءة الأولى : اهبطوا مصر من الأمصار لأنكم في البدو ، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي وإنما يكون في القرى والأمصار ، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش .
والمعنى على القراءة الثانية : اتركوا المكان الذي أنتم فيه ، واهبطوا مصر التي كنتم تسامون فيها سوء العذاب فإنكم تجدون فيها ما تبغونه ، لأنكم قوم لا تقدرون نعمة الحرية ، ولا ترتاحوا للفضائل النفسية ، بل شأنكم - دائماً - أن تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
ومن حجة الذين قالوا إن الله أراد بالمصر في الآية الكريمة ، مصر فرعون ، قوله تعالى في سورة الشعراء { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } وقوله تعالى في سورة الدخان :
{ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } قالوا : فأخبر الله - تعالى - أنه قد ورثهم ذلك ، وجعلها لهم ، فلم يكونوا يرثونها ، ثم لا ينتفعون بها ، ولا يكونون منتفعين إلا بمصر بعضهم إليها .
قال ابن جرير : " ومن حجة من قال إن الله - إنما عني بقوله : { اهبطوا مِصْراً } أي : مصراً من الأمصار دون مصر فرعون بعينها ، أن الله - تعالى - جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر ، وإنما ابتلاهم بالتيه . فامتناعهم عن موسى في حرب الجبابرة ، إذ قال لهم { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } إلى قوله تعالى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } فحرم الله - تعالى - على قائل ذلك - فيما ذكر لنا - دخولها حتى هلكوا في التيه وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة . ثم أهبط ذريتهم الشام ، فأسكنهم الأرض المقدسة ، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع " يوشع بن نون " بعد وفاة موسى بن عمران . فرأينا أن الله - تعالى - قد اخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة ، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها ، فيجوز لنا أن نقرأ { اهبطوا مِصْراً } ونتأوله أنه ردهم إليها . قالوا : فإن احتج محتج بقوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } قيل لهم : فإن الله - تعالى - إنما أورثهم ذلك فملكهم إياها . ولم يردهم إليها وجعل مساكنهم الشام " اه .
قال أبو حيان في البحر : ( ولم يصرح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر ) اه .
ومع أن ابن جرير - رحمه الله - قد رد على من قال ، إن المراد بالمصر مصر فرعون : استناداً إلى قراءة غير الجمهور ، إلا أنه لم يرجح أحد الرأيين فقد قال : ( والذي نقول به في ذلك ، أنه لا دلالة في كتاب الله - تعالى - على الصواب من هذين التأويلين ، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر ، وأهلا لتأويل متنازعون تأويله ، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بينه الله - تعالى - في كتابه وهم في الأرض تائهون فاستجاب الله لموسى دعاءه وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قراراً من الأرض التي تنبت ما سأل لهم من ذلك ، إذا صاروا إليه ، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر ، وجائز أن يكون الشام . . . "
ومن هذا النص الذي نقلناه عن ابن جرير ، نرى أنه لم يقطع برأى في المكان الذي أمر بنو إسرائيل بالهبوط فيه وأنه يرى أن الله - تعالى - قد استجاب لموسى - عليه السلام - دعاءه ، وأن موسى وقومه قد هبطوا - فعلا - إلى قرار من الأرض التي تنبت البقول وأشباهها .
وقد عارض الإِمام ابن كثير في تفسيره رأى ابن جرير فقال :
وهذا الذي قاله - أي ابنُ جرير - فيه نظر ، والحق أن المراد مصر من الأمصار ، كما روى عن ابن عباس وغيره والمعنى على ذلك ، لأن موسى - عليه السلام - يقول لهم : هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها ، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه ، ولهذا قال : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أي ما طلبتم ، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم .
وبذلك يظهر لنا أن ابن كثير - رحمه الله - يرى أن المراد بالمصر مكان غير معين وأن موسى - عليه السلام - لم يسأل ربه إجابة طلبهم لأنهم كانوا متعنتين . بطرين ، والله - تعالى - يكره من كان كذلك ، وأن قول موسى - عليه السلام - لهم " اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم " من باب التوبيخ والتجهيل لهم ، إذ ليس حينئذ بلد قريب يستطيعون الوصول إليه .
هذا ، والذي نرجحه في هذا المقام هو ما ذهب إليه الإِمام ابن كثير لما يأتي :
أولا : أن القراءة بالتنوين متواترة ، وابن جرير نفسه لم يجاوز القراءة بغيرها ، وهذه القراءة المتواترة ، نص في أن المراد من مصر ، أي بلد كان ، لا مصر فرعون ، ثم إذا كان المراد به ذلك فليس لنا أن نقول إنه يصدق على مصر فرعون ، وذلك لأن الأمصار التي تنبت ما طلبوا من البقول والخضر أقرب إليهم من مصر ، فليس من المعقول أن يؤمروا بالذهاب إلى مصر فرعون وهي بعيدة عن مكانهم بعداً شاسعاً ، ويتركوا الأمصار الأقرب إليهم وفيها ما يريدون .
ثانياً : لم ينقل أحد من المؤرخين أنهم رجعوا إلى مصر بعد خروجهم منها كما قال أبو حيان وغيره ، بل الثابت أن بني إسرائيل خرجوا من مصر ، وأمروا بعد خروجهم بدخول الأرض المقدسة لقتال الجبارين ، ولعصيانهم أمر نبيهم وماتوا جميعاً في التيه ، وبقي أبناؤهم فامتثلوا أمر الله - تعالى - وهبطوا إلى الشام . وقاتلوا الجبارين ودخلوا الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون .
ثالثاً : ليس في الآية ما يشعر بأن موسى - عليه السلام - طلب من ربه أن يجيبهم إلى رغبتهم فكيف نقول بما لم يدل عليه القرآن الكريم ولو من طريق الإِشارة ؟
رأبعاً : دخولهم في التيه كان عقوبة لهم على نكوصهم عن قتال الجبارين ، ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم .
فالتيه والحالة هذه كان بمثابة سجن لهم يعاقبون فيه ، كما يشعر بذلك قوله تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } فكيف يخرج السجين من سجنه تلبية لبعض رغباته المنكرة . وبناء على ذلك يكون الأمر في قول موسى لهم : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } للتهديد والتوبيخ والتجهيل .
ثم بين - سبحانه - العقوبات التي حلت بهم جزاء ظلمهم وفجورهم فقال تعالى :
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } :
ضرب الذلة والمسكنة عليهم كنية عن لزومهما لهم ، وإحاطتهما بهم ، كما يحيط السرادق بمن بداخله .
قال صاحب الكشاف : ( جعلت الذلة محيطة بهم ، مشتملة عليهم ، فهم فيها كمن يكون في القبة من ضربت عليهم ، أو ألصقت به حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه ، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة ) .
وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم ، بظاهر جسم آخر بشدة ، يقال : ضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق .
والذلة : على وزن فعلة من قول القائل : ذل فلان يذل ذلة وذلة ، والمراد بها الصغار والهوان والحقارة .
والمسكنة ، مفعلة من السكون ، ومنها أخذ لفظ المسكين ، لأن الهم قد أثقلة فجعله قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفاقه والفقر ، والمراد بها في الآية : الضعف النفسي ، والفقر القلبي الذي يستولي على الشخص ، فيجعله يحس بالهوان ، مهما يكن لديه من أسباب القوة .
والفرق بينها وبين الذلة . أن الذلة هوان تجيء أسبابه من الخارج ، كأن يغلب المرء على أمره نتيجة انتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو .
أما المسكنة فهي هوان ينشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق واستيلاء المطامع والشهوات عليها ، وتوارث الذلة قروناً طويلة يورث هذه المسكنة ، ويجعلها كالطبيعة الثابتة في الشخص المستذل . ولقد عاش اليهود قروناً وأحقاباً مستعبدين لمختلف الأمم ، فأكسبهم هذا الاستعباد ضعفاً نفسياً جعلهم لا يفرقون بين الحياة الذليلة والكريمة ، بل إنهم ليفضلوا الأولى على الثانية ما دامت تجلب لهم غرضاً من أغراض الدنيا ، ومهما كثر المال في أيديهم ، فإنهم لا يتحولون عن فقرهم النفسي وظهورهم أمام الناس بمظهر البائس الفقير .
وقوله تعالى : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } بيان لسوء عاقبتهم في الآخرة ومبالغة في إهانتهم وتحقيرهم ، فهم في الدنيا أذلاء حقراء ، وفي الآخرة سيرجعون بغضب من الله بسبب أفعالهم القبيحة .
قال ابن جرير - رحمه الله - يعني بقوله تعالى { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } : انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال باءوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر يقال منه باء فلان بذنبه يبوء بوأ وبواء ، ومنه قوله تعالى :
{ إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يعني تنصرف متحملهما ، وترجع بهما قد صارا عليك دوني ، فمعنى الكلام إذا . ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم منه سخط .
وقال صاحب الكشاف : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } من قولك باء فلان بفلان ، إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه .
ثم صرح - سبحانه - بعد ذلك بسبب ما أحاط بهم من الذلة والمسكنة واستحقاقهم غضب الله وسخطه ، فقال تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } . والجملة الكريمة استئناف بيان جواب عن سؤال تقديره : لم فعل بهم كل ذلك ؟ فكان الجواب ، فعلنا بهم بسبب جحودهم لآيات الله ، وبسبب قتلهم لأنبيائه ، وخروجهم عن طاعته ؛ ومجاوزتهم حدودهم والآيات تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله تعالى وربوبيته ، وتطلق ويراد بها النصوص التي تشتمل عليها الكتب السماوية ، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يبلغون عن الله - تعالى - وهي التي يسميها علماء التوحيد المعجزات ، وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات ، ومردوا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع { يَكْفُرُونَ } .
وقوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } أي ويقتلون أنبياء الله الذين بعثهم مبشرين ومنذرين ، ولقد قتل اليهود - فيمن قتلوا من الأنبياء - زكريا وابنه يحيى - عليهما السلام - لأنهما أبيا الانقياد وراء شهواتهم وأهوائهم .
وقال - سبحانه - { بِغَيْرِ الحق } مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبداً ، لإِفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر في شريعتهم لأنها تحرمه ، { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } فهذا القيد المقصود به الاحتجاج عليهم بأصول دينهم وتخليد مذمتهم ، وتقبيح إجرامهم ، حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ في الفهم ، أو تأول في الحكم ، أو شبهة في الأمر ، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا ، وخالفوا شرع الله عن تعمد وإصرار .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره ؟
قلت : معناه أنهم قتلوهم بغيرا لحق عندهم ، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا ، وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم ، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقون به للقتل عندهم " .
وقال الإِمام الرازي : " فإن قيل : قال هنا { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } وقال في آل عمران { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } فما الفرق ؟ قلت . إن الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل يتجلى في حديث : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : " كفر بعد إيمان ، وزناً بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق " فالحق المذكور هنا بحرف التعريف إشارة إلى هذا وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك أي حق يستندون إليه ، لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة " .
ثم قال تعالى : { ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
العصيان : الخروج عن طاعة الله . والاعتداء : تجاوز الحد الذي حده الله - تعالى - لعباده إلى غيره وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه . وللمفسرين في مرجع الإِشارة " ذلك " رأيان :
أحدهما : أنه يعود إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ، وعليه يكون المعنى :
إن هؤلاء اليهود قد مروا على عصيانهم لخالقهم ، وتعديهم حدوده بجرأة وعدم مبالاة فنشأ عن هذا التمرد والطغيان أن كفروا بآيات الله - تعالى - وامتدت أيديهم الأثيمة إلى قتل الأنبياء بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة .
والجملة الكريمة على هذا الرأي تفيد أن التردي في المعاصي وارتكاب المناهي ، وتجاوز الحدود المشروعة ، يؤدي إلى الانتقال من غصير الذنوب إلى كبيرها ، ومن حقيرها إلى عظيمها ، لأن هؤلاء اليهود لما استمروا المعاصي وداوموا على تعدي الحدود ، هانت على نفوسهم الفضائل ، وانكسرت أمام شهواتهم كل المثل العليا ، فكذبوا بآيات الله تكذيباً وقتلوا من جاءهم بالهدى ودين الحق .
والثاني : يرى أصحابه أن اسم الإشارة الثاني يعود إلى نفس المشار إليه باسم الإِشارة الأول ، وتكون الحكمة في تكرار الإِشارة هو تمييز المشار إليه حرصاً على معرفته ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة عليهم ، واستحقاقهم لغضب الله - تعالى - كما بينا ، والإِشارة حينئذ من قبيل التكرير المغنى عن العطف كما في قوله تعالى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } والمعنى أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة ، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا . وقتلهم أنبياءنا ، وخروجهم عن طاعتنا وتعديهم لحدودنا .
وعلى هذا الرأي يكون ذكر أسباب العقوبة التي حلت بهم في الدرجة العليا من حسن الترتيب ، فقد بدأ - سبحانه - بما فعلوه في حقه وهو كفرهم بآياته ، ثم ثنى بما يتلوه في العظم وهو قتلهم لأنبيائهم ، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء ، وتخطى الحدود ، وعدم المبالاة بالعهود ، وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم في سوق الأحكام ، مشفوعة بعللها وأسبابها .
وبهذا تكون الآية الكريمة قد وصفت بني إسرائيل بجحود النعم ، وسوء الأدب وحمق التفكير ، وهوان النفس ، وبلادة الطبع ، وبطر الحق ، والبغي على أنفسهم وعلى غيرهم ، وما وصفتهم به أيدته الأيام وصدقته الأحداث في كل زمان ومكان .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىَ لَن نّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَىَ بِالّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنّ لَكُمْ مّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّهِ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }
قد دللنا فيما مضى قبل على معنى الصبر وأنه كف النفس وحبسها عن الشئ فإذا كان ذلك كذلك فمعنى الآية إذا : واذكروا إذ قلتم يا معشر بني إسرائيل : لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد وذلك الطعام الواحد هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم وهو السلوى في قول بعض أهل التأويل ، وفي قول وهب بن منبه هو الخبز النّقيّ مع اللحم فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء . وما سمى الله مع ذلك وذكر أنهم سألوه موسى . وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا ، ما :
حدثنا به بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَإذْ قُلْتُمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِر على طَعامٍ وَاحِدٍ قال : كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، فملوا ذلك ، وذكروا عيشا كان لهم بمصر ، فسألوه موسى ، فقال الله تعالى : اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : لَنْ نَصْبِرَ على طَعامٍ وَاحِدٍ قال : ملوا طعامهم ، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك ، قالُوا ادْعُ لَنّا ربّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثائِها وَفُومِها . . . الآية .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وَإذْ قُلْتُمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ على طعَامٍ وَاحِدٍ قال : كان طعامهم السلوى ، وشرابهم المنّ ، فسألوا ما ذكر ، فقيل لهم : اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ .
قال أبو جعفر ، وقال قتادة : إنهم لما قدموا الشأم فقدوا أطعمتهم التي كانوا يأكلونها ، فقالوا : ادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثّائِها وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا وكانوا قد ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، فملوا ذلك ، وذكروا عيشا كانوا فيه بمصر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : سمعت ابن أبي نجيح في قوله عزّ وجل : لَنْ نَصْبِرَ على طَعامٍ وَاحِدٍ المنّ والسلوى ، فاستبدلوا به البقل وما ذكر معه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله سواء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بمثله .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أعطوا في التيه ما أعطوا ، فملوا ذلك . وقالوا يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أنبأنا ابن زيد ، قال : كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا ، وشرابهم واحدا ، كان شرابهم عسلاً ينزل لهم من السماء يقال له المنّ ، وطعامهم طير يقال له السلوى ، يأكلون الطير ويشربون العسل ، لم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره . فقالوا : يا موسى إنا لن نصبر على طعام واحد ، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها فقرأ حتى بلغ : اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ .
وإنما قال جل ذكره : يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ ولم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض ، فيقول : قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مما تنبته الأرض من بقلها وقثائها ، لأن «من » تأتي بمعنى التبعيض لما بعدها ، فاكْتُفي بها عن ذكر التبعيض ، إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بالكلام الذي هي فيه كقول القائل : أصبح اليوم عند فلان من الطعام يريد شيئا منه .
وقد قال بعضهم : «من » ههنا بمعنى الإلغاء والإسقاط ، كأن معنى الكلام عنده : يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها . واستشهد على ذلك بقول العرب : ما رأيت من أحد ، بمعنى : ما رأيت أحدا ، وبقول الله : وَيُكَفّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيّئَاتِكُمْ وبقولهم : قد كان من حديث ، فخلّ عني حتى أذهب ، يريدون : قد كان حديث .
وقد أنكر من أهل العربية جماعة أن تكون «من » بمعنى الإلغاء في شيء من الكلام ، وادّعُوا أنّ دخولها في كل موضع دخلت فيه مؤذن أن المتكلم مريد لبعض ما أدخلت فيه لا جميعه ، وأنها لا تدخل في موضع إلا لمعنى مفهوم .
فتأويل الكلام إذا على ما وصفنا من أمر من ذكرنا : فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها . والبقل والقثاء والعدس والبصل ، هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها . وأما الفوم ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه . فقال بعضهم : هو الحنطة والخبز . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ومؤمل ، قالا : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : الفوم : الخبز .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ومجاهد قوله : وَفُومِها قالا : خبزها .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَفُومِها قال : الخبز .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة والحسن : الفوم : هو الحبّ الذي تختبزه الناس .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن بمثله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن أبي مالك في قوله : وَفُومِها قال : الحنطة .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر عن السدي : وَفُومِهَا الحنطة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن يونس ، عن الحسن وحصين ، عن أبي مالك في قوله : وَفُومِها : الحنطة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن قتادة قال : الفوم : الحبّ الذي يختبز الناس منه .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء بن أبي رباح قوله : وَفُومِها قال : خبزها . قالها مجاهد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال لي ابن زيد : الفوم : الخبز .
حدثني يحيى بن عثمان السهمي ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : وَفُومِها يقول : الحنطة والخبز .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : وَفُومِها قال : هو البرّ بعينه الحنطة .
حدثنا عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم الجرمي ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن رشدين بن كريب ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قول الله عزّ وجل : وَفُومِها قال : الفوم : الحنطة بلسان بني هاشم .
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا عبد العزيز بن منصور ، عن نافع بن أبي نعيم أن عبد الله بن عباس سئل عن قول الله : وَفُومِها قال : الحنطة ، أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول :
قَدْ كُنْتُ أغْنَى النّاسِ شَخْصا وَاحدا وَرَدَ المَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ
وقال آخرون : هو الثوم . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : هو هذا الثوم .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : الفوم : الثوم .
وهو في بعض القراءات «وثومها » . وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعا فوما من اللغة القديمة ، حكي سماعا من أهل هذه اللغة : فوّموا لنا ، بمعنى اختبزوا لنا وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود «وثومها » بالثاء . فإن كان ذلك صحيحا فإنه من الحروف المبدلة ، كقولهم : وقعوا في عاثور شرّ وعافور شرّ ، وكقولهم للأثافي أثاثي ، وللمغافير مغاثير ، وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء . والمغافير شبيه بالشيء الحلو يشبه بالعسل ينزل من السماء حلوا يقع على الشجر ونحوها .
القول في تأويل قوله تعالى : أتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أدْنَى بالّذِي هُوَ خَيْرٌ .
يعني بقوله : قالَ أتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أدْنى بالّذِي هُوَ خَيْرٌ قال لهم موسى : أتأخذون الذي هو أخسّ خطرا وقيمة وقدرا من العيش ، بدلاً بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا وذلك كان استبدالهم .
وأصل الاستبدال : هو ترك شيء لاَخر غيره مكان المتروك . ومعنى قوله : أدْنى أخسّ وأوضع وأصغر قدرا وخطرا ، وأصله من قولهم : هذا رجل دنيّ بيّن الدناءة ، وإنه ليدني في الأمور بغير همز إذا كان يتتبع خسيسها . وقد ذكر الهمز عن بعض العرب في ذلك سماعا منهم ، يقولون : ما كنت دنيا ولقد دنأت . وأنشدني بعض أصحابنا عن غيره أنه سمع بعض بني كلاب ينشد بيت الأعشى :
باسِلَةُ الوَقْعِ سَرَابِيلُها *** بِيضٌ إلى دانِئها الظّاهرِ
بهمز الدانىء ، وأنه سمعهم يقولون : إنه لدانىء خبيث ، بالهمز . فإن كان ذلك عنهم صحيحا ، فالهمز فيه لغة وتركه أخرى .
ولا شكّ أن من استبدل بالمنّ والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم ، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه .
وقد تأول بعضهم قوله : الّذي هُوَ أدْنَى بمعنى الذي هو أقرب ، ووجه قوله : أدنى إلى أنه أفعل من الدنوّ الذي هو بمعنى القرب . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : الّذِي هُوَ أدْنى قاله عدد من أهل التأويل في تأويله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قال : أتَسْتَبْدِلُونَ الّذي هُوَ أدْنى بالّذِي هُوَ خَيْرٌ يقول : أتستبدلون الذي هو شرّ بالذي هو خير منه ؟ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : الّذِي هُوَ أدْنى قال : أردأ .
القول في تأويل قوله تعالى : اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ .
وتأويل ذلك : فدعا موسى فاستجبنا له ، فقلنا لهم : اهبطوا مصر . وهو من المحذوف الذي اجتزىء بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه . وقد دللنا فيما مضى على أن معنى الهبوط إلى المكان إنما هو النزول إليه والحلول به .
فتأويل الآية إذا : وَإذْ قُلْتُمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ على طَعامٍ وَاحِدٍ فادْعُ لَنا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثائها وفُومِها وعَدَسِها وبَصَلِها قال لهم موسى : أتستبدلون الذي هو أخسّ وأردأ من العيش بالذي هو خير منه ؟ فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه ، فاستجاب الله له دعاءه ، فأعطاهم ما طلبوا ، وقال الله لهم : اهْبُطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ .
ثم اختلف القرّاء في قراءة قوله : مِصْرا فقرأه عامة القرّاء : «مصرا » بتنوين المصر وإجرائه وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه . فأما الذين نوّنوه وأجروه ، فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار لا مصرا بعينه ، فتأويله على قراءتهم : اهبطوا مصرا من الأمصار ، لأنكم في البدو ، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي ، وإنما يكون في القرى والأمصار ، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش . وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بالإجراء والتنوين ، كان تأويل الكلام عنده : اهبطوا مصرا البلدة التي تعرف بهذا الاسم وهي «مصر » التي خرجوا عنها ، غير أنه أجراها ونوّنها اتباعا منه خط المصحف ، لأن في المصحف ألفا ثابتة في مصر ، فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين سبيل من قرأ : قَوَارِيرا قَوَارِيرا مِنْ فِضّةٍ منوّنة اتباعا منه خط المصحف . وأما الذي لم ينوّن مصر فإنه لا شك أنه عنى مصر التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها .
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك نظير اختلاف القرّاء في قراءته .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة : اهْبِطُوا مِصْرا أي مصرا من الأمصار فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : اهْبُطُوا مِصْرا من الأمصار ، فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ فلما خرجوا من التيه رفع المنّ والسلوى وأكلوا البقول .
وحدثني المثنى ، قال : حدثني آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن قتادة في قوله : اهْبُطُوا مِصْرا قال : يعني مصرا من الأمصار .
وحدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : اهْبِطُوا مِصْرا قال : مصرا من الأمصار ، زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : اهْبِطُوا مِصْرا قال : مصرا من الأمصار . ومصر لا تجري في الكلام ، فقيل : أيّ مصر ؟ فقال : الأرض المقدسة التي كتب الله لهم . وقرأ قول الله جل ثناؤه : ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ .
وقال آخرون : هي مصر التي كان فيها فرعون . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، حدثنا آدم ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : اهْبِطُوا مِصْرا قال : يعني به مصر فرعون .
حدثت عن عمار بن الحسن ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
ومن حجة من قال : إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله : اهْبُطُوا مِصْرا مصرا من الأمصار دون مصر فرعون بعينها ، أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر ، وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة إذ قال لهم : يا قَوْمُ ادْخُلُوا الأرْضُ المُقَدّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لكُمْ وَلاَ تَرْتَدّوا على أدْبارِكُم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسَى إنّ فِيهَا قَوْما جَبّارِينَ إلى قوله : إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدا ما دَامُوا فِيها فاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قَاعِدُونَ . فحرّم الله جل وعز على قائل ذلك فيما ذكر لنا دخولها حتى هلكوا في التيه وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة ، ثم أهبط ذرّيتهم الشام ، فأسكنهم الأرض المقدسة ، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون بعد وفاة موسى بن عمران . فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة ، ولم يخبرنا عنهم أنه ردّهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها ، فيجوز لنا أن نقرأ اهبطوا مصر ، ونتأوّله أنه ردّهم إليها .
قالوا : فإن احتجّ محتجّ بقول الله جل ثناؤه : فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وأوْرَثْناها بَنِي إسْرَائِيلَ . قيل لهم : فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك فملكهم إياها ولم يردّهم إليها ، وجعل مساكنهم الشأم .
وأما الذين قالوا : إن الله إنما عنى بقوله جل وعز : اهْبِطُوا مِصْرا مِصْرَ ، فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها : فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأوْرَثْنَاها بَنِي إسْرَائِيلَ وقوله : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنِعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كذلِكَ وأوْرَثْناها قَوْما آخَرِينَ . قالوا : فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورّثهم ذلك وجعلها لهم ، فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها . قالوا : ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها ، وإلا فلا وجه للانتفاع بها إن لم يصيروا أو يصر بعضهم إليها . قالوا : وأخرى أنها في قراءة أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود : «اهْبِطُوا مِصْرَ » بغير ألف ، قالوا : ففي ذلك الدلالة البينة أنها مصر بعينها .
والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين ، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر ، وأهل التأويل متنازعون تأويله .
فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بينه الله جل وعز في كتابه وهم في الأرض تائهون ، فاستجاب الله لموسى دعاءه ، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك ، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه ، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر ، وجائز أن يكون الشأم . فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين : اهْبِطُوا مِصْرا وهي القرائة التي لا يجوز عندي غيرها لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين ، واتفاق قراءة القراء على ذلك . ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه إلا من لا يجوز الإعتراض به على الحجة فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينها .
القول في تأويل قوله تعالى : وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ .
قال أبو جعفر : يعني بقوله : وَضُرِبَتْ أي فُرضت ، ووضعت عليهم الذلة وأُلزموها من قول القائل : ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة ، وضرب الرجل على عبده الخراج يعني بذلك وضعه فألزمه إياه ، ومن قولهم : ضرب الأمير على الجيش البعث ، يراد به ألزمهموه .
وأما الذلة ، فهي الفعلة من قول القائل : ذلّ فلان يذلّ ذلاً وذلة ، كالصغرة من صغر الأمر ، والقعدة من قعد ، والذلة : هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ماهم عليه من كفرهم به وبرسوله إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم ، فقال جل وعز : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلاَ بالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِين أُوتُوا الكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن وقتادة في قوله : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ قالا : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .
وأما المسكنة ، فإنها مصدر المسكين ، يقال : ما فيهم أسكن من فلان وما كان مسكينا ولقد تمسكن مسكنة . ومن العرب من يقول : تمسكن تمسكنا . والمسكنة في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة ، وهي خشوعها وذلها ، كما :
حدثني به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وَالمَسْكَنَةُ قال : الفاقة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قوله : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ قال : الفقر .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ قال هؤلاء يهود بني إسرائيل . قلت له : هم قبط مصر ، قال : وما لقبط مصر وهذا ؟ لا والله ما هم هم ، ولكنهم اليهود يهود بني إسرائيل . فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعزّ ذلاّ ، وبالنعمة بؤسا ، وبالرضا عنهم غضبا ، جزاءً منه لهم على كفرهم بآياته وقتلهم أنبياءه ورسله اعتداءً وظلما منهم بغير حقّ ، وعصيانهم له ، وخلافا عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ .
قال أبو جعفر : يعني بقوله : وَباءوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال باءوا إلا موصولاً إما بخير وإما بشرّ ، يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به بَوْءا وَبَوْاءً . ومنه قول الله عزّ وجلّ إني أرِيد أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ يعني : تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني .
فمعنى الكلام إذا : ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم منه سخط . كما :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَباءُوا بِغَضَبٍ مِن اللّهِ فحدث عليهم غضب من الله .
حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : وَباءوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ قال : استحقوا الغضب من الله .
وقدمنا معنى غضب الله على عبده فيما مضى من كتابنا هذا ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : ذلكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرون بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الحَقّ .
قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : «ذلك » ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، وإحلاله غضبه بهم . فدل بقوله : «ذلك » وهو يعني به ما وصفنا على أن قول القائل ذلك يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها .
ويعني بقوله : بِأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرونَ : من أجل أنهم كانوا يكفرون ، يقول : فعلنا بهم من إحلال الذلّ والمسكنة والسخط بهم من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير الحقّ ، كما قال أعشى بني ثعلبة :
مَلِيكِيّةٌ جَاوَرتْ بالحِجَازِ *** قَوما عُداةً وأرْضا شَطِيرا
بِمَا قَدْ تَربّعُ روْضَ القَطا *** وَرَوْضَ التّناضِبِ حتّى تَصِيرَا
يعني بذلك : جاورتْ بهذا المكان هذه المرأةُ قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله لمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده من تربعها روض القطا وروض التناضب . فكذلك قوله : وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ والمَسْكَنَةُ وباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ ذلكَ بِأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ يقول : كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا ، وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا . وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى الكفر : تغطية الشيء وستره ، وأن آيات الله : حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله .
فمعنى الكلام إذا : فعلنا بهم ذلك من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده ، وتصديق رسله ويدفعون حقيتها ، ويكذبون بها .
ويعني بقوله : وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الحَقّ : ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم لإنباء ما أرسلهم به عنه لمن أرسلوا إليه . وهم جماع واحدهم نبيّ غير مهموز ، وأصله الهمز ، لأنه من أنبأ عن الله ، فهو يُنْبِىء عنه إنباء ، وإنما الاسم منه منبىء ولكنه صرف وهو «مُفعِل » إلى «فَعِيل » ، كما صرف سميع إلى فعيل من مفعل ، وبصير من مبصر ، وأشباه ذلك ، وأبدل مكان الهمزة من النبىء الياء ، فقيل نبي هذا . ويجمع النبيّ أيضا على أنبياء ، وإنما جمعوه كذلك لإلحاقهم النبيء بإبدال الهمزة منه ياء بالنعوت التي تأتي على تقدير فعيل من ذوات الياء والواو ، وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير فعيل من ذوات الياء والواو جمعوه على أفعلاء ، كقولهم ولي وأولياء ، ووصي وأوصياء ، ودعيّ وأدعياء ، ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله ، وعلى أن الواحد «نبيء » مهموز لجمعوه على فعلاء ، فقيل لهم النبآء ، على مثال النبغاء ، لأن ذلك جمع ما كان على فعيل من غير ذوات الياء والواو من النعوت كجمعهم الشريك شركاء ، والعليم علماء ، والحكيم حكماء ، وما أشبه ذلك . وقد حكي سماعا من العرب في جمع النبي النبآء ، وذلك من لغة الذين يهمزون النبيء ، ثم يجمعونه على النبآء على ما قد بينت ، ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبيّ صلى الله عليه وسلم :
يا خاتمَ النّبآءِ إنّك مُرْسَل *** بالخَير كُلّ هُدى السّبِيلِ هُدَاكَا
فقال : يا خاتم النبآء ، على أن واحدهم نبيء مهموز . وقد قال بعضهم : النبي والنبوّة غير مهموز ، لأنهما مأخوذان من النّبْوَة ، وهي مثل النجوة ، وهو المكان المرتفع . وكان يقول : إن أصل النبي الطريق ، ويستشهد على ذلك ببيت القطامي :
لمّا وَرَدْنَ نَبِيّا واسْتَتَبّ بها *** مُسْحَنْفِرٌ كخُطوط السّيْحِ مُنْسَحِلُ
يقول : إنما سمي الطريق نبيا ، لأنه ظاهر مستبين من النّبوّة . ويقول : لم أسمع أحدا يهمز النبي . قال : وقد ذكرنا ما في ذلك وبينا ما فيه الكفاية إن شاء الله .
ويعني بقوله : وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الحَقّ : أنهم كانوا يقتلون رسل الله بغير إذن الله لهم بقتلهم منكرين رسالتهم جاحدين نبوّتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : ذلكَ بمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ .
وقوله : ذلكَ ردّ على «ذلك » الأولى . ومعنى الكلام : وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، وباءوا بغضب من الله ، من أجل كفرهم بآيات الله ، وقتلهم النبيين بغير الحقّ ، من أجل عصيانهم ربهم ، واعتدائهم حدوده فقال جل ثناؤه : ذلك بِمَا عَصَوْا والمعنى : ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين . والاعتداء : تجاوز الحدّ الذي حدّه الله لعباده إلى غيره ، وكل متجاوز حدّ شيء إلى غيره فقد تعدّاه إلى ما جاوز إليه . ومعنى الكلام : فعلت بهم ما فعلت من ذلك بما عصوا أمري ، وتجاوزوا حدّي إلى ما نهيتهم عنه .
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ( 61 )
كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى ، وتذكروا عيشهم الأول بمصر ، وكنى عن المن والسلوى { بطعام واحد } ، وهما طعامان ، لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد ، ولتكرارهما سواء أبداً( {[667]} ) قيل لهما { طعام واحد } ، ولغة( {[668]} ) بني عامر «فادعِ » بكسر العين .
و { يخرج } : جزم بما تضمنه الأمر من معنى الجزاء( {[669]} ) ، وبنفس الأمر على مذهب أبي عمر الجرمي والمفعول على مذهب سيبويه مضمر تقديره مأكولاً مما تنبت الأرض ، وقال الأخفش : «من » في قوله : { مما } زائدة «وما » مفعولة ، وأبى سيبويه أن تكون «من » ملغاة في غير النفي ، كقولهم : ما رأيت من أحد ، و { من } في قوله : { من بقلها } لبيان الجنس ، و { بقلها } بدل بإعادة الحرف ، والبقل كل ما تنبته الأرض من النجم( {[670]} ) ، والقثاء جمع قثأة( {[671]} ) .
وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب : «قُثائها » ، بضم القاف .
وقال ابن عباس وأكثر المفسرين : «الفوم الحنطة » .
وقال عطاء وقتادة : «الفوم جميع الحبوب التي يمكن أن تختبز كالحنطة والفول والعدس ونحوه » .
وقال الضحاك : «الفوم الثوم » ، وهي قراءة عبد الله بن مسعود بالثاء ، وروي ذلك عن ابن عباس( {[672]} ) ، والثاء تبدل من الفاء ، كما قالوا ، مغاثير ومغافير( {[673]} ) ، وجدث وجدف ، ووقعوا في عاثور شر ، وعافور شر ، على أن البدل لا يقاس عليه ، والأول أصح : أنها الحنطة ، وأنشد ابن عباس قول أحيحة بن الجلاح : [ الطويل ]
قد كنت أغنى الناس شخصاً واجداً . . . ورد المدينة عن زراعة فوم
قال ابن دريد( {[674]} ) : «الفوم الزرع أو الحنطة » ، وأزد السراة( {[675]} ) يسمون السنبل فوماً « ، والاستبدال طلب وضع الشيء موضع الآخر( {[676]} ) ، و { أدنى } مأخوذ عند أبي إسحاق الزجاج من الدنو أي القرب( {[677]} ) في القيمة .
وقال علي بن سليمان : هو مهموز من الدنيء البين الدناءة ، بمعنى الأخس ، إلا أنه خففت همزته .
وقال غيره : هو مأخوذ من الدون أي الأحط ، فأصله أدون أفعل ، قلب( {[678]} ) فجاء أفلع ، وقلبت الواو ألفاً لتطرفها .
وقرأ زهير للكسائي( {[679]} ) : » أدنأ ، ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل التي هي أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير ؟ والوجه الذي يوجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه ، يحتمل أن يكون تفاضلها في القيمة ، لأن هذه البقول لا خطر لها ، وهذا قول الزجاج ، ويحتمل أن يفضل المن والسلوى لأنه الطعام الذي من الله به وأمرهم بأكله ، وفي استدامة أمر الله تعالى وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوا عارٍ من هذه الخصال ، فكان أدنى من هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في الطيب واللذة به ، فالبقول لا محالة أدنى من هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في حسن الغذاء ونفعه ، فالمن والسلوى خير لا محالة في هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل من جهة أنه لا كلفة فيه ولا تعب ، والذي طلبوا لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب ، فهو { أدنى } في هذا الوجه ، ويحتمل أن يفضل في أنه لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخللها البيوع( {[680]} ) والغصوب وتدخلها الشبه ، فهي { أدنى } في هذا الوجه .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : ويترتب الفضل للمن والسلوى بهذه الوجوه كلها ، وفي الكلام حذف ، تقديره : فدعا موسى ربه فأجابه( {[681]} ) ، فقال لهم : { اهبطوا } ، وتقدم ذكر معنى( {[682]} ) الهبوط ، وكأن القادم على قطر منصب( {[683]} ) عليه ، فهو من نحو الهبوط ، وجمهور الناس يقرؤون «مصراً » بالتنوين وهو خط المصحف ، إلا ما حكي عن بعض مصاحف عثمان رضي الله عنه( {[684]} ) .
وقال مجاهد وغيره ممن صرفها : «أراد مصراً من الأمصار غير معين » ، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية ، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه .
وقالت طائفة ممن صرفها( {[685]} ) : أراد مصر فرعون بعينها ، واستدلوا بما في القرآن من أن الله تعالى أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم ، وأجازوا صرفها .
وقال الأخفش : «لخفتها وشبهها بهند ودعد » وسيبويه لا يجيز هذا( {[686]} ) .
وقال غير الأخفش : «أراد المكان فصرف » .
وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وغيرهما : «اهبطوا مصر » بترك الصرف ، وكذلك هي في مصحف أبيّ بن كعب وقالوا : «هي مصر فرعون » .
قال الأعمش : «هي مصر التي عليها صالح بن علي » .
وقال أشهب : «قال لي مالك : هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون » .
وقوله تعالى : { فإن لكم ما سألتم } يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم .
وقرأ النخغي وابن وثاب «سِألتم » بكسر السين( {[687]} ) وهي لغة ، { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } معناه ألزموها وقضي عليهم بها ، كما يقال ضرب الأمير البعث( {[688]} ) ، وكما قالت العرب ضربة لازب ، أي إلزام ملزوم أو لازم ، فينضاف المصدر إلى المفعول بالمعنى ، وكما يقال ضرب الحاكم على اليد ، أي حجر وألزم ؛ ومنه ضرب الدهر ضرباته ، أي ألزم إلزاماته ، و { الذلة } فعلة من الذل كأنها الهيئة والحال ، { والمسكنة } من المسكين ، قال الزجاج : «هي مأخوذة من السكون وهي هنا : زي الفقر وخضوعه( {[689]} ) ، وإن وجد يهودي غني فلا يخلو من زي الفقر ومهانته » .
قال الحسن وقتادة : «المسكنة الخراج أي الجزية » .
وقال أبو العالية : «المسكنة الفاقة والحاجة » .
{ وباؤوا بغضب من الله } معناه : مروا متحملين له( {[690]} ) ، تقول : بؤت بكذا إذا تحملته ، ومنه قول مهلهل ليحيى بن الحارث بن عباد : «بؤ( {[691]} ) بشسع نعل كليب » .
والغضب بمعنى الإرادة صفة ذات ، وبمعنى إظهاره على العبد بالمعاقبة صفة فعل ، والإشارة بذلك إلى ضرب الذلة وما بعده ، والباء في { بأنهم } باء السبب .
وقال المهدوي : «إن الباء بمعنى اللام » والمعنى : لأنهم ، والآيات هنا تحتمل أن يراد بها التسع( {[692]} ) وغيرها مما يخرق العادة ، وهو علامة لصدق الآية به ، ويحتمل أن يراد آيات التوراة التي هي كآيات القرآن .
وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «وتقتلون » بالتاء على الرجوع إلى خطابهم( {[693]} ) ، وروي عنه أيضاً بالياء .
وقرأ نافع : بهمز «النبيئين » ، وكذلك حيث وقع في القرآن ، إلا في موضعين( {[694]} ) : في سورة الأحزاب : { أن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي } [ الأحزاب : 50 ] بلا مد ولا همز ، { ولا تدخلوا بيوت النبي إلا } [ الأحزاب : 53 ] ، وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد ، وترك الهمز في جميع ذلك الباقون ، فأما من همز فهو عنده من «أنبأ » إذا أخبر ، واسم فاعله منبىء فقيل نبيء ، بمعنى منبىء ، كما قيل : سميع بمعنى مسمع ، واستدلوا بما جاء من جمعه على نبآء . قال الشاعر( {[695]} ) : [ الطويل ]
يا خاتم النبآء إنك مرسل . . . بالحقّ كلّ هدى الإله هداكا
فهذا كما يجمع فعيل في الصحيح «كظريف » وظرفاء وشبهه .
قال أبو علي : «زعم سيبويه أنهم يقولون في تحقير النبوة : كان مسيلمة نبوته نبيئة( {[696]} ) سوء ، وكلهم يقولون تنبأ مسيلمة ، فاتفاقهم على ذلك دليل على أن اللام همزة » ، واختلف القائلون بترك الهمز في نبيء ، فمنهم من اشتق النبي من همز ثم سهل الهمز ، ومنهم من قال : هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر ، فالنبي الطريق الظاهر ، وكان النبي من عند الله طريق الهدى والنجاة ، وقال الشاعر( {[697]} ) : [ البيسط ] .
لما وردنا نبياً واستتبّ بنا . . . مسحنفر كخطوط السيح منسحل( {[698]} )
واستدلوا بأن الأغلب في جمع أنبياء كفعيل في المعتل ، نحو ولي وأولياء وصفي وأصفياء ، وحكى الزهراوي أنه يقول نبوء إذا ظهر فهو نبيء ، والطريق الظاهر نبيء بالهمز ، وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : السلام عليك يا نبيء الله ، وهمز ، فقال له النبي صلى عليه السلام : لست بنبيء الله ، وهمز ، ولكني نبيّ الله ، ولم يهمز .
قال أبو علي : «ضعف سند هذا الحديث ، ومما يقوي ضعفه أنه صلى الله عليه وسلم ، قد أنشده المادح يا خاتم النبآء ولم يؤثر في ذلك إنكار ، والجمع كالواحد » .
وقوله تعالى : { بغير الحق } تعظيم( {[699]} ) للشنعة والذنب الذي أتوه ، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق ، ولكن من حيث قد يتخيل متخيل لذلك وجهاً ، فصرح قوله : { بغير الحق } عن شنعة الذنب ووضوحه ، ولم يجترم( {[700]} ) قط نبي ما يوجب قتله ، وإنما أتاح الله تعالى من أتاح منهم . وسلط عليه ، كرامة لهم ، وزيادة في منازلهم ، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين( {[701]} ) ، قال ابن عباس وغيره : «لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر »( {[702]} ) .
وقوله تعالى : { ذلك } رد على الأول وتاكيد للإشارة إليه( {[703]} ) ، والباء في { بما } باء السبب ، و { يعتدون } معناه : يتجاوزون الحدود ، والاعتداء تجاوز الحد في كل شيء ، وعرفه في الظلم والمعاصي .
{ وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ } .
هي معطوفة على الجمل قبلها بأسلوب واحد ، وإسناد القول إلى ضمير المخاطبين جار على ما تقدم في نظائره وما تضمنته الجمل قبلها هو من تعداد النعم عليهم محضة أو مخلوطة بسوء شكرهم وبترتب النعمة على ذلك الصنيع بالعفو ونحوه كما تقدم ، فالظاهر أن يكون مضمون هذه الجملة نعمة أيضاً .
وللمفسرين حيرة في الإشارة إليها فيؤخذ من كلام الفخر أن قوله تعالى : { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } هو كالإجابة لما طلبوه يعني والإجابة إنعام ولو كان معلقاً على دخول قرية من القرى ، ولا يخفى أنه بعيد جداً لأن إعطاءهم ما سألوه لم يثبت وقوعه . ويؤخذ من كلام المفسرين الذي صدر الفخر بنقله ووجهه عبد الحكيم أن سؤالهم تعويض المن والسلوى بالبقل ونحوه معصية لما فيه من كراهة النعمة التي أنعم الله بها عليهم إذ عبروا عن تناولها بالصبر والصبر هو حمل النفس على الأمر المكروه ويدل لذلك أنه أنكر عليهم بقوله : { أتستبدلون الذي هو أدنى } فيكون محل النعمة هو الصفح عن هذا الذنب والتنازع معهم إلى الإجابة بقوله : { اهبطوا } ولا يخفى أن هذا بعيد إذ ليس في قوله { اهبطوا } إنعام عليهم ولا في سؤالهم ما يدل على أنهم عصوا لأن طلب الانتقال من نعمة لغيرها لغرض معروف لا يعد معصية كما بينه الفخر .
فالذي عندي في تفسير الآية أنها انتقال من تعداد النعم المعقبة بنعم أخرى إلى بيان سوى اختيارهم في شهواتهم والاختيار دليل عقل اللبيب ، وإن كان يختار مباحاً ، مع ما في صيغة طلبهم من الجفاء وقلة الأدب مع الرسول ومع المنعم إذ قالوا : { لن نصبر } فعبروا عن تناول المن والسلوى بالصبر المستلزم الكراهية وأتوا بما دل عليه { لن } في حكاية كلامهم من أنهم لا يتناولون المن والسلوى من الآن فإن { لن } تدل على استغراق النفي لأزمنة فعل { نصبر } من أولها إلى آخرها وهو معنى التأبيد وفي ذلك إلجاء لموسى أن يبادر بالسؤال يظنون أنهم أيأسوه من قبول المن والسلوى بعد ذلك الحين فكان جواب الله لهم في هذه الطلبة أن قطع عنايته بهم وأهملهم ووكلهم إلى نفوسهم ولم يُرهم ما عودهم من إنزال الطعام وتفجير العيون بعد فلق البحر وتظليل الغمام بل قال لهم : { اهبطوا مصراً } فأمرهم بالسعي لأنفسهم وكفى بذلك تأديباً وتوبيخاً .
قال الشيخ ابن عطاء الله رحمه الله : من جهل المريد أن يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه فيقول لو كان في هذا إساءة لعوقبت فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر ولو لم يكن إلا منع المزيد ، وقد يقام مقام البعد من حيث لا يدري ، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد ، والمقصد من هذا أن ينتقل من تعداد النعم إلى بيان تلقيهم لها بالاستخفاف لينتقل من ذلك إلى ذكر انقلاب أحوالهم وأسباب خذلانهم وليس شيء من ذلك بمقتضى كون السؤال معصية فإن العقوبات الدنيوية وحرمان الفضائل ليست من آثار خطاب التكليف ولكنها من أشباه خطاب الوضع ترجع إلى ترتب المسببات على أسبابها وذلك من نواميس نظام العالم وإنما الذي يدل على كون المجزي عليه معصية هو العقاب الأخروي وبهذا زالت الحيرة واندفع كل إشكال وانتظم سلك الكلام .
وقد أشارت الآية إلى قصة ذكرتها التوراة مجملة منتثرة وهي أنهم لما ارتحلوا من برية سينا من « حوريب » ونزلوا في برية « فاران » في آخر الشهر الثاني من السنة الثانية من الخروج سائرين إلى جهات « حبرون » فقالوا : تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجاناً ( أي يصطادونه بأنفسهم ) والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم وقد يبست نفوسنا فلا ترى إلا هذا المن فبكَوا فغضب الله عليهم وسأله موسى العفو فعفا عنهم وأرسل عليهم السلوى فادخروا منها طعام شهر كامل .
والتعبير بلن المفيدة لتأبيد النفي في اللغة العربية لأداء معنى كلامهم المحكي هنا في شدة الضجر وبلوغ الكراهية منهم حدها الذي لا طاقة عنده ، فإن التأبيد يفيد استغراق النفي في جميع أجزاء الأبد أولها وآخرها فلن في نفي الأفعال مثل لا التبرئة{[131]} في نفي النكرات .
ووصفوا الطعام بواحد وإن كان هو شيئين المن والسلوى لأن المراد أنه متكرر كل يوم .
وجملة { يخرج لنا } إلى آخرها هي مضمون ما طلبوا منه أن يدعو به فهي في معنى مقول قول محذوف كأنه قيل قل لربك يخرج لنا ومقتضى الظاهر أن يقال أن يخرج لنا فعدل عن ذلك إلى الإتيان بفعل مجزوم في صورة جواب طلبهم إيماء إلى أنهم واثقون بأنه إن دعا ربه أجابه حتى كأنَّ إخراج ما تنبت الأرض يحصل بمجرد دعاء موسى ربه ، وهذا أسلوب تكرر في القرآن مثل قوله : { قل لعباديَ الذين آمنوا يقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 31 ] . و { قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } [ الإسراء : 53 ] وهوكثير فهو بمنزلة شرط وجزاء كأن قيل إن تدعُ ربك بأن يخرجَ لنا يخرجْ لنا ، وهذا بتنزيل سبب السبب منزلة السبب فجزم الفعل المطلوب في جواب الأمر بطلبه لله للدلالة على تحقق وقوعه لثقتهم بإجابة الله تعالى دعوة موسى ، وفيه تحريض على إيجاد ما علق عليه الجواب كأنه أمر في مكنته فإذا لم يفعل فقد شح عليهم بما فيه نفعهم .
والإخراج : الإبراز من الأرض ، و { من } الأولى تبعيضية والثانية بيانية أو الثانية أيضاً تبعيضية لأنهم لا يطلبون جميع البقل بل بعضه ، وفيه تسهيل على المسؤول ويكون قوله : { من بقلها } حالاً من { ما } أو هو بدل من { ما تنبت } بإعادة حرف الجر ، وعن الحسن : >{[132]} .
وقد اختلف في الفُوم فقيل : هو الثُوم بالمثلثة وإبدال الثاء فاءً شائع في كلام العرب كما قالوا : جدث وجدف وثَلَغ وفَلغ ، وهذا هو الأظهر والموافق لما عد معه ولما في التوراة . وقيل الفوم الحنطة وأنشد الزجاج لأحيحة بن الجلاح :
قد كنتُ أغنى الناس شخصاً واحداً *** وردَ المدينَة من مزارع فـوم
( يريد مزارع الحنطة ) وقيل الفوم الحِمَّص بلغة أهل الشام .
وقوله : { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } هو من كلام موسى وقيل من كلام الله وهو توبيخ شديد لأنه جرده عن المقنعات وعن الزجر ، واقتصر على الاستفهام المقصود منه التعجب فالتوبيخُ . وفي الاستبدال للخير بالأدنى النداء بنهاية حماقتهم وسوء اختيارهم .
وقوله : { أتستبدلون } السين والتاء فيه لتأكيد الحدث وليس للطلب فهو كقوله : { واستغنى الله } [ التغابن : 6 ] وقولهم استجاب بمعنى أجاب ، واستكبر بمعنى تكبر ، ومنه قوله تعالى : { كان شره مستطيراً } في سورة الإنسان ( 7 ) . وفعل استبدل مشتق من البدل بالتحريك مثل شبَه ، ويقال بكسر الباء وسكون الدال مثل شِبْه ويقال بَدِيل مثل شَبيه وقد سمع في مشتقاته استبدل وأبْدَل وبَدَّل وتَبَدَّل وكلها أفعال مزيدة ولم يسمع منه فعل مجرد وكأنهم استغنوا بهذه المزيدة عن المجرد ، وظاهر كلام صاحب في سورة النساء ( 2 ) عند قوله تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } أن استبدل هو أصلها وأكثرها وأن تبدل محمول عليه لقوله والتفعل بمعنى الاستفعال غزير ومنه التعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار .
وجميع أفعال مادة البدل تدل على جعل شيء مكان شيء آخر من الذوات أو الصفات أوعن تعويض شيء بشيء آخر من الذوات أو الصفات .
ولما كان هذا معنى الحدث المصوغ منه الفعل اقتضت هذه الأفعال تعدية إلى متعلقين إما على وجه المفعولية فيهما معاً مثل تعلق فعل الجَعل ، وإما على وجه المفعولية في أحدهما والجر للآخر مثل متعلقي أفعال التعويض كاشترى وهذا هو الاستعمال الكثير ، فإذا تعدى الفعل إلى مفعولين نحو { يوم تبدل الأرض غير الأرض } [ إبراهيم : 48 ] كان المفعول الأول هو المزال والثاني هو الذي يخلُفه نحو قوله تعالى : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسناتٍ } [ الفرقان : 70 ] { يوم تبدل الأرض غير الأرض } وقولهم أبدلت الحَلْقة خاتَما ، وإذ تعدت إلى مفعول واحد وتعدت إلى الآخر بالباء وهو الأكثر فالمنصوب هو المأخوذ والمجرور هو المبذول نحو قوله هنا : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وقوله ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } [ البقرة : 108 ] وقوله في سورة النساء { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } ، وقد يجر المعمول الثاني بِمن التي هي بمعنى باء البدلية كقول أبي الشيص :
بُدِّلْتُ من مُرد الشباب ملاءة *** خَلَقا وبئس مثُوبة المقتاض
وقد يعدل عن تعدية الفعل إلى الشيء المعوض ويعدى إلى آخذ العوض فيصير من باب أعطى فينصب مفعولين وينبه على المتروك بما يدل على ذلك من نحو مِن كذا ، وبعد كذا ، كقوله تعالى : { وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً } [ النور : 55 ] التقدير ليبدلن خوفهم أمناً هذا تحرير طريق استعمال هذه الأفعال .
ووقع في « الكشاف » عند قوله تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } ما يقتضي أن فعل بدل له استعمال غير استعمال فعل استبدل وتبدل بأنه إذا عدي إلى المعمول الثاني بالباء كان مدخول الباء هو المأخوذ وكان المنصوب هو المتروك والمعطى فقرره القطب في « شرحه » بما ظاهره أن بَدَّل لا يكون في معنى تعديته إلا مخالفاً لتبدل واستبدل ، وقرره التفتزاني بأن فيه استعمالين إذا تعدى إلى المعمول الثاني بالباء أحدهما يوافق استعمال تبدل والآخر بعكسه ، والأظهر عندي أن لا فرق بين بدل وتبدل واستبدل وأن كلام « الكشاف » مُشكل وحسبك أنه لا يوجد في كلام أئمة اللغة ولا في كلامه نفسه في كتاب « الأساس » .
فالأمر في قوله : { اهبطوا } للإباحة المشوبة بالتوبيخ أي إن كان هذا همكم فاهبطوا بقرينة قوله : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } فالمعنى اهبطوا مصراً من الأمصار يعني وفيه إعراض عن طلبهم إذ ليس حولهم يومئذ بلد قريب يستطيعون وصوله . وقيل : أراد اهبطوا مصرَ أي بلدَ مصرَ بلدَ القبطِ أي ارجعوا إلى مصر التي خرجتم منها والأمر لمجرد التوبيخ إذ لا يمكنهم الرجوع إلى مصر . واعلم أن مصر على هذا المعنى يجوز منعه من الصرف على تأويله بالبقعة فيكون فيه العلمية والتأنيث ، ويجوز صرفه على تأويله بالمكان أو لأنه مؤنث ثلاثي ساكن الوسط مثل هِنْد فهو في قراءة ابن مسعود بدون تنوين وأنه في مصحف أبيّ بن كعب بدون ألف وأنه ثبت بدون ألف في بعض مصاحف عثمان قاله ابن عطية ، وذكَر أن أشهب قال قال لي مالك : هي عندي مصر قريتُك مسكنُ فرعون اهـ . ويكون قول موسى لهم : { اهبطوا مصراً } أمراً قصد منه التهديد على تذكُّرهم أيام ذلهم وعنائهم وتمنيهم الرجوع لتلك المعيشة ، كأنه يقول لهم ارجعوا إلى ما كنتم فيه إذ لم تقدُروا قدر الفضائل النفسية ونعمة الحرية والاستقلال . وربما كان قوله : { اهبطوا } دون لنهبط مؤذناً بذلك لأنه لا يريد إدخال نفسه في هذا الأمر وهذا يذكر بقول أبي الطيب :
فإن كان أعجبكم عامُكم *** فعودوا إلى حِمْص في القابل
وقوله : { فإن لكم ما سألتم } الظاهر أن الفاء للتعقيب عطفت جملة { إن لكم ما سألتم } على جملة { اهبطوا } للدلالة على حصول سؤلهم بمجرد هبوطهم مصر أو ليست مفيدة للتعليل إذ ليس الأمر بالهبوط بمحتاج إلى التعليل بمثل مضمون هذه الجملة لظهور المقصود من قوله : { اهبطوا مصراً } ولأنه ليس بمقام ترغيب في هذا الهبوط حتى يشجع المأمور بتعليل الأمر والظاهر أن عدم إرادة التعليل هو الداعي إلى ذكر فاء التعقيب لأنه لو أريد التعليل لكانت إن مغنية غناء الفاء على ما صرح به الشيخ عبد القاهر في « دلائل الإعجاز » في الفصل الخامس والفصل الحادي عشر من فصول شتى في النظم إذ يقول : واعلم أن من شأن إن إذا جاءت على هذا الوجه أي الذي في قول بشار :
بكرا صاحبيَّ قبل الهجير *** إن ذاك النجاحَ في التبكير
أن تغني غناء الفاء العاطفة مثلاً وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمراً عجيباً فأنت ترى الكلام بها مستأنفاً غير مستأنف مقطوعاً موصولاً معاً وقال إنك ترى الجملة إذا دخلت إن ترتبط بما قبلها وتأتلف معه حتى كأن الكلامين أفرغا إفراغاً واحداً حتى إذا أسقطت إن رأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول وتجافى معناه عن معناه حتى تجيء بالفاء فتقول مثلاً :
بكرا صاحبيَّ قبل الهجير *** بكرا فالنجاحَ في التبكير
ثم لا ترى الفاء تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة وهذا الضرب كثير في التنزيل جداً من ذلك قوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } [ الحج : 1 ] وقوله : { يا بني أقم الصلاة } إلى قوله : { إن ذلك من عزم الأمور } [ لقمان : 17 ] وقال : { وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم } ( التوبة 103 ) إلخ . فظاهر كلام الشيخ أن وجود إن في الجملة المقصود منها التعليل والربط مغن عن الإتيان بالفاء ، وأن الإتيان بالفاء حينئذ لا يناسب الكلام البليغ إذ هو كالجمع بين العوض والمعوض عنه فإذا وجدنا الفاء مع إن علمنا أن الفاء لمجرد العطف وإن لإرادة التعليل والربط بين الجملتين المتعاطفتين بأكثر من معنى التعقيب . ويستخلص من ذلك أن مواقع التعليل هي التي يكون فيها معناه بين مضمون الجملتين كالأمثلة التي ذكرها .
وجعل أبو حيان في « البحر المحيط » جملة { فإن لكم ما سألتم } جواباً للأمر زعم أن الأمر كما يجاب بالفعل يجاب بالجملة الاسمية ولا يخفى أن كلا المعنيين ضعيف ههنا لعدم قصد الترغيب في هذا الهبوط حتى يعلل أو يعلق ، وإنما هو كلام غضب كما تقدم . واقتران الجملة بإن المؤكدة لتنزيلهم منزلة من يشك لبعد عهدهم بما سألوه حتى يشكون هل يجدونه من شدة شوقهم ، والمحب بسوء الظن مُغرى .
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } .
عطف على الجمل المتقدمة بالواو وبدون إعادة إذ ، فأما عطفه فلأن هاته الجملة لها مزيد الارتباط بالجمل قبلها إذ كانت في معنى النتيجة والأثر لمدلول الجمل قبلها من قوله : { وإذ نجيناكم من آل فرعون } [ البقرة : 49 ] فإن مضمون تلك الجمل ذكر ما منَّ الله تعالى به عليهم من نعمة تحريرهم من استعباد القبط إياهم وسوقهم إلى الأرض التي وعدهم فتضمن ذلك نعمتي التحرير والتمكين في الأرض وهو جعل الشجاعة طوع يدهم لو فعلوا فلم يقدروا قدر ذلك وتمنوا العود إلى المعيشة في مصر إذ قالوا { لن نصبر على طعام واحد } كما فصلناه لكم هنالك مما حكته التوراة وتقاعسوا عن دخول القرية وجبنوا عن لقاء العدو كما أشارت له الآية الماضية وفصلته آية المائدة فلا جرم إذ لم يشكروا النعمة ولم يقدروها أن تنتزع منهم ويسلبوها ويعوضوا عنها بضدها وهو الذلة المقابلة للشجاعة إذ لم يثقوا بنصر الله إياهم والمسكنة وهي العبودية فتكون الآية مسوقة مساق المجازاة للكلام السابق فهذا وجه العطف .
وأما كونه بالواو دون الفاء فليكون خبراً مقصوداً بذاته وليس متفرعاً على قول موسى لهم : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } لأنهم لم يشكروا النعمة فإن شكر النعمة هو إظهار آثارها المقصودة منها كإظهار النصر للحق بنعمة الشجاعة وإغاثة الملهوفين بنعمة الكرم وتثقيف الأذهان بنعمة العلم فكل من لم يشكر النعمة فهو جدير بأن تسلب عنه ويعوض بضدها قال تعالى : { فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل } [ سبأ : 16 ] الآية ، ولو عطف بغير الواو لكان ذكره تبعاً لذكر سببه فلم يكن له من الاستقلال ما ينبه البال .
فالضمير في قوله : { وضربت عليهم . . . وباءوا } إلخ عائدة إلى جميع بني إسرائيل لا إلى خصوص الذين أبوا دخول القرية والذين قالوا : { لن نصبر على طعام واحد } بدليل قوله { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير الحق } فإن الذين قتلوا النبيئين هم أبناء الذين أبوا دخول القرية وقالوا : { لن نصبر } فالإتيان بضمير الغيبة هنا جار على مقتضى الظاهر لأنهم غير المخاطبين فليس هو من الالتفات إذ ليس قوله : { وضربت عليهم الذلة } إلخ من بقية جواب موسى إياهم لما علمت من شموله للمتحدث عنهم الآبين دخول القرية ولغيرهم ممن أتى بعدهم فقد جاء ضمير الغيبة على أصله ، أما شموله للمخاطبين فإنما هو بطريقة التعريض وهو لزوم توارث الأبناء أخلاق الآباء وشمائلهم كما قررناه في وجه الخطابات الماضية من قوله : { وإذ فرقنا بكم البحر } [ البقرة : 50 ] الآيات ويؤيده التعليل الآتي بقوله : { ذلك بأنهم كانوا يكفرون } المشعر بأن كل من اتصف بذلك فهو جدير بأن يثبت له من الحكم مثل ما ثبت للآخر .
والضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة ، يقال ضرب بعصا وبيده وبالسيف وضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق . فمنه ضرب في الأرض : سار طويلاً ، وضرب قبة وبيتاً في موضع كذا بمعنى شدها ووثقها من الأرض . قال عبدة بن الطبيب :
* إن التي ضربتْ بيتاً مُهاجرة *
* في قبة ضربت على ابن الحشرج *
وضربَ الطين على الحائط ألصقه ، وقد تقدم ما لجميع هذه المعاني عند قوله تعالى : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها } [ البقرة : 26 ] .
فقوله : { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } استعارة مكنية إذ شبهت الذلة والمسكنة في الإحاطة بهم واللزوم بالبيت أو القبة يضربها الساكن ليلزمها وذكر الضرب تخييل لأنه ليس له شبيه في علائق المشبه . ويجوز أن يكون ضربت استعارة تبعية وليس ثمة مكنية بأن شبه لزوم الذلة لهم ولصوقها بلصوق الطين بالحائط ، ومعنى التبعية أن المنظور إليه في التشبيه هو الحدث والوصف لا الذات بمعنى أن جريان الاستعارة في الفعل ليس بعنوان كونه تابعاً لفاعل كما في التخييلية بل بعنوان كونه حدثاً وهو معنى قولهم أجريت في الفعل تبعاً لجريانها في المصدر وبه يظهر الفرق بين جعل ضربت تخييلاً وجعله تبعية وهي طريقة في الآية سلكها الطيبي في { شرح الكشاف } وخالفه التفتزاني وجعل الضرب استعارة تبعية بمعنى الإحاطة والشمول سواء كان المشبه به القبة أو الطين ، وهما احتمالان مقصودان في هذا المقام يشعر بهما البلغاء .
ثم إن قوله تعالى : { وضربت عليهم الذلة } ليس هو من باب قول زياد الأعجم :
إن السماحة والمروءة والندى *** في قبة ضربت على ابن الحشرج{[133]}
لأن القبة في الآية مشبه بها وليست بموجودة والقبة في البيت يمكن أن تكون حقيقة فالآية استعارة وتصريح والبيت حقيقة وكناية كما نبه عليه الطيبي وجعل التفتزاني الآية على الاحتمالين في الاستعارة كناية عن كون اليهود أذلاء متصاغرين وهي نكت لا تتزاحم .
والذلة الصغار وهي بكسر الذال لا غير وهي ضد العزة ولذلك قابل بينهما السموأل أو الحارثي في قوله :
وما ضَرَّنا أنا قَليل وجارُنا *** عَزِيز وجارُ الأكثرين ذَليل
والمسكنة الفقر مشتقة من السكون لأن الفقر يقلل حركة صاحبه . وتطلق على الضعف ومنه المسكين للفقير . ومعنى لزوم الذلة والمسكنة لليهود أنهم فقدوا البأس والشجاعة وبدا عليهم سيما الفقر والحاجة مع وفرة ما أنعم الله عليهم فإنهم لما سئموها صارت لديهم كالعدم ولذلك صار الحرص لهم سجية باقية في أعقابهم .
والبوء الرجوع وهو هنا مستعار لانقلاب الحالة مما يرضي الله إلى غضبه .
{ ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
استئناف بياني أثاره ما شنع به حالهم من لزوم الذلة والمسكنة لهم والإشارة إلى ما تقدم من قوله : { وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب } . وأفرد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور وهو أولى بجواز الإفراد من إفراد الضمير في قول رؤبة :
فِيها خطوط من سَواد وَبَلقْ *** كأنَّه في الجِلْدِ توليع البَهَق
قال أبو عبيدة لرؤبة : إن أردت الخطوط فقل كأنها وإن أردت السواد والبياض فقل كأنهما فقال رؤبة : « أردت كأن ذلك ويلك » وإنما كان ما في الآية أولى بالإفراد لأن الذلة والمسكنة والغضب مما لا يشاهد فلا يشار إلى ذاتها ولكن يشار إلى مضمون الكلام وهو شيء واحد أي مذكور ومقول ومن هذا قوله تعالى :
{ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } [ آل عمران : 58 ] أي ذلك القصص السابق . ومنه قوله تعالى : { عوان بين ذلك } [ البقرة : 68 ] وسيأتي .
وقال صاحب « الكشاف »{[134]} « والذي حسن ذلك أن أسماء الإشارة ليست تثنيتها وجمعها وتأنيثها على الحقيقة وكذلك الموصولات ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع » اهـ قيل أراد به أن جمع أسماء الإشارة وتثنيتها لم يكن بزيادة علامات بل كان بألفاظ خاصة بتلك الأحوال فلذلك كان استعمال بعضها في معنى بعض أسهل إذا كان على تأويل ، وهو قليل الجدوى لأن المدار على التأويل والمجاز سواء كان في استعمال لفظ في معنى آخر أو في استعمال صيغة في معنى أخرى فلا حسن يخص هذه الألفاظ فيما يظهر فلعله أراد أن ذا موضوع لجنس ما يشار إليه . والذي موضوع لجنس ما عرف بصلة فهو صالح للإطلاق على الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث وإن ما يقع من أسماء الإشارة والموصولات للمثنى نحو ذان وللجمع نحو أولئك ، إنما هو اسم بمعنى المثنى والمجموع لا أنه تثنية مفرد ، وجمع مفرد ، فذا يشار به للمثنى والمجموع ولا عكس فلذلك حسن استعمال المفرد منها للدلالة على المتعدد .
والباء في قوله : { بأنهم كانوا يكفرون } سببية أي إن كفرهم وما معه كان سبباً لعقابهم في الدنيا بالذلة والمسكنة وفي الآخرة بغضب الله وفيه تحذير من الوقوع في مثل ما وقعوا فيه .
وقوله : { ويقتلون النبيئين بغير الحق } خاص بأجيال اليهود الذين اجترموا هذه الجريمة العظيمة سواء في ذلك من باشر القتل وأمر به ومن سكت عنه ولم ينصر الأنبياء . وقد قتل اليهود من الأنبياء أشعياء بن أموص الذي كان حياً في منتصف القرن الثامن قبل المسيح ، قتله الملك منسى ملك اليهود سنة 700 قبل المسيح نشر نشراً على جذع شجرة . وأرمياء النبيء الذي كان حياً في أواسط القرن السابع قبل المسيح وذلك لأنه أكثر التوبيخات والنصائح لليهود فرجموه بالحجارة حتى قتلوه وفي ذلك خلاف . وزكرياء الأخير أبا يحيى قتله هيرودس العبراني ملك اليهود من قبل الرومان لأن زكرياء حاول تخليص ابنه يحيى من القتل وذلك في مدة نبوءة عيسى ، ويحيى بن زكرياء قتله هيرودس لغضب ابنة أخت هيرودس على يحيى .
وقوله : { بغير الحق } أي بدون وجه معتبر في شريعتهم فإن فيها : { أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } [ المائدة : 32 ] فهذا القيد من الاحتجاج على اليهود بأصول دينهم لتخليد مذمتهم ، وإلا فإن قتل الأنبياء لا يكون بحق في حال من الأحوال ، وإنما قال ( الأنبياء ) لأن الرسل لا تسلط عليهم أعداؤهم لأنه مناف لحكمة الرسالة التي هي التبليغ قال تعالى :
{ إنا لننصر رسلنا } [ غافر : 51 ] وقال : { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] ومن ثم كان ادعاء النصارى أن عيسى قتله اليهود ادعاء منافياً لحكمة الإرسال ولكن الله أنهى مدة رسالته بحصول المقصد مما أرسل إليه .
وقوله : { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } يحتمل أن تكون الإشارة فيه إلى نفس المشار إليه بذلك الأولى فيكون تكريراً للإشارة لزيادة تمييز المشار إليه حرصاً على معرفته ، ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة ولغضب الله تعالى عليهم ، والآية حينئذ من قبيل التكرير وهو مغن عن العطف مثل قوله تعالى : { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } [ الأعراف : 179 ] .
ويجوز أن يكون المشار إليه بذلك الثاني هو الكفر بآيات الله وقتلهم النبيئين فيكون { ذلك } إشارة إلى سبب ضرب الذلة إلخ فما بعد كلمة { ذلك } هو سبب السبب تنبيهاً على أن إدمان العاصي يفضي إلى التغلغل فيها والتنقل من أصغرها إلى أكبرها .
والباء على الوجهين سببية على أصل معناها . ولا حاجة إلى جعل إحدى الباءين بمعنى مع على تقدير جعل اسم الإشارة الثاني تكريراً للأول أخذاً من كلام « الكشاف » الذي احتفل به الطيبي فأطال في تقريره وتفنين توجيهه فإن فيه من التكلف ما ينبو عنه نظم القرآن . وكان الذي دعا إلى فرض هذا الوجه هو خلو الكلام عن عاطف يعطف { بما عصوا } على { بأنهم كانوا يكفرون } إذا كانت الإشارة لمجرد التكرير . ولقد نبهناك آنفاً إلى دفع هذا بأن التكرير يغني غناء العطف .