55- وربك أعلم بكل من في السماوات والأرض وبأحوالهم فيختار منهم لنبوته من يشاء ، وقد اختارك لرسالته فلا يصح أن يستكثروا عليك النبوة ، وهؤلاء الأنبياء ليسوا سواء في الفضل عنده - جل شأنه - بل بعضهم أفضل من بعض ، ولقد فضل بعض النبيين على بعض بالمعجزات وكثرة التابعين ، لا بالملك ، فَفَضَّل داود أنه أوتى الزبور ، لا لأنه أوتى الملك . فلا عجب أن تنال الفضل العظيم بما أوتيت من القرآن .
ثم انتقل - سبحانه - من بيان كمال علمه بأحوال الناس ، إلى بيان كمال علمه بجميع من فى السموات والأرض ، فقال - تعالى - : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض } .
أى : وربك - أيها الرسول الكريم - أعلم بأحوال من فى السموات والأرض من إنس وجن وملك ، وغير ذلك ، ولا يخفى عليه شئ من ظواهرهم أو بواطنهم ، ولا يعزب عن علمه - تعالى - شئ من طاعتهم أو معصيتهم ، ولا يعلم أحد سواه من هو أهل منهم للتشرف بحمل رسالته ، وتبليغ وحيه كما قال : - تعالى - : { الله الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } بيان لمظهر من مظاهر علمه المطلق ، وفضله العميم : وعطائه الواسع .
والزبور : هو الكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على داود - عليه السلام .
أى : ولقد فضلنا - على علم وحكمة منا - بعض النبيين على بعض ، بأن جعلنا منهم من كلم الله ، ومنهم من اتخذناه خليلا لنا ، ومنهم من آتيناه البينات وأيدناه بروح القدس ، ومنهم من آتيناه الزبور وهو داود - عليه السلام - .
قال الإِمام ابن كثير : وقوله - تعالى - : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } وقوله - تعالى - : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ . . . } لا ينافى ما ثبت من الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تفضلوا بين الأنبياء " فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهى والعصبية ، لا بمقتضى الدليل ، فإذا دل الدليل على شئ وجب اتباعه ، ولا خلاف أن الرسل أفضل عن بقية الأنبياء ، وأن أولى العزم منهم أفضلهم ، وهم الخمسة المذكورون نصا فى قوله - تعالى - :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ . . }
ولا خلاف فى أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضلهم . . .
وإنما خص كتاب داود بالذكر ، لأن اليهود زعموا أنه لا نبى بعد موسى ، ولا كتاب بعد التوراة ، فكذبهم الله - تعالى - فى ذلك ، ولأن فى هذا الإِيتاء إشارة إلى أن تفضيل داود لم يكن بسبب ما أعطاه الله من ملك ، بل بسبب ما أعطاه من كتاب فيه إشارة إلى تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته ، قال - تعالى - :
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }
والمراد بالعباد الصالحين : محمد صلى الله عليه وسلم وأمته .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا عرف الزبور ، كما عرف فى قوله :
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ . . . }
قلت : يجوز أن يكون الزبور وزبور ، كالعباس وعباس ، والفضل وفضل . ويجوز أن يريد : وآتينا داود بعض الزبر - وهى الكتب ، وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزبور ، فسمى ذلك زبورا ، لأنه بعضها كما سمى بعض القرآن قرآنا .
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتحدى المشركين ، بأن يبين لهم : أن آلهتهم المزعومة لا تملك دفع الضر عنهم ، أو جلب الخير لهم ، بل إن هذه الآلهة لتخاف عذاب الله ، وترجو رحمته ، فقال - سبحانه - : { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَبّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضّلْنَا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلَىَ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : وربك يا محمد أعلم بمن في السموات والأرض وما يصلحهم فإنه هو خالقهم ورازقهم ومدبرهم ، وهو أعلم بمن هو أهل للتوبة والرحمة ، ومن هو أهل للعذاب ، أهدى للحقّ من سبق له مني الرحمة والسعادة ، وأُضلّ من سبق له مني الشقاء والخذلان ، يقول : فلا يكبرنّ ذلك عليك ، فإن ذلك من فعلي بهم لتفضيلي بعض النبيين على بعض ، بإرسال بعضهم إلى بعض الخلق ، وبعضهم إلى الجميع ، ورفعي بعضهم على بعض درجات . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَرَبّكَ أعْلَمُ بِمَنْ في السّمَوَاتِ والأرْضِ وَلَقَدْ فَضّلْنا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلى بَعْضٍ اتخذ الله إبراهيم خليلاً ، وكلّم موسى تكليما ، وجعل الله عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له كن فيكون ، وهو عبد الله ورسوله ، من كلمة الله وروحه ، وآتى سليمان مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وآتى داود زبورا ، كنا نحدّث دعاء عُلّمه داود ، تحميد وتمجيد ، ليس فيه حلال ولا حرام ، ولا فرائض ولا حدود ، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وَلَقَدْ فَضّلْنا بَعْض النّبِيّينَ عَلى بَعْضٍ قال : كلم الله موسى ، وأرسل محمدا إلى الناس كافّة .
ثم قال تبارك وتعالى لنبيه عليه السلام { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } وهو الذي فضل بعض الأنبياء على بعض بحسب علمه فيهم ، فهذه إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى استبعاد قريش أن يكون الرسول بشراً ، المعنى : لا تنكروا أمر محمد عليه السلام ، وإن أوتي قرآناً ، فقد فضل النبيون ، وأوتي داود زبوراً ، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته ، وتفضيل بعض الرسل ، هو إما بهذا الإخبار المجمل دون أن يسمى المفضول وعلى هذا يتجه لنا أن نقول محمد أفضل البشر ، وقد نهى عليه السلام عن تعيين أحد منهم في قصة موسى ويونس ، وإما أن يكون التفضيل مقسماً فيهم : أعطي هذا التكليم ، وأعطيت هذه الخلفة ، ومحمد الخمس ، وعيسى الإحياء ، فكلهم مفضول على وجه فاضل على الإطلاق ، وقوله { بمن في السماوات } ، الباء متعلقة بفعل تقديره ، علم من في السماوات ذهب إلى هذا أبو علي لأنه لو علقها ب { أعلم } لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يلزم ويصح تعلقها ب { أعلم } ولا يلتفت لدليل الخطاب{[7603]} وقرأ الجمهور : «زَبوراً » بفتح الزاي ، وهو فَعول بمعنى مفعول ، وهو قليل لم يجىء إلا في قدوع وركوب وحلوب ، وقرأ حمزة ويحيى والأعمش «زُبوراً » بضم الزاي ، وله وجهان : أحدهما أن يكون جمع زبور بحذف الزائد{[7604]} ، كما قالوا في جمع ظريف ، ظروف ، والآخر ، أن يكون جمع زبور كأن ما جاء به داود ، جزىء أجزاء كل جزء منها زبر{[7605]} ، سمي بمصدر زبر يزبر ، ثم جمع تلك الأجزاء على زبور ، فكأنه قال : آتينا داود كتباً ، ويحتمل أن يكون جمع زبر الذي هو العقل وسداد النظر{[7606]} ، لأن داود أوتي من المواعظ والوصايا كثيراً ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ، في آخر كتاب مسلم : «وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له »{[7607]} ، قال قتادة زبور داود مواعظ وحكم ودعاء ليس فيه حلال ولا حرام .