وقوله - تعالى - : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } معطفو على ما قبله وداخل فى حيز القسم . وضمير الغائب يعود إلى الإِنسان .
وحقيقة الرد : إرجاع الشيء إلى مكانه السابق ، والمراد به هنا : تصيير الإِنسان على حالة غير الحالة التى كان عليها ، وأسفل : أفعل تفضيل ، أي : أشد سفالة مما كان يتوقع .
وللمفسرين فى هذه الآية الكريمة اتجاهات منها : أن المراد بالرد هنا : الرد على الكبر والضعف ، كما قال - تعالى - : { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ العليم القدير } وعلى هذا الرأى يكون المردودين إلى أسفل سافلين ، أى : إلى أرذل العمر ، هم بعض أفراد جنس الإِنسان ، لأنه من المشاهد أن بعض الناس هم الذين يعيشون تلك الفترة الطويلة من العمر ، كما قال - تعالى - : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وقد رجح ابن جرير هذا الرأى فقال : " وأولى الأقوال فى ذلك عندي بالصحة ، وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال معناه : ثم رددناه إلى أرذل العمر ، إلى عمر الخرفى الذين ذهبت عقولهم من الهرم والكبر ، فهو فى أسفل من سفل فى إدبار العمر ، وذهاب العقل . . " .
ومنها : أن المراد بالرد هنا : الرد إلى النار ، والمعنى : لقد خلقنا الإِنسان فى أحسن تقويم ، ثم رددناه إلى أقبح صورة ، وأخس هيئة . . حيث ألقينا به في أسفل سافلين ، أي : فى النار ، بسبب استحبابه العمى على الهدى ، والكفر على الإِيمان .
وقد رجح هذا الرأي ابن كثير فقال : قوله : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } أي : إلى النار . . أي : ثم بعد هذا الحسن والنضارة ، مصيره إلى النار ، إن لم يطع الله - تعالى - ويتبع الرسل .
وقوله : ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ثم رددناه إلى أرذل العمر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : إلى أرذل العمر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عمرو ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : إلى أرذل العمر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) يقول : يردّ إلى أرذل العمر ، كبر حتى ذهب عقله ، وهم نفر رُدّوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم ، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، قال : سُئل عكرِمة عن قوله : ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : ردّوا إلى أرذل العمر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، في قوله : ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : إلى أرذل العمر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : رددناه إلى الهَرَم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : الهَرَم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت الحكم يحدّث ، عن عكرِمة ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : الشيخ الهَرِم ، لم يضرّه كبرُه إن ختم الله له بأحسن ما كان يعمل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ثم رددناه إلى النار في أقبح صورة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : في شر صورة ، في صورة خنزير .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : النار .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : إلى النار .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : في النار .
قال : ثنا مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : إلى النار .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : ( قال ) الحسن : جهنم مأواه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال الحسن في قوله( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : في النار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله( ثُمّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ ) قال : إلى النار .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة ، وأشبهها بتأويل الآية ، قول من قال : معناه : ثم رددناه إلى أرذل العمر ، إلى عمر الخَرْفَى الذين ذهبت عقولهم من الهَرَم والكِبر ، فهو في أسفل من سفل : في إدبار العمر وذهاب العقل .
وإنما قلنا : هذا القول أولى بالصواب في ذلك ؛ لأن الله تعالى ذكره أخبر عن خلقه ابن آدم ، وتصريفه في الأحوال ، احتجاجا بذلك على مُنكري قُدرته على البعث بعد الموت . ألا ترى أنه يقول : ( فَمَا يُكَدّبُكَ بَعْدُ بالدّينِ ) يعني : بعد هذه الحُجَج . ومحال أن يحتجّ على قوم كانوا مُنكرين معنى من المعاني ، بما كانوا له مُنكرين . وإنما الحجة على كلّ قوم بما لا يقدرون على دفعه ، مما يعاينونه ويحسّونه ، أو يقرّون به ، وإن لم يكونوا له مُحِسّين .
وإذْ كان ذلك كذلك ، وكان القوم للنار التي كان الله يتوعدهم بها في الآخرة مُنكرين ، وكانوا لأهل الهَرَم والخَرَف من بعد الشباب والجَلَد شاهدين ، عُلِم أنه إنما احتجّ عليهم بما كانوا له مُعاينين ، من تصريفه خلقه ، ونقله إياهم من حال التقويم الحسن والشباب والجلد ، إلى الهَرَم والضعف وفناء العمر ، وحدوث الخَرَف .
واختلف الناس في معنى قوله تعالى : { ثم رددناه أسفل سافلين } ، فقال عكرمة وقتادة والضحاك والنخعي : معناه بالهرم وذهول العقل وتفلت الفكر حتى يصير لا يعلم شيئاً ، إلا أن المؤمن مرفوع عنه القلم ، والاستثناء على هذا منقطع ، وهذا قول حسن ، وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا بل في الجنس من يعتريه ذلك وهذه عبرة منصوبة ، وقرأ ابن مسعود : «السافلين » بالألف واللام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.