في هذه السورة دعوة إلى القراءة والتعلم ، وأن من قدر على خلق الإنسان من أصل ضعيف قادر على أن يعلمه الكتبة ، يضبط بها العلوم ويتم بها التفاهم ، ويعلمه ما لم يعلم فهو سبحانه مفيض العلم على الإنسان ، وتنبه السورة إلى أن الثراء والقوة قد يدفعان النفوس إلى مجاوزة حدود الله ، ولكن مصير الكل إلى الله في النهاية ، وتوجه الحديث لكل من يصلح للخطاب منذرة الطغاة الصادين عن الخير . مهددة لهم بأخذهم بالنواصي إلى النار ، فلا تنفعهم الأنصار ، وتختم السورة بدعوة الممتثلين إلى مخالفة المعاندين المكذبين والتقرب بالطاعة إلى رب العالمين .
1- اقرأ - يا محمد - ما يوحى إليك مفتتحاً باسم ربك الذي له - وحده - القدرة على الخلق .
1- هذه السورة الكريمة تسمى سورة " العلق " ، وتسمى سورة " اقرأ " وعدد آياتها تسع عشرة آية في المصحف الكوفي ، وفي الشامي ثماني عشرة آية ، وفي الحجازي عشرون آية .
وصدر هذه السورة الكريمة يعتبر أول ما نزل من قرآن على النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن أغراضها : التنويه بشأن القراءة والكتابة ، والعلم والتعلم ، والتهديد لكل من يقف في وجه دعوة الإسلام التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه –عز وجل- وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله –تعالى- مطلع على ما يبيته له أعداؤه من مكر وحقد ، وأنه –سبحانه- قامعهم وناصره عليهم ، وأمره صلى الله عليه وسلم بأن يمضي في طريقه ، دون أن يلتفت إلى مكرهم أو سفاهاتهم .
وقد أجمع المحققون من العلماء على أن هذه الآيات الكريمة أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من قرآن على الإطلاق ، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم . فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث - أى : فيتعبد - فيه الليالى ذوات العدد ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لذلك ، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء . فجاءه الملك فقال له : { اقرأ } قال : ما أنا بقارئ ، قال صلى الله عليه وسلم فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : { اقرأ } فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : { اقرأ } فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ . خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ . . } .
وما ورد من أحاديث تفيد أن أول سورة نزلت هى " سورة الفاتحة " فمحمول على أن أول سورة نزلت كاملة هى سورة الفاتحة .
كذلك ما ورد من أحاديث فى أن أول ما نزل سورة المدثر ، محمول على أن أول ما نزل بعد فترة الوحي . أما صدر سورة العلق فكان نزوله قبل ذلك .
قال الآلوسي - بعد أن ساق الأحاديث التى وردت فى ذلك - : " وبالجملة فالصحيح - كما قال بعض وهو الذى أختاره - أن صدر هذه السورة الكريمة هو أول ما نزل من القرآن على الإِطلاق . وفى شرح مسلم : الصواب أن أول ما نزل " اقرأ " أى : مطلقاً ، وأول ما نزل بعد فترة الوحى " يأيها المدثر " ، وأما قول من قال من المفسرين : أول ما نزل الفاتحة ، فبطلانه أظهر من أن يذكر " .
والذى نرجحه ونميل إليه أن أول قرآن على الإطلاق هو صدر هذه السورة الكريمة إلى قوله { مَا لَمْ يَعْلَمْ } ، لورود الأحاديث الصحيحة بذلك . أما بقيتها فكان نزوله متأخراً .
قال الأستاذ الإِمام : " أما بقية السورة فهو متأخر النزول قطعاً ، وما فيه من ذكر أحوال المكذبين يدل على أنه إنما نزل بعد شيوع خبر البعثة ، وظهور أمر النبوة ، وتحرش قريش لإيذائه صلى الله عليه وسلم " .
وقد افتتحت السورة الكريمة بطلب القراءة من النبى صلى الله عليه وسلم مع أنه كان أميا لتهيئة ذهنه لما سيلقى عليه صلى الله عليه وسلم من وحى . . فقال - سبحانه - : { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ } . أى : اقرأ - أيها الرسول الكريم - ما سنوحيه إليك من القرآن الكريم- ولتكن قراءتك ملتبسة باسم ربك ، وبقدرته وإرادته ، لا باسم غيره ، فهو - سبحانه - الذى خلق الأشياء جميعها ، والذى لا يعجزه أن يجعلك قارئاً ، بعد كونك لم تكن كذلك .
وقال - سبحانه - ذاته بقوله : { الذي خَلَقَ } للتذكير بهذه النعمة ، لأن الخلق هو أعظم النعم ، وعليه تترتب جميعها .
القول في تأويل قوله تعالى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ * الّذِى عَلّمَ بِالْقَلَمِ * عَلّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ * أَن رّآهُ اسْتَغْنَىَ * إِنّ إِلَىَ رَبّكَ الرّجْعَىَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : اقْرأْ باسِمِ رَبّكَ محمدا صلى الله عليه وسلم يقول : اقرأ يا محمد بذكر ربك الّذِي خَلَقَ ، ثم بين الذي خلق فقال : خَلَقَ الإنْسانَ مِنْ عَلَقٍ يعني : من الدم ، وقال : من علق والمراد به من علقة ، لأنه ذهب إلى الجمع ، كما يقال : شجرة وشجر ، وقصَبة وقَصَب ، وكذلك علقة وعَلَق . وإنما قال : من علق والإنسان في لفظ واحد ، لأنه في معنى جمع ، وإن كان في لفظ واحد ، فلذلك قيل : من عَلَق .
تفسير سورة القلم{[1]}
بسم الله الرحمن الرحيم سورة العلق وهي مكية بإجماع ، وهي أول ما نزل من كتاب الله تعالى ، نزل صدرها في غار حراء حسب ما ثبت في صحيح البخاري وغيره ، وروي من طريق جابر بن عبد الله أن أول ما نزل { يا أيها المدثر }{[2]} وقال أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل{[3]} : إن أول ما نزل فاتحة الكتاب . والقول الأول أصح ، والترتيب في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك
في صحيح البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها ، قال : أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه التحنث{[11900]} في غار حراء ، فكان يخلو فيه فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ثم ينصرف حتى جاءه الملك وهو في غار حراء ، فقال له : { اقرأ } ، فقال : ما أنا بقارىء ، قال : فأخذني فغطني{[11901]} ثم كذلك ثلاث مرات ، فقال له في الثالثة : { اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق } إلى قوله { ما لم يعلم } ، قال : فرجع بها رسول ترجف بوادره{[11902]} الحديث بطوله ، ومعنى هذه الآية : { اقرأ } هذا القرآن { باسم ربك } ، أي ابدأ فعلك بذكر اسم ربك ، كما قال : { اركبوا فيها بسم الله }{[11903]} [ هود : 41 ] هذا وجه . ووجه آخر في كتاب الثعلبي أن المعنى : { اقرأ } في أول كل سورة ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم ، ووجه آخر أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو { باسم ربك الذي خلق } ، كأنه قال له : { اقرأ } هذا اللفظ ، ولما ذكر الرب وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أرباباً جاءه بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها ، وهي قوله تعالى : { الذي خلق } .