100- قل - يا أيها النبي - للناس : لا يتساوى ما أباحه الله لكم من الطيبات ، وما حرَّمه عليكم من الخبائث ، فإن الفرق بينهما كبير عند الله ، ولو كثر الخبيث وأعجب كثيراً من الناس . فاجعلوا - يا أصحاب العقول - طاعة الله وقاية لكم من عذابه باختيار الطيبات واجتناب الخبائث ، لتكونوا من الفائزين في الدنيا والآخرة .
ثم صرح - سبحانه - بعد ذلك بأنه لا يستوي عنده الخبيث والطيب فقال : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } .
والخبيث - كما يقول الراغب - ما يكره رداءه وخساسة محسوسا كان أم معقولا ، وأصله الردئ الدخلة الجاري مجري خبث الحديد كما قال الشاعر :
سبكناه ونحسبه لجينا . . . فأبدى الكير على خبث الحديد
وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد ، والكذب في المقال ، والقبيح في الفعال .
والطيب : الشيء الحسن الذي أباحته الشريعة ورضيته العقول السليمة ، ويتناول الاعتقاد الحق ، والمقال الصدق ، والعمل الصالح .
والمعنى : قل - يا محمد - للناس : إنه لا يستوي عند الله ولا عند العقلاه القبيح والحسن من كل شيء ، لأن الشيء القبيح - في ذاته أو في سببه أو في غير ذلك من أشكاله - بغيض إلى الله وإلى كل عاقل ، وسكون مصيره إلى الهلاك والبوار .
أما الشيء الطيب الحسن فهو محبوب من الله ومن كل عاقل ، ومحمود العاقبة دنيا ودينا .
وقوله : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } زيادة في التنفير من الشيء الخبيث ، وحض على التمسك بما هو طيب .
أي : لا يستوي في ميزان الله ولا في ميزان العقلاء الخبيث والطيب ، حتى ولو كان الفريق الخبيث كثير المظهر ، براق الشكل ، تعجب الناظرين هيئته فلا تغتر به أيها العاقل ، ولا تؤثر في نفسك كثرته وسطوته فإنه مهما كثر وظهر وفشا . فإنه سيء العاقبة ، سريع الزوال ، لذته تعقبها الحسرة ، وشهوته تتلوها الندامة ، وسطوته تصحبها الخسارة والكراهية ، وطريقة المليئة بالدنس والقذر يجب أن يوصد أبوابها الأخيار الشرفاء .
أما الفريق الطيب أو الشيء الطيب فهو محمود العاقبة ، لذته الحلال يباركها الله ، وثماره الحسنة تؤيدها شريعته وتستريح لها العقول السليمة ، والقلوب النقية من كل دنس وباطل وطريقه المستقيم - مهما قل - سالكوه - هو الطريق الذي يوصل إلى كل خير وفلاح .
ولا شك أن العقل عندما يتخلص من الهوى سيختار الطيب على الخبيث لأن في الطيب سعادة الدنيا والآخرة .
وما أحسن قول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها : " ما تمتع الأشرار بشيء إلا وتمتع به الأخيار ، وزادوا عليهم رضا الله - عز وجل - " .
والفاء في قوله : { فاتقوا الله ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } للإفصاح عن كلام مقدر ، والتقدير :
إذا كان الأمر كما بينت لكم - أيها الناس - من أنه لا يستوي الخبيث والطيب . لأن أهل الخبيث سيعاقبون ويندمون مهما كثروا وأهل الطيب سيثابون ويفرحون ، إذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله يا أصحابا العقول السليمة بأن تجتنبوا كل ما هو خبيث ، وتقبلوا على كل ما هو طيب ، لعلكم بسبب هذه التقوى والخشية من الله تنولون الفلاح والنجاح في دنياكم وآخرتكم .
والجملة الكريمة تذييل قصد به تأكيد ما مر من الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي قال الفخر الرازي : لما ذكر - سبحانه - هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة ، والتحذيرات من المعصية . أتبعها بوجه آخر يؤكدها فقالك { فاتقوا الله ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } : أي : فاتقوا الله بعد هذه البيانات الجليلة والتعريفات القوية ، ولا تقدموا على مخالفته لعلكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لاّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتّقُواْ اللّهَ يَأُوْلِي الألْبَابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لا يعتدل الرديء والجيد ، والصالح والطالح ، والمطيع والعاصي . " وَلَوْ أعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ " يقول : لا يعتدل العاصي والمطيع لله عند الله ولو كثر أهل المعاصي فعجبت من كثرتهم ، لأن أهل طاعة الله هم المفلحون الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلوا دون أهل معصيته ، وإنّ أهل معاصيه هم الأخسرون الخائبون وإن كثروا . يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : فلا تعجبنّ من كثرة من يعصى الله فيمهله ولا يعاجله بالعقوبة فإن العقبى الصالحة لأهل طاعة الله عنده دونهم . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " لا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطّيّبُ وَلَوْ أعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ " قال : الخبيث : هم المشركون والطيّب : هم المؤمنون .
وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرج الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالمراد به بعض أتباعه ، يدلّ على ذلك قوله : " فاتّقُوا اللّهَ يا أُولي الألْبابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ " .
القول في تأويل قوله تعالى : " فاتّقُوا اللّهَ يا أُولي الألْبابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ " .
يقول تعالى ذكره : واتقوا الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم ، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان بإعجابكم كثرة الخبيث ، فتصيروا منهم . " يا أولي الألْبابِ " يعني بذلك : أهل العقول والحجا ، الذين عقلوا عن الله آياته ، وعرفوا مواقع حججه . " لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ " يقول : اتقوا الله لتفلحوا : أي كي تنجحوا في طلبتكم ما عنده .
{ قل لا يستوي الخبيث والطيب } حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها ، رغب به في مصالح العمل وحلال المال . { ولو أعجبك كثرة الخبيث } فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة ، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير ، والخطاب لكل معتبر ولذلك قال : { فاتقوا الله يا أولي الألباب } أي فاتقوه في تحري الخبيث وإن كثر ، وآثروا الطيب وإن قل . { لعلكم تفلحون } راجين أن تبلغوا الفلاح . روي : أنها نزلت في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عنه ، وإن كانوا مشركين .
وقوله { هل يستوي } الآية لفظ عام في جميع الأمور يتصور في المكاسب وعدد الناس والمعارف من العلوم ونحوها ، ف { الخبيث } من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ولا تحسن له عاقبة ، { والطيب } ولو قل نافع جميل العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً }{[4739]} والخبث هو الفساد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب وهي بخلاف ذلك ، وهكذا هو الخبث في الإنسان ، وقد يراد بلفظة خبيث في الإنسان فساد نسبه ، فهذا لفظ يلزم قائله على هذا القصد الحد ، وقوله تعالى { فاتقوا الله يا أولي الألباب } تنبيه على لزوم الطيب في المعتقد والعمل ، وخص { أولي الألباب } بالذكر لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور والذين لا ينبغي لهم إهمالها مع ألبابهم وإدراكهم ، وكأن الإشارة بهذه { الألباب } إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالحنكة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد .
لما آذن قوله : { اعلموا أنّ الله شديد العقاب وأنّ الله غفور رحيم } [ المائدة : 98 ] وقوله : { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } [ المائدة : 99 ] بأنّ الناس فريقان : مطيعون وعصاة ، فريق عاندوا الرسول ولم يمتثلوا ، وهم من بقي من أهل الشرك ومن عاضدهم من المنافقين ، وربما كانوا يظهرون للقبائل أنّهم جمع كثير ، وأنّ مثلهم لا يكون على خطأ ، فأزال الله الأوهام التي خامرت نفوسهم فكانت فتنة أو حجّة ضالّة يموّه بها بعض منهم على المهتدين من المسلمين . فالآية تؤذن بأن قد وجدت كثرة من أشياء فاسدة خيف أن تستهوي من كانوا بقلّة من الأشياء الصالحة ، فيحتمل أن تكون تلك الكثرة كثرة عدد في الناس إذ معلوم في متعارف العرب في الجاهلية وفي أول الإسلام الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها . قال الأعشى :
ولستَ بالأكثرِ منهم حصًى *** وإنّما العزّة للكاثر
وقال السموأل أو عبد الملك الحارثي :
وقد تعجّب العنبري إذ لام قومه فقال :
لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عَدد *** ليسوا من الشرّ في شيء وإن هانا
قال السديّ : كثرة الخبيث هم المشركون ، والطيّب هم المؤمنون . وهذا المعنى يناسب لو يكون نزول هذه الآية قبل حجّة الوداع حين كان المشركون أكثر عدداً من المسلمين ؛ لكن هذه السورة كلّها نزلت في عام حجّة الوداع فيمكن أن تكون إشارة إلى كثرة نصارى العرب في الشام والعراق ومشارف الشام لأنّ المسلمين قد تطلّعوا يومئذٍ إلى تلك الأصقاع ، وقيل : أريد منها الحرام والحلال من المال ، ونقل عن الحسن .
ومعنى { لا يستوي } نفي المساواة ، وهي المماثلة والمقاربة والمشابهة . والمقصود منه إثبات المفاضلة بينهما بطريق الكناية ، والمقام هو الذي يعيّن الفاضل من المفضول ، فإنّ جعل أحدهما خبيثاً والآخر طيّباً يعيّن أنّ المراد تفضيل الطيّب . وتقدّم عند قوله تعالى : { ليسوا سواء } في سورة آل عمران ( 113 ) . ولمّا كان من المعلوم أنّ الخبيث لا يساوي الطيّب وأنّ البون بينهما بعيد ، علم السامع من هذا أنّ المقصود استنزال فهمه إلى تمييز الخبيث من الطيّب في كلّ ما يلتبس فيه أحدهما بالآخر ، وهذا فتح لبصائر الغافلين كيلا يقعوا في مهواة الالتباس ليعلموا أنّ ثمّة خبيثاً قد التفّ في لباس الحسن فتموّه على الناظرين ، ولذلك قال { ولو أعجبك كثرة الخبيث } . فكان الخبيث المقصود في الآية شيئاً تلبّس بالكثرة فراق في أعين الناظرين لكثرته ، ففتح أعينهم للتأمّل فيه ليعلموا خبثه ولا تعجبهم كثرته .
فقوله : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } من جملة المقول المأمور به النبيءُ صلى الله عليه وسلم أي قُل لهم هذا كلّه ، فالكاف في قوله : { أعجبك } للخطاب ، والمخاطب بها غير معيَّن بل كلّ من يصلح للخطاب ، مثل { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [ الأنعام : 27 ] ، أي ولو أعجبَ مُعْجَبا كثرةُ الخبيث .
وقد علمت وجه الإعجاب بالكثرة في أول هذه الآية .
وليس قوله : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } بمقتض أنّ كلّ خبيث يكون كثيراً ولا أن يكون أكثر من الطيِّب من جنسه ، فإنّ طيِّب التَمر والبرّ والثمار أكثر من خبيثها ، وإنّما المراد أن لا تعجبكم من الخبيث كثرته إذا كان كثيراً فتصرفكم عن التأمّل من خبثه وتحدُوَكم إلى متابعته لكثرته ، أي ولكن انظروا إلى الأشياء بصفاتها ومعانيها لا بأشكالها ومبانيها ، أو كثرةُ الخبيث في ذلك الوقت بوفرة أهل الملل الضالّة . والإعجاب يأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : { فلا تُعْجبْك أمْوالهم ولا أولادهم } في سورة براءة ( 55 ) .
وفي تفسير قال : « وكنت بحثت مع ابن عبد السلام وقلت له : هذه تدلّ على الترجيح بالكثرة في الشهادة لأنّهم اختلفوا إذا شهد عدلان بأمر وشهد عشرة عدول بضدّه ، فالمشهور أن لا فرق بين العشرة والعدلين ، وهما متكاملان . وفي المذهب قول آخر بالترجيح بالكثرة . فقوله : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } يدلّ على أنّ الكثرة لها اعتبار بحيث إنّها ما أسقطت هنا إلاّ للخبث ، ولم يوافقني عليه ابن عبد السلام بوجه . ثم وجدت ابن المنير ذكره بعينه » اهـ .
والواو في قوله { ولو أعجبك } واو الحال ، و { لو } اتّصالية ، وقد تقدّم بيان معناهما عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملْءُ الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة آل عمران ( 91 ) .
وتفريع قوله : { فاتّقوا الله يا أولى الألباب } على ذلك مؤذن بأنّ الله يريد منّا إعمال النظر في تمييز الخبيث من الطيّب ، والبحث عن الحقائق ، وعدم الاغترار بالمظاهر الخلابة الكاذبة ، فإنّ الأمر بالتقوى يستلزم الأمر بالنظر في تمييز الأفعال حتى يُعرف ما هو تقوى دون غيره .
ونظير هذا الاستدلال استدلالِ العلماء على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى : { فاتّقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] ، لأنّ ممّا يدخل تحت الاستطاعة الاجتهاد بالنسبة للمتأهّل إليه الثابت له اكتساب أداته . ولذلك قال هنا : { يا أولي الألباب } فخاطب الناس بصفة ليؤمىء إلى أنّ خلق العقول فيهم يمكِّنهم من التمييز بين الخبيث والطيّب لاتّباع الطيّب ونبذ الخبيث . ومن أهمّ ما يظهر فيه امتثال هذا الأمر النظر في دلائل صدق دعوى الرسول وأن لا يحتاج في ذلك إلى تطلّب الآيات والخوارق كحال الذين حكى الله عنهم { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآية ، وأن يميّز بين حال الرسول وحال السحرة والكهّان وإن كان عددهم كثيراً .
وقوله : { لعلّكم تفلحون } تقريب لحصول الفلاح بهم إذا اتّقوا هذه التقوى التي منها تمييز الخبيث من الطيّب وعدم الاغترار بكثرة الخبيث وقلّة الطيّب في هذا .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل يا محمد لا يعتدل الرديء والجيد، والصالح والطالح، والمطيع والعاصي. "وَلَوْ أعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ "يقول: لا يعتدل العاصي والمطيع لله عند الله ولو كثر أهل المعاصي فعجبت من كثرتهم، لأن أهل طاعة الله هم المفلحون الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلوا دون أهل معصيته، وإنّ أهل معاصيه هم الأخسرون الخائبون وإن كثروا. يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: فلا تعجبنّ من كثرة من يعصى الله فيمهله ولا يعاجله بالعقوبة فإن العقبى الصالحة لأهل طاعة الله عنده دونهم...
وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرج الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد به بعض أتباعه، يدلّ على ذلك قوله: "فاتّقُوا اللّهَ يا أُولي الألْبابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ".
" فاتّقُوا اللّهَ يا أُولي الألْبابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ ": واتقوا الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان بإعجابكم كثرة الخبيث، فتصيروا منهم." يا أولي الألْبابِ ": أهل العقول والحجا، الذين عقلوا عن الله آياته، وعرفوا مواقع حججه. "لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ" يقول: اتقوا الله لتفلحوا: أي كي تنجحوا في طلبتكم ما عنده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} الآية تحتمل وجهين: أحدهما: خرج عن سؤال قد سبق من كثرة الأموال لما رأوا أولئك كانوا يستكبرون، ويجمعون من حيث يحل ولا يحل، فمالت أنفسهم إلى ذلك، ورَغِبت، فقال: {قلْ لا يستوي الخبيث والطيب} كأنه قال: إن القليل والطيب خير من الكثير من الخبيث، والله أعلم. والثاني: أنهم رغبوا في عبادة أولئك من الترهيب والاعتزال عن الناس لدفع أذى خبثهم عنهم وكثرة ما كانوا يتحملون من الشدائد، ورغبوا في ذلك، وهموا على ذلك على ما ذكر في القصة عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم هموا أن يترهبوا، أو يعتزلوا عن الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: {قل لا يستوي الخبيث والطيب} إن العمل القليل مع أصل طيب خير من الكثير مع خبث الأصل. وقوله تعالى: {فاتقوا الله} في مخافة أمره ونهيه {يا أولي الألباب} فيه دلالة أن الله لا يخاطب أحدا إلا من كمل عقله وتم. وبالله العصمة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله تعالى: {قُل لا يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطيِّبُ} فيه ثلاث تأويلات: أحدها: يعني الحلال والحرام، قاله الحسن. والثاني: المؤمن والكافر، قاله السدي. والثالث: الرديء والجيد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
البون بين الخبيث والطيب بعيد عند الله تعالى وإن كان قريباً عندكم، فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه لكثرته على القليل الطيب، فإنّ ما تتوهمونه في الكثرة من الفضل، لا يوازي النقصان في الخبيث، وفوات الطيب، وهو عام في حلال المال وحرامه، وصالح العمل وطالحه، وصحيح المذاهب وفاسدها، وجيد الناس ورديهم {فاتقوا الله} وآثروا الطيب، وإن قل، على الخبيث وإن كثر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله {هل يستوي} الآية لفظ عام في جميع الأمور يتصور في المكاسب وعدد الناس والمعارف من العلوم ونحوها، ف {الخبيث} من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ولا تحسن له عاقبة، {والطيب} ولو قل نافع جميل العاقبة... وخص {أولي الألباب} بالذكر لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور والذين لا ينبغي لهم إهمالها مع ألبابهم وإدراكهم، وكأن الإشارة بهذه {الألباب} إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالحنكة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْخَبِيثِ:
أَحَدُهُمَا: الْكَافِرُ. وَالثَّانِي: الْحَرَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْمُؤْمِنُ. الثَّانِي: الْحَلَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَعْجَبَك كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}: وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لَا يُعْجِبُهُ الْكُفَّارُ وَلَا الْحَرَامُ، وَإِنَّمَا يُعْجِبُ ذَلِكَ النَّاسَ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَإِعْجَابًا بِهِ لَهُ أَنَّهُ صَارَ عِنْدَهُ عَجَبًا مِمَّا يُشَاهِدُ من كَثْرَةِ الْكُفَّارِ، وَالْمَالِ الْحَرَامِ، وَقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِلَّةِ الْمَالِ الْحَلَالِ. وَقَدْ سَبَقَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُهُ بِذَلِكَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَم، ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: من كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِلنَّارِ وَوَاحِدٌ لِلْجَنَّةِ).
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي وَجْهِ عَدَمِ اسْتِوَائِهِ وَوُجُوبِ تَفَاوُتِهِ:
إنَّ الْحَرَامَ يُؤْذِي فِي الدِّينِ، وَيَجِبُ فَسْخُهُ وَرَدُّهُ، وَالْحَلَالُ يَنْفَعُ وَيَجِبُ إمْضَاؤُهُ [وَيَصِحُّ تَنْفِيذُهُ]. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}. وَقَالَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}. فَلَا يُعْجِبَنَّكَ كَثْرَةُ الْمَالِ الرِّبَوِيِّ، وَنُقْصَانُ الْمَالِ بِصَدَقَتِهِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْحَقُ ذَلِكَ الْكَثِيرَ فِي الْعَاقِبَةِ، وَيُنَمِّي الْمَالَ الزَّكَاتِيَّ بِالصَّدَقَةِ...
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: حَقِيقَةُ الِاسْتِوَاءِ: الِاسْتِمْرَارُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمِثْلُهُ الِاسْتِقَامَةُ، وَضِدُّهُ الِاعْوِجَاجُ، وَذَلِكَ يَتَصَرَّفُ إلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: الِاسْتِوَاءُ فِي الْمِقْدَارِ، وَلَا يَتَسَاوَى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ مِقْدَارًا فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ أَوْزَنُ دُنْيَا وَالطَّيِّبُ أَوْزَنُ أُخْرَى.
الثَّانِي: الِاسْتِوَاءُ فِي الْمَكَانِ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ أَيْضًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ فِي النَّارِ وَالطَّيِّبَ فِي الْجَنَّةِ.
الثَّالِثُ: الِاسْتِوَاءُ فِي الذَّهَابِ، وَلَا يَتَسَاوَيَانِ أَيْضًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ يَأْخُذُ جِهَةَ الشِّمَالِ وَالطَّيِّبَ يَأْخُذُ فِي جِهَةِ الْيَمِينِ.
الرَّابِعُ: الِاسْتِوَاءُ فِي الْإِنْفَاقِ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ أَيْضًا فِيهِ؛ لِأَنَّ مُنْفِقَ الْخَبِيثِ يَعُودُ عَلَيْهِ الْخُسْرَانُ فِي الدَّارَيْنِ، وَمُنْفِقَ الطَّيِّبِ يَرْبَحُ فِي الدَّارَيْنِ. أَمَّا خُسْرَانُ الْأَوَّلِ فَنَقْصُ مَالِهِ فِي الدُّنْيَا، وَنَقْصُ مَالِهِ فِي الْآخِرَةِ؛ وَرِبْحُ مُنْفِقِ الطَّيِّبِ فِي الدُّنْيَا حُسْنُ النِّيَّةِ وَصِدْقُ الرَّجَاءِ فِي الْعِوَضِ، وَرِبْحُهُ فِي الْآخِرَةِ ثِقَلُ الْمِيزَانِ.
ثم قال تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب}. اعلم أنه تعالى لما زجر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم} ثم أتبعه بالتكليف بقوله {ما على الرسول إلا البلاغ} ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال: {قل لا يستوي الخبيث والطيب} وذلك لأن الخبيث والطيب قسمان: أحدهما: الذي يكون جسمانيا، وهو ظاهر لكل أحد، والثاني: الذي يكون روحانيا، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعة الله تعالى،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما سلب سبحانه العلم عن كل أحد وأثبته لنفسه الشريفة، أنتج ذلك أنه لا أمر لغيره ولا نهي ولا إثبات ولا نفي، فأخذ سبحانه يبين حكمة ما مضى من الأوامر في إحلال الطعام وغيره من الاصطياد والأكل من الصيد وغيره والزواجر عن الخمر وغيرها بأن الأشياء منها طيب وخبيث، وأن الطيب وإن قل خير من الخبيث وإن كثر، ولا يميز هذا من ذاك إلاّ الخلاق العليم، فربما ارتكب الإنسان طريقة شرعها لنفسه ظانّاً أنها حسنة فجرته إلى السيئة وهو لا يشعر فيهلك، كالرهبانية التي كانوا عزموا عليها والخمر التي دعا شغفُهم بها إلى الإنزال فيها مرة بعد أخرى إلى أن أكد فيها هنا أشد تأكيد، وحذر فيها أبلغ تحذير، فقال تعالى صارفاً الخطاب إلى أشرف الورى صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه لا ينهض بمعرفة هذا من الخلق غيرُه: {قل لا يستوي الخبيث} أي من المطعومات والطاعمين {والطيب} أي كذلك، فإن ما يتوهمونه في الكثرة من الفضل لا يوازي النقصان من جهة الخبيث.
ولما كان الخبيث من الذوات والمعاني أكثر في الظاهر وأيسر قال: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} والخبيث والطيب منه جسماني ومنه روحاني، وأخبثهما الروحاني وأخبثه الشرك، وأطيب الطيب الروحاني، وأطيبه معرفة الله وطاعته، وما يكون للجسم من طيب أو خبث ظاهر لكل أحد، فما خالطه نجاسة صار مستقذراً لأرباب الطباع السليمة، وما خالط الأرواح من الجهل صار مستقذراً عند الأرواح الكاملة المقدسة، وما خالطه من الأرواح معرفةُ الله فواظب على خدمته أشرق بأنوار المعارف الإلهية وابتهج بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة، وكما أن الخبيث والطيب لا يستويان في العالم الروحاني كذلك لا يستويان في العالم الجسماني، والتفاوت بينهما في العالم الروحاني أشد، لأن مضرة خبث الجسماني قليلة، ومنفعة طيبه يسيرة، وأما خبث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة، وطيب الروحاني منفعته جليلة دائمة، وهي القرب من الله والانخراط في زمرة السعداء، وأدلّ دليل على إرادة العصاة والمطيعين قوله: {فاتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين ما يسخط الملك الأعظم الذي له صفات المال من الحرام وقايةً من الحلال لتكونوا من قسم الطيب، فإنه لا مقرب إلى الله مثلُ الانتهاء عما حرم -كما تقدم الإشارة بقوله:
{ثم اتقوا وأحسنوا} [المائدة: 93] ويزيد المعنى وضوحاً قوله {يا أولي الألباب} أي العقول الخالصة من شوائب النفس فتؤثروا الطيب وإن قل في الحس لكثرته في المعنى على الخبيث وإن كثر في الحس لنقصه في المعنى {لعلكم تفلحون *} أي لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب،
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قل لا يستوي الخبيث والطيب} أي قل أيها الرسول مخاطبا كل فرد من أفراد أمة الدعوة: لا يستوي الخبيث والطيب من الأشياء والأعمال والأموال – كالضار والنافع، والفاسد والصالح، والحرام والحلال ولا من الناس كالظالم والعادل، والجاهل والعالم، والمفسد والمصلح، والبر والفاجر والمؤمن والكافر. فلكل من الخبيث والطيب في القسم الأول حكم يليق به عند الله تعالى، ولكل منهما في القسم الآخر جزاء ومكان يستحقه بحسب صفته (سيجزيهم وصفهم) وهو الحكيم العليم الذي يضع كل شيء في موضعه. ولعل نكتة تقديم الخبيث في الذكر كون السياق للاهتمام بإزالة شبهة المغترين بكثرته ولذلك قال: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} الخطاب من الرسول لكل مكلف بلغته دعوته كما تقدم، أي ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث من الناس لقوتهم، أو من الأموال المحرمة لسهولة تناولها، والتوسع في التمتع بها، كأكل الربا والرشوة والغلول والخيانة، أو لدعوى أصحابها أنها دليل على حب الله لهم ورضاه عنهم، إذ فضلهم بها على غيرهم، {وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [سبأ: 35].
أي لا يستويان في أنفسهما ولا عند الله ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرتك فصرت بعيدا عن إدراك حقيقة الأمر، وهي أن القليل من الحلال كراتب الحاكم العادل وربح التاجر الصادق، خير من كثير الحرام كالرشوة والخيانة، باعتبار حسن العاقبة في الدنيا والآخرة، كما أن القليل الجيد من الغذاء أو المتاع خير من الكثير الرديء الذي لا يغني غناءه ولا يفيد فائدته. بل ربما يضر آكله ويفسد عليه معدته.
كذلك القليل الطيب من الناس خير من الكثير الخبيث، فالفئة القليلة من أهل الشجاعة والثبات والإيمان، تغلب الفئة الكثيرة من ذوي الجبن والتخاذل والشرك، وأن أفرادا من أولي البصيرة والرأي ليأتون بما تعجز عنه الجماعات من أهل الغباوة والخرق، والعالم الحكيم، يسخر لخدمته ألوفا من الجاهلين {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9].
كان المشركون يفخرون على المؤمنين في صدر الإسلام بكثرتهم ويعتزون بها {وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا} [سبأ: 35] فضرب الله تعالى لهم مثل الكافر الذي فاخر المؤمن بقوله: {أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا} [الكهف:34] وكيف كانت عاقبة أمره خسرا. وقال لهم: {ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين} [الأنفال: 19] ثم قال للمؤمنين تثبيتا لهم حتى لا تروعهم كثرة المشركين في عَددهم وعُددهم {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم بنصره} [الأنفال: 26] وجاءت هذه الآية بالقاعدة العامة وهي أن العبرة بصفة الشيء لا بعدده، وإنما تكون العزة بالكثرة بعد التساوي في الصفات ولما كان من دأب أهل الغفلة والجهل والغرور بالكثرة مطلقا قال تعالى تعقيبا على ما أثبته من تفضيل الطيب على الخبيث وإن كثر الخبيث {فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون (100)} أي فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة ولا تغتروا بكثرة المال الخبيث، ولا بكثرة أهل الباطل والفساد من الخبيثين، فإن تقوى الله تعالى هي التي تنظمكم في سلك الطيبين، فيرجى لكم أن تكونوا من المفلحين، أي الفائزين بخير الدنيا والآخرة.
وإنما خص أولي الألباب بالذكر في عجز الآية بعد مخاطبة كل مكلف في صدرها لأن أهل البصيرة والروية من العقلاء هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدل عليها أوائلها ومقدماتها، بعد التأمل في حقيقتها وصفاتها، فلا يصرون على الغرور بكثرة الخبيث، بعد التنبيه والتذكير. وأما الأغرار الغافلون الذين لم يمرنوا عقولهم على الاستقلال في النظر، والاعتبار بالتجارب والحكم، فلا يفيدهم وعظ واعظ ولا تذكير مذكر، بل لا يعتبرون بما يرون بأعينه ويسمعون بآذانهم من حوادث الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة المجموعة من الحرام، والأمم والدول التي اضمحلت كثرتها العاطلة من فضيلتي العلم والنظام، وكيف ورث هؤلاء وأولئك من كانوا أقل مالا ورجالا، إذ كانوا أفضل أخلاقا وأعمالا، {والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128].
روي عن السدي أن المراد بالخبيث هنا المشركون وبالطيب المؤمنون. وروي عن أبي هريرة قال: لدرهم حلال أتصدق به أحب إلي من مائة ألف ومائة ألف حرام، فإن شئتم فاقرؤوا كتاب الله {قل لا يستوي الخبيث والطيب} وروى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن الإسكندراني قال: كتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عماله يذكر أن الخراج قد انكسر، فكتب إليه عمر: إن الله يقول: {لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} فإن استطعت أن تكون في العدل والإصلاح والإحسان بمنزلة من كان قبلك في الظلم والفجور والعدوان فافعل. ولا قوة إلا بالله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن المناسبة الحاضرة لذكر الخبيث والطيب في هذا السياق، هي مناسبة تفصيل الحرام والحلال في الصيد والطعام. والحرام خبيث، والحلال طيب.. ولا يستوي الخبيث والطيب ولو كانت كثرة الخبيث تغر وتعجب. ففي الطيب متاع بلا معقبات من ندم أو تلف، وبلا عقابيل من ألم أو مرض.. وما في الخبيث من لذة إلا وفي الطيب مثلها على اعتدال وأمن من العاقبة في الدنيا والآخرة.. والعقل حين يتخلص من الهوى بمخالطة التقوى له ورقابة القلب له، يختار الطيب على الخبيث؛ فينتهي الأمر إلى الفلاح في الدنيا والآخرة: هذه هي المناسبة الحاضرة.. ولكن النص -بعد ذلك- أفسح مدى وأبعد أفقا. وهو يشمل الحياة جمعيا، ويصدق في مواضع شتى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالآية تؤذن بأن قد وجدت كثرة من أشياء فاسدة خيف أن تستهوي من كانوا بقلّة من الأشياء الصالحة، فيحتمل أن تكون تلك الكثرة كثرة عدد في الناس إذ معلوم في متعارف العرب في الجاهلية وفي أول الإسلام الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها...قال السديّ: كثرة الخبيث هم المشركون، والطيّب هم المؤمنون. وهذا المعنى يناسب لو يكون نزول هذه الآية قبل حجّة الوداع حين كان المشركون أكثر عدداً من المسلمين؛ لكن هذه السورة كلّها نزلت في عام حجّة الوداع فيمكن أن تكون إشارة إلى كثرة نصارى العرب في الشام والعراق ومشارف الشام لأنّ المسلمين قد تطلّعوا يومئذٍ إلى تلك الأصقاع، وقيل: أريد منها الحرام والحلال من المال، ونقل عن الحسن. ومعنى {لا يستوي} نفي المساواة، وهي المماثلة والمقاربة والمشابهة. والمقصود منه إثبات المفاضلة بينهما بطريق الكناية، والمقام هو الذي يعيّن الفاضل من المفضول، فإنّ جعل أحدهما خبيثاً والآخر طيّباً يعيّن أنّ المراد تفضيل الطيّب. وتقدّم عند قوله تعالى: {ليسوا سواء} في سورة آل عمران (113). ولمّا كان من المعلوم أنّ الخبيث لا يساوي الطيّب وأنّ البون بينهما بعيد، علم السامع من هذا أنّ المقصود استنزال فهمه إلى تمييز الخبيث من الطيّب في كلّ ما يلتبس فيه أحدهما بالآخر...
وليس قوله: {ولو أعجبك كثرة الخبيث} بمقتض أنّ كلّ خبيث يكون كثيراً ولا أن يكون أكثر من الطيِّب من جنسه، فإنّ طيِّب التَمر والبرّ والثمار أكثر من خبيثها، وإنّما المراد أن لا تعجبكم من الخبيث كثرته إذا كان كثيراً فتصرفكم عن التأمّل من خبثه وتحدُوَكم إلى متابعته لكثرته، أي ولكن انظروا إلى الأشياء بصفاتها ومعانيها لا بأشكالها ومبانيها، أو كثرةُ الخبيث في ذلك الوقت بوفرة أهل الملل الضالّة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والخبيث هو الأمر المستقذر إما لأنه في ذاته قذر تعافه النفوس والطبائع السليمة وإما لأن سبب الحصول عليه خبيث فجاءه من سببه إذ انسحب السبب على المسبب فلوثه وإما لأنه مخل بالمروءة فالمستقذر هو الخبيث، وهو حسي، وأدبي، والطيب ما يكون حسنا في ذاته وفي طريق كسبه، وترضاه النفوس المستقيمة والعقول المدركة وتأتي الشرائع بإباحته.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ويتجه خطاب الله إلى نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم، آمرا له أن ينبه الناس إلى أن الخبيث والطيب لا يستويان عند الله في شيء، وأن يلفت نظر الإنسان أيا كان وحيثما كان، إلى أن مجرد الاستلذاذ بالخبيث والإعجاب به لا يقف في وجه هذه الحقيقة الناصعة، فقد يكون الخبيث جذابا وبراقا ومثيرا، ولكنه في جوهره خبيث، وفي أثره خبيث، ولن يقف الخبيث مع الطيب على قدم المساواة بأي وجه من الوجوه، وإذا كان الخبيث (أوزن) في الدنيا فالطيب أوزن منه في الآخرة، وإذا كان مآل الطيب إلى الجنة، فإن مآل الخبيث إلى النار، وإذا كان منفق المال الخبيث يعتبر إنفاقه هباء منثورا، فمنفق المال الطيب يظل إنفاقه ثابتا مذكورا، هذا إلى ما يترتب على تناول كل من الطيب والخبيث، وعلى ممارسة كل من الطيبات والخبائث، من الآثار النفسية والأخلاقية، الفردية والاجتماعية، مما يجعل سلوك الطيبين رحمة لهم وللناس، وسلوك الخبيثين نقمة عليهم قبل أن يكون على بقية الناس، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا ما نستفيده من قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] فكل حلالٍ طيبٌ وكل حرامٍ خبيثٌ...