41- واعلموا - أيها المسلمون - أن ما ظفرتم به من مال الكفار فحكمه : أن يقسم خمسة أخماس ، خُمس منها لله وللرسول ولقرابة النبي واليتامى : وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم وهم فقراء ، والمساكين ، وهم ذوو الحاجة من المسلمين ، وابن السبيل : وهو المنقطع في سفره المباح . والمخصص من خُمس الغنيمة لله وللرسول يرصد للمصالح العامة التي يقررها الرسول في حياته ، والإمام بعد وفاته ، وباقي الخُمس يصرف للمذكورين . أما الأخماس الأربعة الباقية من الغنيمة - وسكتت عنها الآية - فهي للمقاتلين ، فاعلموا ذلك ، واعملوا به إن كنتم آمنتم بالله حقاً ، وآمنتم بما أنزل على عبدنا محمد من آيات التثبيت والمدد ، يوم الفرقان الذي فرَّقنا فيه بين الكفر والإيمان ، وهو اليوم الذي التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر ، والله عظيم القدرة على كل شيء ، وقد نصر المؤمنين مع قلتهم ، وخذل الكافرين مع كثرتهم .
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مكر الكافرين وعن دعاويهم الكاذبة ، وعن وجوب مقاتلتهم إذا ما استمروا في طغيانهم وعدوانهم . . بعد كل ذلك بين - سبحانه - للمؤمنين كيفية قسمة الغنائم التي كثيرا ما تترب على قتال أعدائهم ، فقال - تعالى - : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ . . . } .
وقوله : { غَنِمْتُمْ } من الغنم بمعنى الفوز والربح يقال : غنم غنما وغنيمة إذا ظفر بالشئ قال القرطبى ما ملخصه : الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعى ، ومن ذلك قول الشاعر :
وقد طوفت في الآفاق حتى . . . رضيت من الغنيمة بالإِياب
واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله - تعالى - : { غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر .
وسمى الشرع الواصل من الكافر إلينا من الأموال باسمين : غنيمة وفيئا . فالشئ الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعى وإيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة . ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا .
والفئ مأخوذ من فاء يفئ إذا رجع ، وهو كل ما دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف . كخراج الأرضين ، وزية الجماجم .
والمعنى : الاجمالى للآية الكريمة : { واعلموا } - أيها المسلمون - { أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } أى : ما أخذتموه من الكفار قهراً { فَأَنَّ للَّهِ } الذي منه - سبحانه - النصر المتفرع عليه الغنيمة { خُمُسَهُ } أي خمس ما غنمتموه شكرا له على هذا النعمة { وَلِلرَّسُولِ } الذي هو سبب في هدايتكم { وَلِذِي القربى } أى : ولأصحاب القرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم والمراد بهم على الراجح بن هاشم وبنو المطلب .
{ واليتامى } وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم قبل أن يبلغوا .
{ والمساكين } وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين .
{ وابن السبيل } وهو المسافر الذي نفد ماله وهو في الطريق قبل أن يصل إلى بلده .
وقوله { واعلموا } معطوف على قوله قبل ذلك { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ . . . } الخ و { مَا } في قوله : { أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } موصولة والعائد محذوف .
وقوله : { مِّن شَيْءٍ } بيان الموصول محله النصب على أنه حال من العائد المقدر .
أى : أن ما غنمتموه من شئ سواء أكان هذا الشئ قليلا أم كثيرا { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } .
وقوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } خبر مبتدأ محذوف والتقدير : فحكمه أن لله خمسة والجار والمجرور خبر { أَنَّ } مقدم ، وخمسة اسمها مؤخر . والتقدير : فأن خمسه كائن لله وللرسول ولذى القربى . . إلخ .
وأعيدت اللام في قوله { وَلِذِي القربى } دون غيرهم من الأصناف التالية لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبى - صلى الله عليه وسلم - لمزيد اتصالهم به .
وقوله : { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله . . . } شرط جزاؤه محذوف .
أى : إن كنتم آمنتم بالله حق الإِيمان ، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - { يَوْمَ الفرقان } أي يوم بدر { يَوْمَ التقى الجمعان } أى : جمع المؤمنين وجمع الكافرين . . إن كنتم آمنتم بكل ذلك ، فاعملوا بما علمتم ، وارضوا بهذه القسمة عن إذعان وتسليم وحسن قبول .
وما أنزله الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر .
يتناول ما نزل من آيات قرآنية ، كما يتناول نزول الملائكة لتثبيت المؤمنين ، وتبشيرهم بالنصر كما يتناول غير ذلك مما أيدهم الله به في بدر .
وسمى يوم بدر بيوم الفرقان ، لأنه اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل وقوله { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل قصد به بيان أن ما أصابه المؤمنون يوم بدر من غنيمة ونصر إنما هو بقدرة الله التي لا يعجزها شئ فعليهم أن يداموا على طاعته وشكره ليزيدهم من عطائه وفضله .
هذا ، وقد ذكر العلماء عند تفسيره لهذه الآية جملة من المسائل والأحكام من أهمها ما يأتى :
1- أن هذه الآية وضحت أن غنائم الحرب تخمس فيجعل الخمس الأول منها لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، والأربعة الأخماس الباقية بينت السنة أنها تقسم على الجيش : للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم أو سهمان .
قال ابن كثير : ويؤيد هذا ما رواه البيهقى بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال : أتيت النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو بوادى القرى ، وهو معترض فرسا فقلت : يا رسول الله ، ما تقول في الغنيمة ، فقال : لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش ، قلت : فما أحد أولى به من أحد ، قال : لا ، ولا السهم تستخرجه من جيبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم .
وقال بعض العلماء : أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه ، وصرف الخمس إلى من ذكره الله - تعالى - وقسمه الباقى بين الغانمين بالعدل ، للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه . هكذا قسم النبى - صلى الله عليه وسلم الغنائم عام خيبر .
ومن الفقهاء من يقول : للفارس سهمان . والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤمنة نفسه وسائسه ، ومنفعة الفارس بن أكثر من منفعة رجلين .
ويجب قسمتها بينهم بالعدل ، فلا يحابى أحدا ، لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله وفى صحيح البخارى " أن سعد بن أبى وقاص رأى أن له فضلا على من دونه ، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم "
ذهب جمهور العلماء إلى ان المقصود بإِيتاء لفظ الجلالة في قوله { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } : التبرك والتعظيم والحض على إخلاص النية عند القسمة وعلى الامتثال والطاعة له - سبحانه - .
وليس المقصود أن يقسم الخمس على ستة منها الله - تعالى - ، فإنه سبحانه - له الدنيا والآخرة ، وله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما .
وعليه يكون خمس الغنيمة مقسما على خمسة أقسام : للرسول ، ولذى القربى واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل .
ويرى أبو العالية والربيع والقاسم أن هذا الخمس يقسم إلى ستة أقسام ، عملا بظاهر الآية ، وأن سهم الله - تعالى - يصرف في وجوه الخير ، أو يؤخذ للكعبة .
وقد رجح ابن جرير رأى الجمهور فقال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب من قال : قوله { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } افتتاح كلام ، وذلك لاجتماع الحجة على أن الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم . ولو كان لله فيه سهم - كما قال ابو العالية - لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسوما على ستة أسهم . وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها .
فأما على أكثر من ذلك فلا نعلم قائلا غير الذي ذكرناه من الخبر عن أبى العالية . وفى إجماع من ذكرت - الدلالة الواضحة على ما اخترناه .
وسهم النبى - صلى الله عليه وسلم - جعله الله - تعالى - له في قوله { وَلِلرَّسُولِ } كان مفوضا إليه في حياته ، يتصرف فيه كما شاء ، ويضعه حيث يشاء .
روى الإِمام أحمد " أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت : يا عبادة ، ما كلمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ؟ فقال عبادة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم . فلما سلم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتناول وبرة فقال : إن هذه من غنائمكم ، وأنه ليس لى فيها إلا نصيبى معكم الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلو نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا الحدود في الحضر والسفر ، وجاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة . ينجى الله به من الغم والهم " ، قال ابن كثير : هذا حديث حسن عظيم .
وروى أبو داود والنسائى " عن عمور بن عبسة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم إلى بعير من الغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : ولا يحل لى من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس ، والخمس مردودة عليكم " .
هذا بالنسبة لسهمه - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، أما بعد وفاته ، فمنهم من يرى : أن سهمه - صلى الله عليه وسلم - يكون لمن يلى الأمر من بعده . روى هذا عن أبى بكر وعلى قتادة وجماعة . .
ومنهم من يرى أن سهمه - صلى الله عليه وسلم - يصرف في مصالح المسلمين . روى ابن جرير عن الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبى - صلى الله عليه وسلم - في الكراع والسلاح .
ومنهم من يرى صرفه لبقية الأصناف : ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .
وقد رجح ابن جرير هذا الرأى فقال : والصواب من القول في ذلك عندنا : ان سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على أربعة اسهم على ما روى عن ابن عبسا : للقرابة سهم ، ولليتامى سهم ، وللمساكين سهم ، ولابن السبيل سهم ، لأن الله - تعالى - أوجب الخمس لأقوام موصوفين بصفات ، كما أوجب الأربعة الأخماس الآخرين . وقد اجمعوا أن حق أهل الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم ، فكذلك حق أهل الخمس لن يستحقه غيرهم ، فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم . .
4- المراد بذى القربى - كما سبق أن أشرنا - بنو هاشم وبنو المطلب على الراجح . وعليه فإن السهم المخصص لذى القربى لا يصرف إلى لهم .
قال القرطبى ما ملخصه : اختلف العلماء في ذوى القربى على ثلاثة أقوال :
أولها : أن المراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب . " قاله الشافعى وأحمد وأبو ثور ومجاهد . . لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما قسم سهم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلق قال : " إنهم لم يفارقونى في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد " وشبك بين أصابعه " أخرجه البخارى والنسائى .
ثالثها : أن المراد بهم بنو هاشم خاصة . قاله مجاهد وعلى بن الحسين . وهو قول مالك والثورى والأوزاعى وغيرهم .
وقال الآلوسى : وكيفية القسمة عند الأصحاب أنها كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خمسة أسهم سهم له - صلى الله عليه وسلم - للمذكورين من ذوى القربى ، وثلاثة أسهم للاصناف الثلاثة الباقية .
وأما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فسقط سهمه . . وكذا سقط سهم ذوى القربى ، وإنما يعطون بالفقر ، ويقدم فقراؤهم على فقراء غيرهم ، ولا حق لأغنيائهم ، لأن الخلفاء الأربعة قسموا الخمس كذلك وكفى بهم قدوة . .
ثم قال : ومذهب المالكية أن الخمس لا يلزم تخمسه ، وأنه مفوض إلى رأى الإِمام .
- أي انهم يرون أن خمس الغنيمة يجعل في بيت المال فينفق منه على ما ذكر وعلى غيرهم بحسب ما يراه الأمام من مصلحة المسلمين ، وكأنهم يرون أن هذه الأصناف إنما ذكرت على سبيل المثال ، وأنها من باب الخاص الذي قصد به العام ، بينما يرى غيرهم أن هذه الاصناف من باب الخاص الذي قصد به الخاص .
ثم قال : ومذهب الإِمامية أنه ينقسم إلى ستة أسهم كما ذهب أبو بالعالية ، إلا أنهم قالوا : إن سهم الله - تعالى - ، وسهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسهم ذوى القربى الكل للإِمام القائم مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أما الاسهم الثلاثة الباقية فهم لليتامى من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - وسهم لمساكينهم ، وسهم لآبناء سبيلهم ، لا يشركهم في ذلك غيرهم .
رووا ذلك عن زين العابدين ، ومحمد بن على الباقر .
ثم قال : والظاهر أن الاسهم الثلاثة الأولى التي ذكروها اليوم تخبأ في السرداب ، إذ القام مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد غاب عندهم فتخبأ له حتى يرجع من غيبته . .
هذا ، ومن كل ما سبق نرى أن أكثر العلماء يرون أن خمس الغنيمة يقسم إلى خمسة أقسام ، ومنهم من يرى أنه يقسم الى ستة أقسام ، ومنهم من يرى أنه لا يلزم تقسيمه إلى خمسة أقسام أو الى ستة ، وإنما هو موكول إلى نظر الإِمام واجتهاده . . ومنهم من يرى غير ذلك ، ولكل فريق أدلة المبسوطة في كتب الفروع .
5- ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - في مطلع السورة { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال . . . } أن المراد بالأنفال : الغنائم وعليه تكون الآية التي معنا وهى قوله { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } مفصلة لما أجملته الآية التي في مطلع السورة .
أى أن الآية التي في مطلع السورة بينت أن الأمر في قسمة الانفال مفوض إلى الله ورسوله ، ثم جاءت الآية التي معنا ففصلت كيفية قسمة الغنائم حتى لا يتطلع أحد إلى ما ليس من حقه .
وهذا أولى من قول بعضهم : إن الآية التي معنا نسخت الآية التي في مطلع السورة : لأن النسخ لا يصار إليه عند التعارض وهنا لا تعارض بين الآيتين .
6- الآية الكريمة أرشدت المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم أن يخلصوا في طاعتهم لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يجعلوا غياتهم من جهادهم إعلاء كلمة الله ، لكى يكونوا مؤمنين حقا .
ويشعر بهذا الإِرشاد تصديره - سبحانه - الآية بقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } كما يشعر به قوله - تعالى - { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان . . } ، فإن كل ذلك فيه معنى الحض على إخلاص النية لله - تعالى - والامتثال لحكمه ، والمداومة على شكره ، حيث منحهم - سبحانه - هذه النعم بفضله وإحسانه .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : بم تعلق قوله { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله } : قلت بمحذوف يدل عليه قوله { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به ، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة . ولس المراد بالعلم المجرد ، ولكنه العلم المضمن بالعمل ، والطاعة لأمر الله - تعالى - ، لأن العلم المجرد يستوى فيه المؤمن والكافر .
هذه بعض المسائل والأحكام التي استنبطناها من الآية الكريمة ، وهناك مسائل وأحكام اخرى تتعلق بها ذكرها بعض المفسرين فارجع إليه إن شئت .
{ وَاعْلَمُوَا أَنّمَا غَنِمْتُمْ مّن شَيْءٍ فَأَنّ للّهِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
قال أبو جعفر : وهذا تعليم من الله عزّ وجلّ المؤمنين قسم غنائمهم إذا غنموها ، يقول تعالى ذكره : واعلموا أيها المؤمنون أنما غنمتم من غنيمة .
واختلف أهل العلم في معنى الغنيمة والفيء ، فقال بعضهم : فيهما معنيان كلّ واحد منهما غير صاحبه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن الحسن بن صالح ، قال : سألت عطاء بن السائب عن هذه الاَية : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ ، وهذه الاَية : ما أفاءَ اللّهُ عَلى رسُولهِ ، قال : قلت : ما الفيء وما الغنيمة ؟ قال : إذا ظهر المسلمون على المشركين وعلى أرضهم ، وأخذوهم عنوة فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو غنيمة ، وأما الأرض فهي في سوادنا هذا فيء .
وقال آخرون : الغنيمة ما أُخذ عَنْوة . والفيء : ما كان عن صلح . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان الثوري ، قال : الغنيمة : ما أصاب المسلمون عنوة بقتال فيه الخمس ، وأربعة أخماسه لمن شهدها . والفيء : ما صولحوا عليه بغير قتال ، وليس فيه خمس ، هو لمن سَمّى الله .
وقال آخرون : الغنيمة والفيء بمعنى واحد . وقالوا : هذه الاَية التي في الأنفال ناسخة قولَه : ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أهْلِ القُرَى فَلِلّهِ وللرسُولِ . . . الاَية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أهْلِ القُرَى فَلَلّهِ وللرسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ قال : كان الفيء في هؤلاء ، ثم نسخ ذلك في سورة الأنفال ، فقال : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبيلِ ، فنسخت هذه ما كان قبلها في سورة الحشر ، وجعل الخمس لمن كان له الفيء في سورة الحشر ، وسائر ذلك لمن قاتل عليه .
وقد بيّنا فيما مضى الغنيمة ، وأنها المال يوصل إليه من مال من خوّل الله ماله أهل دينه بغلبة عليه وقهر بقتال . فأما الفيء ، فإنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال أهل الشرك ، وهو ما ردّه عليهم منها بصلح ، من غير إيجاف خيل ولا ركاب . وقد يجوز أن يسمى ما ردّته عليهم منها سيوفهم ورماحهم وغير ذلك من سلاحهم فيئا ، لأن الفيء إنما هو مصدر من قول القائل : فاء الشيء يَفيءُ فَيْئا : إذا رجع ، وأفاءه الله : إذا ردّه . غير أن الذي ورد حكم الله فيه من الفيء يحكيه في سورة الحشر إنما هو ما وصفت صفته من الفيء دون ما أوجف عليه منه بالخيل والركاب ، لعلل قد بينتها في كتابنا : «كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الدين » وسنبينه أيضا في تفسير سورة الحشر إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى .
وأما قول من قال : الاَية التي في سورة الأنفال ناسخة الاَية التي في سورة الحشر فلا معنى له ، إذ كان لا معنى في إحدى الاَيتين ينفي حكم الأخرى . وقد بيّنا معنى النسخ ، وهو نفي حكم قد ثبت بحكم بخلافه ، في غير موضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما قوله : مِنْ شَيْءٍ فإنه مراد به كل ما وقع عليه اسم شيء مما خوّله الله المؤمنين من أموال من غلبوا على ماله من المشركين مما وقع فيه القسم حتى الخيط والمخيط . كما
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قوله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ، قال : المخيط من الشيء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم الفضل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : قوله : فَأنّ للّهِ خُمُسَهُ مفتاح كلام ، ولله الدنيا والاَخرة وما فيهما ، وإنما معنى الكلام : فأن للرسول خمسه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال : سألت الحسن عن قول الله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ ، قال : هذا مفتاح كلام ، لله الدنيا والاَخرة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال : سألت الحسن بن محمد ، عن قوله : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ ، قال : هذا مفتاح كلام ، لله الدنيا والاَخرة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا أبو شهاب ، عن ورقاء ، عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خَمّسَ الغنيمة فضرب ذلك الخُمْسَ في خمسة ، ثم قرأ : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرسُولِ . قال : وقوله : فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ مفتاح كلام ، لله ما في السّمَوَاتِ وما في الأَرْضِ ، فجعل سهم الله ، وسهم الرسول واحدا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : فَأن لِلّهِ خُمُسَهُ قال : لله كلّ شيء .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في قوله : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ قال : لله كلّ شيء ، وخمس لله ورسوله ، ويقسم ما سوى ذلك على أربعة أسهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس ، فأربعة أخماس لمن قاتل عليها ، ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس ، فخمس لله والرسول .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا أبان ، عن الحسن ، قال : أوصى أبو بكر رضي الله عنه بالخمس من ماله وقال : ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عبد الملك ، عن عطاء : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ قال : خمس الله وخمس رسوله واحد ، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحمل منه ويصنع فيه ما شاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن أصحابه ، عن إبراهيم : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ ، قال : كل شيء لله ، الخمس للرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل .
وقال آخرون : معنى ذلك : فإن لبيت الله خمسه وللرسول . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن الجراح ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بالغنيمة ، فيقسمها على خمسة : تكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثم يأخذ الخمس ، فيضرب بيده فيه ، فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة ، وهو سهم الله ، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول ، وسهم لذي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ . . . . إلى آخر الاَية ، قال : فكان يجاء بالغنيمة فتوضع ، فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم ، فيجعل أربعة بين الناس ويأخذ سهما ، ثم يضرب بيده في جميع ذلك السهم ، فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة ، فهو الذي سُمي لله ، ويقول : «لا تجعلوا لله نصيبا فإن لله الدنيا والاَخرة » ، ثم يقسم بقيته على خمسة أسهم : سهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل .
وقال آخرون : ما سمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فإنما هو مراد به قرابته ، وليس لله ولا لرسوله منه شيء . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس : فأربعة منها لمن قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربع فربع لله والرسول ولذي القربى يعني قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم فما كان لله والرسول فهو لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئا ، والربع الثاني لليتامى ، والربع الثالث للمساكين ، والربع الرابع لابن السبيل .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال قوله : فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ افتتاح كلام ، وذلك لإجماع الحجة على أن الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم ، ولو كان لله فيه سهم كما قال أبو العالية ، لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسوما على ستة أسهم . وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها ، فأما على أكثر من ذلك فما لا نعلم قائلاً قاله غير الذي ذكرنا من الخبر عن أبي العالية ، وفي إجماع من ذكرت الدلالة الواضحة على صحة ما اخترنا . فأما من قال : سهم الرسول لذوي القربى ، فقد أوجب للرسول سهما وإن كان صلى الله عليه وسلم صرفه إلى ذوي قرابته ، فلم يخرج من أن يكون القسم كان على خمسة أسهم . وقد
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ . . . الاَية ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة جعلت أخماسا ، فكان خمس لله ولرسوله ، ويقسم المسلمون ما بقي . وكان الخمس الذي جعل لله ولرسوله ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، فكان هذا الخمس خمسة أخماس : خمس لله ورسوله ، وخمس لذوي القُرْبى ، وخمس لليتامى ، وخمس للمساكين ، وخمس لابن السبيل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، قال : سألت يحيى بن الجزار عن سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : هو خمس الخمس .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، وجرير عن موسى بن أبي عائشة ، عن يحيى بن الجزار ، مثله .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن يحيى بن الجزار ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ قال : أربعة أخماس لمن حضر البأس ، والخمس الباقي لله ، وللرسول خمسه يضعه حيث رأى ، وخمسه لذوي القربى ، وخمسه لليتامى ، وخمسه للمساكين ، ولابن السبيل خمسه .
وأما قوله : وَلِذِي القُرْبَىَ فإن أهل التأويل اختلفوا فيهم ، فقال بعضهم : هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحلّ لهم الصدقة ، فجعل لهم خمس الخمس .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأهل بيته لا يأكلون الصدقة ، فجعل لهم خمس الخمس .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبد السلام ، عن خَصِيف ، عن مجاهد ، قال : قد علم الله أن في بني هاشم الفقراء ، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان ، قال : حدثنا الصباح بن يحيى المزني ، عن السديّ ، عن ابن الديلمي ، قال : قال عليّ بن الحسين رضي الله عنه لرجل من أهل الشأم : أما قرأت في الأنفال : وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ . . . الاَية ؟ قال : نعم ، قال : فإنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : هؤلاء قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحلّ لهم الصدقة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أن نَجُدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى ، فكتب إليه كتابا : تزعم أنا نحن هم ، فأبى ذلك علينا قومنا .
قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فأنّ للّهِ خُمُسَهُ قال : أربعة أخماس لمن حضر البأس ، والخمس الباقي لله ، وللرسول خمسه يضعه حيث رأى ، وخمس لذوي القربى ، وخمس لليتامى ، وخمس للمساكين ، ولابن السبيل خمسه .
وقال آخرون : بل هم قريش كلها . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرني عبد الله بن نافع ، عن أبي معشر ، عن سعيد المُقِبري ، قال : كتب نجْدة إلى ابن عباس يسأله عن ذي القربى ، قال : فكتب إليه ابن عباس : قد كنا نقول إنا هم ، فأبى ذلك علينا قومنا ، وقالوا : قريش كلها ذوو قُرْبىَ .
وقال آخرون : سهم ذي القربى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم صار من بعده لوليّ الأمر من بعده . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أنه سئل عن سهم ذي القربى ، فقال : كان طُعْمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيّا ، فلما توفي جعل لوليّ الأمر من بعده .
وقال آخرون : بل سهم ذي القربى كان لبني هاشم ، وبني المطلب خاصة . وممن قال ذلك الشافعيّ ، وكانت علته في ذلك ما
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : ثني الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن جبير بن مطعم ، قال : لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه ، فقلنا : يا رسول الله ، هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم ، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا ، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة ؟ فقال : «إنّهُمْ لَمْ يُفارِقُونا فِي جاهِلِيّةٍ وَلا إسْلامٍ ، إنّمَا بَنُو هاشِمٍ وَبَنُو المُطّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ » . ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي ، قول من قال : سهم ذي القربى كان لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وحلفائهم من بني المطلب ، لأن حليف القوم منهم ، ولصحة الخبر الذي ذكرناه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
واختلف أهل العلم في حكم هذين السهمين ، أعني سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسهم ذي القربى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : يصرفان في معونة الإسلام وأهله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا أبو شهاب ، عن ورقاء ، عن نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : جعل سهم الله وسهم الرسول واحدا ولذي القربى ، فجعل هذان السهمان في الخيل والسلاح ، وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يُعْطَى غيرهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال : سألت الحسن عن قول الله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى قال : هذا مفتاح كلام ، لله الدنيا والاَخرة .
ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قائلون : سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقال قائلون : سهم القرابة لقرابة الخليفة . واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله ، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، قال : سألت الحسن بن محمد ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمر بن عبيد ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح ، فقلت لإبراهيم : ما كان عليّ رضي الله عنه يقول فيه ؟ قال : كان عليّ أشدّهم فيه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَاعْلَمُوا أنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ . . . الاَية . قال ابن عباس : فكانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس : أربعة بين من قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربعة : لله ، وللرسول ، ولذي القربى ، يعني قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئا . فلما قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، ردّ أبو بكر رضي الله عنه نصيب القرابة في المسلمين ، فجعل يحمل به في سبيل الله ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «لا نُورَثُ ، ما تَرَكْنا صَدَقَةٌ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه سئل عن سهم ذي القربى ، فقال : كان طُعْمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما توفي حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله صدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : سهم ذوي القربى من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وليّ أمر المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عنِ عمران بن ظَبيان ، عن حكيم بن سعد ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : يعطى كلّ إنسان نصيبه من الخمس ، ويلي الإمام سهم الله ورسوله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أنه سئل عن سهم ذوي القربى ، فقال : كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيّا ، فلما توفي جُعِل لوليّ الأمر من بعده .
وقال آخرون : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم : على اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . وذلك قول جماعة من أهل العراق .
وقال آخرون : الخمس كله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا عبد الغفار ، قال : حدثنا المنهال بن عمرو ، قال : سألت عبد الله بن محمد بن عليّ ، وعليّ بن الحسين عن الخمس ، فقالا : هو لنا . فقلت لعليّ : إن الله يقول : واليَتامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ فقال : يتامانا ومساكيننا .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على أربعة أسهم على ما رُوي عن ابن عباس : للقرابة سهم ، ولليتامى سهم ، وللمساكين سهم ، ولابن السبيل سهم ، لأن الله أوجب الخمس لأقوام موصوفين بصفات ، كما أوجب الأربعة الأخماس الاَخرين . وقد أجمعوا أن حقّ الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم ، فكذلك حقّ أهل الخمس لن يستحقه غيرهم ، فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم ، كما غير جائز أن تخرج بعض السهمان التي جعلها الله لمن سماه في كتابه بفقد بعض من يستحقه إلى غير أهل السهمان الأخر . وأما اليتامى فهم أطفال المسلمين الذين قد هلك آباؤهم . والمساكين هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين . وابن السبيل المجتاز سفرا قد انْقُطِعَ به . كما
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : الخمس الرابع لابن السبيل ، وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين .
القول في تأويل قوله تعالى : إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ باللّهِ وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ وَاللّه عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
يقول تعالى ذكره : أيقنوا أيها المؤمنون أنما غنمتم من شيء فمقسوم القَسمْ الذي بينته ، وصَدقوا به إن كنتم أقررتم بوحدانية الله ، وبما أنزل الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم يوم فرق بين الحقّ والباطل ببدر ، فأبان فلج المؤمنين وظهورهم على عدوّهم ، وذلك يوم التقى الجمعان : جمع المؤمنين ، وجمع المشركين . والله على إهلاك أهل الكفر وإذلالهم بأيدي المؤمنين ، وعلى غير ذلك مما يشاء قدير لا يمتنع عليه شيء أراده .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : يَوْمَ الفُرْقانِ يعني بالفرقان : يوم بدر ، فَرَق الله فيه بين الحق والباطل .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير وإسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، يزيد أحدهما على صاحبه في قوله : يَوْمَ الفُرْقانِ يوم فرق الله بين الحقّ والباطل ، وهو يوم بدر ، وهو أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة . فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مئة وبضعة عشر رجلاً ، والمشركون ما بين الألف والتسع مئة ، فهزم الله يومئذ المشركين ، وقُتل منهم زيادة على سبعين ، وأسر منهم مثلُ ذلك .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن مقسم : يَوْمَ الفُرْقانِ ، قال : يوم بدر ، فرق الله بين الحقّ والباطل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن عثمان الجزري ، عن مقسم ، في قوله : يَوْمَ الفُرْقانِ ، قال : يوم بدر ، فرق الله بين الحقّ والباطل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، ابن عباس ، قوله : يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ يوم بدر . وبدر بين المدينة ومكة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : ثني يحيى بن يعقوب أبو طالب ، عن ابن عون ، عن محمد بن عبد الله الثقفي ، عن أبي عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب ، قال : قال الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشرة من شهر رمضان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ قال ابن جريج : قال ابن كثير : يوم بدر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ : أي يوم فرق بين الحقّ والباطل ببدر ، أي يوم التقى الجمعان منكم ومنهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ ، وذاكم يوم بدر ، يوم فرق الله بين الحقّ والباطل .
{ واعلموا أنما غنمتم } أي الذي أخذتموه من الكفار قهرا . { من شيء } مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط . { فأن لله خُمسه } مبتدأ خبره محذوف أي : فثابت أن لله خمسه . وقرئ فإن بالكسر والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } . وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين { وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } فكأنه قال : فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به . وحكمه بعد ، باق غير أن سهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كما فعله الشيخان رضي الله تعالى عنهما . وقيل إلى الإمام . وقيل إلى الأصناف الأربعة . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه :سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته وصار الكل مصروفا إلى الثلاثة الباقية . وعن مالك رضي الله تعالى عنه الأمر فيه مفوض إلى رأي الإمام يصرفه إلى ما يراه أهم ، وذهب أبو العالية إلى ظاهر الآية فقال :يقسم ستة أقسام ويصرف سهم الله إلى الكعبة لما روي ( أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ قبضة منه فيجعلها للكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة ) . وقيل : سهم الله لبيت المال . وقيل هو مضموم إلى سهم الرسول صلى الله عليه وسلم . ذوو القربى : بنو هاشم ، وبنو المطلب . لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى عليهما فقال له عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام . وشبك بين أصابعه " . وقيل بنو هاشم وحدهم . وقيل جميع قريش الغني والفقير فيه سواء . وقيل هو مخصوص بفقرائهم كسهم ابن السبيل . وقيل : الخمس كله لهم . والمراد باليتامى والمساكين وابن السبيل من كان منهم والعطف للتخصيص . والآية نزلت ببدر . وقيل الخمس كان في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة . { إن كنتم آمنتم بالله } متعلق بمحذوف دل عليه { واعلموا } أي : إن كنتم آمنتم بالله فعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية ، فإن العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد لأنه مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو العمل . { وما أنزلنا على عبدنا } محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر . وقرئ { عبدنا } بضمتين أي الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . { يوم الفرقان } يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل . { يوم التقى الجمعان } المسلمون والكافرون . { والله على كل شيء قدير } فيقدر على نصر القليل على الكثير والإمداد بالملائكة .