61- واذكروا - أيها اليهود - أيضاً يوم سيطر البطر على أسلافكم ، ولم يؤدوا لنعمة الله حقها فقالوا لموسى : إننا لن نصبر على طعام واحد ( وهو المن والسلوى ) فادع لنا ربك كي يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقولها وقثائها وعدسها وثومها وبصلها ، فتعجب موسى من ذلك ، وأنكره عليهم فقال لهم : أتفضلون هذه الأصناف على ما هو أفضل وأحسن ، وهو المن والسلوى ؟ . . فانزلوا إذن من سيناء وادخلوا مدينة من المدن فإنكم ستجدون فيها ما تريدون ، وبسبب ذلك البطر والعناد أحاطت بهؤلاء اليهود المذلة والفقر والخنوع ، واستحقوا غضب الله عليهم لما ألفوه من العناد والعصيان ، وما جروا عليه من الكفر بآيات الله وبقتلهم الأنبياء مخالفين بذلك الحق الثابت المقرر ، وقد جرأهم على ذلك - الكفر وهذا القتل - ما رُكِّب في نفوسهم من التمرد والعدوان ومجاوزة الحد في المعاصي .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد ذكرت بني إسرائيل بنعمة جليلة ، ونصحتهم بأن يعملوا على شكرها : وحذرتهم عاقبة الإِفساد في الأرض وجحودهم النعمى واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير :
ثم ذكرهم - سبحانه - بما كان منهم من جحود النعمة واستخفافهم بها وإيثارهم - بسوء اختيارهم - ما هو أدنى على ما هو خير ، فقال تعالى :
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يا موسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ . . . }
الصبر : حبس النفس على الشيء ، بمعنى إلزامها إياه ، ومنه الصبر على الطاعات ، أو يطلق على حبسها بمعنى كفها . ومنه الصبر عن المعاصي . والطعام : ما رزقوه في التيه من المن والسولى : والبقل : ما تنبته الأرض من الخضر مما يأكله الناس والأنعام من نحو النعناع والكراث وغيرهما . والقوم : قيل هو الثوم ، وقيل هو الحنطة . والقثاء : نوع من المأكولات أكبر حجماً من ( الخيار ) .
قال ابن جرير : ( وكان سبب مسألتهم موسى - عليه السلام - ذلك فيما بلغنا عن قتادة أنه قال : كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المن والسلوى : فملوا ذلك وذكروا عيشاً كان لهم بمصر ، فسألوه موسى ، فقال الله تعالى : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } .
ثم ساق ابن جرير رواية ، فيها تصريح بأن سؤالهم لم يكن في البرية بل كان في التيه فقال : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : أنبأنا . ابن زيد قال :
" كان طعام بني إسرائيل في التيه واحداً ، وشرابهم واحداً . كان شرابهم عسلاً ينزل لهم من السماء يقال له المن ، وطعامهم طير يقال له السلوى ، يأكلون الطير ويشربون العسل ، لم يكونوا يعرفون خبزاً ولا غيره ، فقالوا يا موسى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } : " لما سئموا من الإِقامة في التيه . والمواظبة على مأكول واحد لبعدهم عن الأرض التي ألفوها ، وعن العوائد التي عهدوها ، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك ، وتشوقهم إلى ما كانوا يألفون ، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم " .
وقال صاحب الكشاف : " كانوا أهل فلاحة فنزعوا إلى عكرهم - فأجموا - أي ملوا وكرهوا - ما كانوا فيه من النعمى وطلبت أنفسهم عدم البقاء { على طَعَامٍ وَاحِدٍ } أرادوا ما رزقوه في التيه من المن والسلوى " .
ومعنى الآية الكريمة إجمالاً : وذاكروا يا بني إسرائيل بعد أن أسبغنا عليكم نعمنا ما كان من سوء اختيار أسلافكم ، وفساد أذواقكم ، وإعناتكم لنبيهم موسى - عليه السلام - حيث قالوا له ببطر وسوء أدب : لن نصبر على طعام المن والسلوى في كل وقت ، فسل ربك أن يخرج لنا مما تنبته الأرض من خضرها وفاكهتها وحنطتها وعدسها وبصلها ، لأن نفوسنا قد عافت المن والسلوى ، فوبخهم نبيهم موسى - عليه السلام - بقوله : أتختارون الذي هو أقل فائدة وأدنى لذة ، وتتركون المن والسلوى وهو خير مما تطلبون لذة وفائدة ؟ انزلوا إلى مصر من الأمصار فإنكم تجدون به ما طلبتموه من البقول وأشباهها .
وأحاطت ببني إسرائيل المهانة والاستكانة كما تحيط القبة بمن ضربت عليه ، وحق عليهم غضب الله .
ثم بين الله - تعالى - السبب في جحودهم للنعم وفي أنه ضرب عليهم الذلة والمسكنة وأنزل عليهم غضبه بقوله :
{ ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } إلخ أي : إن الكفر بآيات الله قد تأصل فيهم ، وقتل أنبيائهم بغير الحق قد تكرر منهم حتى صار كالطبيعة الثانية والسجية الثابتة ، فليس غريباً على هؤلاء أن يقولوا لن نصبر على المن والسلوى وأن ينزل بهم غضب الله ونقمته من أجل جحودهم وكفرهم .
وقوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } تذكير لهم برغبة من رغباتهم الناشئة عن ذوق سقيم . لا يقدر النعمى قدرها ، وفيه انتقال من تعداد النعم عليهم إلى بيان موفقهم الجحودي منها ، وانسياقهم وراء شهواتهم وأهوائهم وحماقاتهم ، وفيه إشعار بسوء أدبهم في مخاطبتهم لنبيهم موسى - عليه السلام - إذ عبروا عن عدم رغبتهم في تناول المن والسلوى بحرف { لَن } المفيد تأكيد النفي فقالوا : { لَن نَّصْبِرَ } . . إلخ فكأنهم يقولن له مهددين ، ليلجئوه إلى دعاء ربه سريعاً : إننا ابتداء من هذا الوقت الذي نخاطبك فيه إلى أن نموت ، لن نحبس أنفسنا عن كراهية على تناول طعام واحد ، لأننا قد سئمناه ومللناه ، ولن نعود إليه : فالتعبير " بلن " يشعر بشدة ضجرهم ، وبلوغ الكراهية لهذا الطعام منهم منتهاها .
قال الحسن البصري - رضي الله عنه - : " بطروا طعم المن والسلوى فلم يصبروا عليه ، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه ، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقل وثوم " .
ووصفوه بالوحدة مع أن المن والسلوى نوعان ، لأنهم أرادوا من الوحدة أنه طعام متكرر في كل يوم لا يختلف بحسب الأوقات ، والعرب تقول لمن يفعل على مائدته في كل يوم من الطعام أنواعاً لا تتغير ، إنه يأكل من طعام واحد .
وسألوا موسى - عليه السلام - أن يدعو لهم ، لأن دعاء الأنبياء أقرب إلى الإجابة من دعاء غيرهم ، وكذلك دعاء الصالحين ، حيث يصدر من قلوب عامرة بتقوى الله وجلاله ، فيلاقى من الإِجابة ما لا يلاقيه دعاء نفوس تستهويها الشهوات ، وتستولي عليها السيئات .
وقولهم : { فادع لَنَا رَبَّكَ } ولم يقولوا ربنا ، لعدم رسوخ الإِيمان في قلوبهم ، ولأنه سبحانه - قد اختصه بما لم يعط مثله من مناجاته وتكميله وإيتائه التوراة .
وقولهم : { يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } هو مضمون ما طلبوه من موسى - عليه السلام - وهو في معنى مقول قول محذوف والتقدير : أي قل لربك يخرج لنا .
وجاء التعبير بالفعل { يُخْرِجْ } مجزوماً - مع أن مقتضى الظاهر أن يقال : " أن يخرج - للإِيماء إلى أنهم واثقون بأنه إن دعا ربه أجابه ، حتى لكأن إخراج ما تنبت الأرض متوقف على مجرد دعاء موسى ربه ، وأنه لو لم يدع لهم ، لكان شحيحاً عليهم بما فيه نفعهم .
والجملة الكريمة : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } من مقول موسى - عليه السلام - لهم ، وفيها توبيخ شديد لهم على سوء اختيارهم ، وضعف عقولهم . لإِيثارهم الأدنى وهو البقل وما عطف عليه ، على ما هور خير منه وهو المن والسلوى .
قال ابن جرير عند تفسيره للآية الكريمة : " أي قال لهم موسى : أتاخذون الذي هو أخس خطراً وقيمة وقدراً من العيش ، بدلا بالذي هو خير منه خطراًٍ وقيمة وقدراً ، وذلك كان استبدالهم ، وأصل الاستبدال : هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك ، ومعنى قوله : { أدنى } أخس وأضع وأصغر قدراً وخطراً ، وأصله من قولهم : هذا رجل دنى بين الدناءة ، وإنه ليدنى في الأمور - بغير همز - إذ كان يتتبع خسيسها . ثم قال : ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى : البقول والقثاء والعدس والبصل والثوم ، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه " .
ثم أضاف موسى - عليه السلام - إلى توبيخهم السابق على بطرهم وجحودهم توبيخاً آخر فقال لهم : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أي إذا كان هذا هو مرغوبكم ، فاتركوا هذا المكان ، وأنزلوا إلى مصر من الأمصار ، لكي تجدوا ما سألتموني إياه من البقل والثوم وأشباههما ، لأن ما اخترتموه لا يوجد في المكان الذي حللتم به ، وإنما يوجد في الأمصار والقرى .
قال ابن كثير : " هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف " .
وقال ابن جرير : " فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين { اهبطوا مِصْراً } وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها ، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين واتفاق قراءة القراء على ذلك . . " اه .
وقال أبو حيان في البحر : " وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان ابن تغلب ( مصر ) بغير تنوين ، وقد وردت كذلك في مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود ، وبعض مصاحف عثمان - رضي الله عنه " اه .
والمعنى على القراءة الأولى : اهبطوا مصر من الأمصار لأنكم في البدو ، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي وإنما يكون في القرى والأمصار ، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش .
والمعنى على القراءة الثانية : اتركوا المكان الذي أنتم فيه ، واهبطوا مصر التي كنتم تسامون فيها سوء العذاب فإنكم تجدون فيها ما تبغونه ، لأنكم قوم لا تقدرون نعمة الحرية ، ولا ترتاحوا للفضائل النفسية ، بل شأنكم - دائماً - أن تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
ومن حجة الذين قالوا إن الله أراد بالمصر في الآية الكريمة ، مصر فرعون ، قوله تعالى في سورة الشعراء { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } وقوله تعالى في سورة الدخان :
{ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } قالوا : فأخبر الله - تعالى - أنه قد ورثهم ذلك ، وجعلها لهم ، فلم يكونوا يرثونها ، ثم لا ينتفعون بها ، ولا يكونون منتفعين إلا بمصر بعضهم إليها .
قال ابن جرير : " ومن حجة من قال إن الله - إنما عني بقوله : { اهبطوا مِصْراً } أي : مصراً من الأمصار دون مصر فرعون بعينها ، أن الله - تعالى - جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر ، وإنما ابتلاهم بالتيه . فامتناعهم عن موسى في حرب الجبابرة ، إذ قال لهم { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } إلى قوله تعالى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } فحرم الله - تعالى - على قائل ذلك - فيما ذكر لنا - دخولها حتى هلكوا في التيه وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة . ثم أهبط ذريتهم الشام ، فأسكنهم الأرض المقدسة ، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع " يوشع بن نون " بعد وفاة موسى بن عمران . فرأينا أن الله - تعالى - قد اخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة ، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها ، فيجوز لنا أن نقرأ { اهبطوا مِصْراً } ونتأوله أنه ردهم إليها . قالوا : فإن احتج محتج بقوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } قيل لهم : فإن الله - تعالى - إنما أورثهم ذلك فملكهم إياها . ولم يردهم إليها وجعل مساكنهم الشام " اه .
قال أبو حيان في البحر : ( ولم يصرح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر ) اه .
ومع أن ابن جرير - رحمه الله - قد رد على من قال ، إن المراد بالمصر مصر فرعون : استناداً إلى قراءة غير الجمهور ، إلا أنه لم يرجح أحد الرأيين فقد قال : ( والذي نقول به في ذلك ، أنه لا دلالة في كتاب الله - تعالى - على الصواب من هذين التأويلين ، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر ، وأهلا لتأويل متنازعون تأويله ، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بينه الله - تعالى - في كتابه وهم في الأرض تائهون فاستجاب الله لموسى دعاءه وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قراراً من الأرض التي تنبت ما سأل لهم من ذلك ، إذا صاروا إليه ، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر ، وجائز أن يكون الشام . . . "
ومن هذا النص الذي نقلناه عن ابن جرير ، نرى أنه لم يقطع برأى في المكان الذي أمر بنو إسرائيل بالهبوط فيه وأنه يرى أن الله - تعالى - قد استجاب لموسى - عليه السلام - دعاءه ، وأن موسى وقومه قد هبطوا - فعلا - إلى قرار من الأرض التي تنبت البقول وأشباهها .
وقد عارض الإِمام ابن كثير في تفسيره رأى ابن جرير فقال :
وهذا الذي قاله - أي ابنُ جرير - فيه نظر ، والحق أن المراد مصر من الأمصار ، كما روى عن ابن عباس وغيره والمعنى على ذلك ، لأن موسى - عليه السلام - يقول لهم : هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز ، بل هو كثير في أي بلد دخلتموها ، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه ، ولهذا قال : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أي ما طلبتم ، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم .
وبذلك يظهر لنا أن ابن كثير - رحمه الله - يرى أن المراد بالمصر مكان غير معين وأن موسى - عليه السلام - لم يسأل ربه إجابة طلبهم لأنهم كانوا متعنتين . بطرين ، والله - تعالى - يكره من كان كذلك ، وأن قول موسى - عليه السلام - لهم " اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم " من باب التوبيخ والتجهيل لهم ، إذ ليس حينئذ بلد قريب يستطيعون الوصول إليه .
هذا ، والذي نرجحه في هذا المقام هو ما ذهب إليه الإِمام ابن كثير لما يأتي :
أولا : أن القراءة بالتنوين متواترة ، وابن جرير نفسه لم يجاوز القراءة بغيرها ، وهذه القراءة المتواترة ، نص في أن المراد من مصر ، أي بلد كان ، لا مصر فرعون ، ثم إذا كان المراد به ذلك فليس لنا أن نقول إنه يصدق على مصر فرعون ، وذلك لأن الأمصار التي تنبت ما طلبوا من البقول والخضر أقرب إليهم من مصر ، فليس من المعقول أن يؤمروا بالذهاب إلى مصر فرعون وهي بعيدة عن مكانهم بعداً شاسعاً ، ويتركوا الأمصار الأقرب إليهم وفيها ما يريدون .
ثانياً : لم ينقل أحد من المؤرخين أنهم رجعوا إلى مصر بعد خروجهم منها كما قال أبو حيان وغيره ، بل الثابت أن بني إسرائيل خرجوا من مصر ، وأمروا بعد خروجهم بدخول الأرض المقدسة لقتال الجبارين ، ولعصيانهم أمر نبيهم وماتوا جميعاً في التيه ، وبقي أبناؤهم فامتثلوا أمر الله - تعالى - وهبطوا إلى الشام . وقاتلوا الجبارين ودخلوا الأرض المقدسة بقيادة يوشع بن نون .
ثالثاً : ليس في الآية ما يشعر بأن موسى - عليه السلام - طلب من ربه أن يجيبهم إلى رغبتهم فكيف نقول بما لم يدل عليه القرآن الكريم ولو من طريق الإِشارة ؟
رأبعاً : دخولهم في التيه كان عقوبة لهم على نكوصهم عن قتال الجبارين ، ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم .
فالتيه والحالة هذه كان بمثابة سجن لهم يعاقبون فيه ، كما يشعر بذلك قوله تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } فكيف يخرج السجين من سجنه تلبية لبعض رغباته المنكرة . وبناء على ذلك يكون الأمر في قول موسى لهم : { اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } للتهديد والتوبيخ والتجهيل .
ثم بين - سبحانه - العقوبات التي حلت بهم جزاء ظلمهم وفجورهم فقال تعالى :
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } :
ضرب الذلة والمسكنة عليهم كنية عن لزومهما لهم ، وإحاطتهما بهم ، كما يحيط السرادق بمن بداخله .
قال صاحب الكشاف : ( جعلت الذلة محيطة بهم ، مشتملة عليهم ، فهم فيها كمن يكون في القبة من ضربت عليهم ، أو ألصقت به حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه ، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة ) .
وأصل الضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم ، بظاهر جسم آخر بشدة ، يقال : ضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق .
والذلة : على وزن فعلة من قول القائل : ذل فلان يذل ذلة وذلة ، والمراد بها الصغار والهوان والحقارة .
والمسكنة ، مفعلة من السكون ، ومنها أخذ لفظ المسكين ، لأن الهم قد أثقلة فجعله قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفاقه والفقر ، والمراد بها في الآية : الضعف النفسي ، والفقر القلبي الذي يستولي على الشخص ، فيجعله يحس بالهوان ، مهما يكن لديه من أسباب القوة .
والفرق بينها وبين الذلة . أن الذلة هوان تجيء أسبابه من الخارج ، كأن يغلب المرء على أمره نتيجة انتصار عدوه عليه فيذل لهذا العدو .
أما المسكنة فهي هوان ينشأ من داخل النفس نتيجة بعدها عن الحق واستيلاء المطامع والشهوات عليها ، وتوارث الذلة قروناً طويلة يورث هذه المسكنة ، ويجعلها كالطبيعة الثابتة في الشخص المستذل . ولقد عاش اليهود قروناً وأحقاباً مستعبدين لمختلف الأمم ، فأكسبهم هذا الاستعباد ضعفاً نفسياً جعلهم لا يفرقون بين الحياة الذليلة والكريمة ، بل إنهم ليفضلوا الأولى على الثانية ما دامت تجلب لهم غرضاً من أغراض الدنيا ، ومهما كثر المال في أيديهم ، فإنهم لا يتحولون عن فقرهم النفسي وظهورهم أمام الناس بمظهر البائس الفقير .
وقوله تعالى : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } بيان لسوء عاقبتهم في الآخرة ومبالغة في إهانتهم وتحقيرهم ، فهم في الدنيا أذلاء حقراء ، وفي الآخرة سيرجعون بغضب من الله بسبب أفعالهم القبيحة .
قال ابن جرير - رحمه الله - يعني بقوله تعالى { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } : انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال باءوا إلا موصولا إما بخير وإما بشر يقال منه باء فلان بذنبه يبوء بوأ وبواء ، ومنه قوله تعالى :
{ إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يعني تنصرف متحملهما ، وترجع بهما قد صارا عليك دوني ، فمعنى الكلام إذا . ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله ، قد صار عليهم من الله غضب ، ووجب عليهم منه سخط .
وقال صاحب الكشاف : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } من قولك باء فلان بفلان ، إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه .
ثم صرح - سبحانه - بعد ذلك بسبب ما أحاط بهم من الذلة والمسكنة واستحقاقهم غضب الله وسخطه ، فقال تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } . والجملة الكريمة استئناف بيان جواب عن سؤال تقديره : لم فعل بهم كل ذلك ؟ فكان الجواب ، فعلنا بهم بسبب جحودهم لآيات الله ، وبسبب قتلهم لأنبيائه ، وخروجهم عن طاعته ؛ ومجاوزتهم حدودهم والآيات تطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على وحدانية الله تعالى وربوبيته ، وتطلق ويراد بها النصوص التي تشتمل عليها الكتب السماوية ، وتطلق ويراد بها الأدلة الشاهدة على صدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يبلغون عن الله - تعالى - وهي التي يسميها علماء التوحيد المعجزات ، وقد كفر اليهود بكل هذه الضروب من الآيات ، ومردوا على ذلك كما يفيده التعبير بالفعل المضارع { يَكْفُرُونَ } .
وقوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } أي ويقتلون أنبياء الله الذين بعثهم مبشرين ومنذرين ، ولقد قتل اليهود - فيمن قتلوا من الأنبياء - زكريا وابنه يحيى - عليهما السلام - لأنهما أبيا الانقياد وراء شهواتهم وأهوائهم .
وقال - سبحانه - { بِغَيْرِ الحق } مع أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبداً ، لإِفادة أن قتلهم لهم كان بغير وجه معتبر في شريعتهم لأنها تحرمه ، { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } فهذا القيد المقصود به الاحتجاج عليهم بأصول دينهم وتخليد مذمتهم ، وتقبيح إجرامهم ، حيث إنهم قتلوا أنبياءهم بدون خطأ في الفهم ، أو تأول في الحكم ، أو شبهة في الأمر ، وإنما فعلوا ما فعلوا وهم عالمون بقبح ما ارتكبوا ، وخالفوا شرع الله عن تعمد وإصرار .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق فما فائدة ذكره ؟
قلت : معناه أنهم قتلوهم بغيرا لحق عندهم ، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا ، وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم ، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقون به للقتل عندهم " .
وقال الإِمام الرازي : " فإن قيل : قال هنا { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } وقال في آل عمران { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } فما الفرق ؟ قلت . إن الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل يتجلى في حديث : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : " كفر بعد إيمان ، وزناً بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق " فالحق المذكور هنا بحرف التعريف إشارة إلى هذا وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك أي حق يستندون إليه ، لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره البتة " .
ثم قال تعالى : { ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
العصيان : الخروج عن طاعة الله . والاعتداء : تجاوز الحد الذي حده الله - تعالى - لعباده إلى غيره وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه . وللمفسرين في مرجع الإِشارة " ذلك " رأيان :
أحدهما : أنه يعود إلى كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ، وعليه يكون المعنى :
إن هؤلاء اليهود قد مروا على عصيانهم لخالقهم ، وتعديهم حدوده بجرأة وعدم مبالاة فنشأ عن هذا التمرد والطغيان أن كفروا بآيات الله - تعالى - وامتدت أيديهم الأثيمة إلى قتل الأنبياء بقلوب كالحجارة أو أشد قسوة .
والجملة الكريمة على هذا الرأي تفيد أن التردي في المعاصي وارتكاب المناهي ، وتجاوز الحدود المشروعة ، يؤدي إلى الانتقال من غصير الذنوب إلى كبيرها ، ومن حقيرها إلى عظيمها ، لأن هؤلاء اليهود لما استمروا المعاصي وداوموا على تعدي الحدود ، هانت على نفوسهم الفضائل ، وانكسرت أمام شهواتهم كل المثل العليا ، فكذبوا بآيات الله تكذيباً وقتلوا من جاءهم بالهدى ودين الحق .
والثاني : يرى أصحابه أن اسم الإشارة الثاني يعود إلى نفس المشار إليه باسم الإِشارة الأول ، وتكون الحكمة في تكرار الإِشارة هو تمييز المشار إليه حرصاً على معرفته ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة عليهم ، واستحقاقهم لغضب الله - تعالى - كما بينا ، والإِشارة حينئذ من قبيل التكرير المغنى عن العطف كما في قوله تعالى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } والمعنى أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة ، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا . وقتلهم أنبياءنا ، وخروجهم عن طاعتنا وتعديهم لحدودنا .
وعلى هذا الرأي يكون ذكر أسباب العقوبة التي حلت بهم في الدرجة العليا من حسن الترتيب ، فقد بدأ - سبحانه - بما فعلوه في حقه وهو كفرهم بآياته ، ثم ثنى بما يتلوه في العظم وهو قتلهم لأنبيائهم ، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء ، وتخطى الحدود ، وعدم المبالاة بالعهود ، وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم في سوق الأحكام ، مشفوعة بعللها وأسبابها .
وبهذا تكون الآية الكريمة قد وصفت بني إسرائيل بجحود النعم ، وسوء الأدب وحمق التفكير ، وهوان النفس ، وبلادة الطبع ، وبطر الحق ، والبغي على أنفسهم وعلى غيرهم ، وما وصفتهم به أيدته الأيام وصدقته الأحداث في كل زمان ومكان .