غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (284)

284

التفسير : إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول وهي دلائل التوحيد والنبوة والمعاد وأشياء كثيرة من بيان الشرائع والتكاليف كالصلاة والزكاة والقصاص والصوم والحج والجهاد والحيض والطلاق والعدة والصداق والخلع والإيلاء والإرضاع والبيع والربا والمداينة ، ختم السورة بكلام دل على كماله ملكه وهو قوله : { لله ما في السماوات وما في الأرض } وعلى كمال علمه وهو قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } وعلى كمال قدرته وهو قوله { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } وفي ذلك غاية الوعد للمطيعين ونهاية الوعيد للمذنبين . وعن أبي مسلم أنه لما قال : والله بما تعملون عليم . ذكر عليه دليلاً عقلياً فإن من كان فاعلاً لهذه الأفعال المحكمة المتقنة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع الفاخرة لا بد أن يكون محيطاً بأجزائها وجزئياتها . وقيل : لما أمر بالوثائق من الكتبة والأشهاد والرهن ، ذكر ما علم منه أن المقصود يرجع إلى الخلق وأنه منزه على الانتفاع به . وقال الشعبي وعكرمة ومجاهد : إنه لما أوعد على كتمان الشهادة ذكر أن له ما في السماوات وما في الأرض فيجازي على الكتمان والإظهار . عن ابن عباس وأبي هريرة واللفظ له : " لما نزل { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله ، كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والصدقة . وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير "

فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله عزّ وجل : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال : نعم { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } قال : نعم ، { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال نعم { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } قال نعم .

واعلم أن العلماء اتفقوا على أن الأمور التي تخطر بالبال مما يكرهها الإنسان ولا يمكنه إزالتها عن النفس ، لا يؤاخذ بها لأنها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق ، وأما الخواطر التي يوطن الإنسان نفسه عليها ويعزم على إدخالها في الوجود فقد قيل : إنه يؤاخذ بها لقوله تعالى :{ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }

[ البقرة : 225 ] وكما يؤاخذ باعتقاد الكفر والبدع وأنه من أفعال القلوب ، ثم قال بعضهم : إنما يؤاخذ بها الدنيا لما روى الضحاك عن عائشة أنها قالت : ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه . نعم يبتليه في الدنيا أو حزن أو أذى ، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب . وروت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه . وقيل : إن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل فإنه في محل العفو لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال بعد نزول قوله { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } " إن الله تجاوز لأمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا " وقيل : معنى قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } أن يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهراً وإما على سبيل الخفية ، وعلى هذا فلا حاجة إلى التزام النسخ . وكذا لو قيل : إن معنى كونه حسيباً ومحاسباً كونه عالماً بما في الضمائر والسرائر فيغفر لمن يشاء وإن كان من أصحاب الكبائر لعموم اللفظ . وعند المعتزلة لمن استوجب المغفرة بالتوبة وهو تخصيص من غير دليل { ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } مستولِ على كل الممكنات بالقهر والغلبة والإيجاد والإعدام .

/خ286