التفسير : الحكم الثالث المداينة . وسبب النظم أن الحكمي المتقدمين وهما الإنفاق وترك الربا كانا سببين لنقصان المال ، فأرشد الله تعالى في هذه الآية بكمال رأفته إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن التلف والبوار ورعاية وجوه الاحتياط ، فإن مصالح المعاش والمعاد متوقفة على ذلك ، ولهذه الدقيقة بالغ في الوصاية وأطنب . عن ابن عباس أن المراد به السلم وقال : لما حرم الربا أباح السلم وأنزل فيه أطول آية . ولهذا قال بعض العلماء : لا لذة ولا منفعة يتوصل إليها بالطريق الحرام إلا وجعل الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثلها طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً . والتداين تفاعل من الدين . يقال : داينت الرجل إذا عاملته بدين معطياً أو آخذاً . والمراد إذا تعاملتم بما فيه دين . وذلك أن البياعات على أربعة أوجه : أحدها بيع العين بالعين وذلك ليس بمداينة البتة . والثاني بيع الدين بالدين وهو باطل فيبقى ههنا بيعان : بيع العين بالدين وهو ما إذا باع شيئاً بثمن مؤجل ، وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم وكلاهم داخلان تحت الآية . وأما القرض فلا يدخل فيه وإنه غير الدين لغة فإن الدين يجوز فيه الأجل ، والقرض لا يجوز فيه الأجل . والفائدة في قوله : { بدين } تخليصه من التداين بمعنى المجازاة ، أو التأكيد مثل{ ولا طائر يطير بجناحيه }[ الأنعام : 38 ] أو ليشمل أي دين كان صغيراً أو كبيراً سلماً أو غيره . وفي الكشاف : فائدته رجوع الضمير إليه في قوله : { فاكتبوه } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن . ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال فإنه كالمطابقة ، ودلالة تداينتم على ذلك كالتضمن . وقيل : ليكون المعنى تدايناً يحصل فيه دين واحد فيخرج بيع الدين بالدين .
وإنما لم يقل كلما تداينتم ليكون نصاً في العموم لأن الكلية تفهم من بيان العلة في قوله : { ذلكم أقسط عند الله } فإن العلة قائمة في الكل فيكون الحكم حاصلاً في الكل ، أو نقول : العلة هي التداين والعلة لا ينفك عنها معلولها فتكون القضية كلية كما في قوله :{ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا }[ المائدة : 6 ] والأجل مدة الشيء ومنه أجل الإنسان لمدة عمره . وفائدة قوله { مسمى } أن يعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام . وأنه لو قال إلى الحصاد أو إلى قدوم الحاج لم يجز لعدم التسمية . ثم إنه تعالى أمر في المداينة بشيئين : الكتبة والاستشهاد ليكون كلا المتداينين أوثق وآمن من النسيان والتفاوت والتخالف في مقدار الدين وفي انقضاء الأجل وفي سائر ما تشارطا عليه . وهذا الأمر قيل للوجوب وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي ، وجمهور المجتهدين على أنه للندب لإجماع المسلمين قديماً وحديثاً على البيع بالأثمان المؤجلة من غير كتبة ولا إشهاد ، ولأن في إيجابهما حرجاً وتضييقاً . وقيل : كانا واجبين فنسخا بقوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته } وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم بن عتيبة . أما المخاطب بقوله : { فاكتبوه } فليس كل أحد لوجود أميين كثيرين في الدنيا ، بل من له استئهال لكتبه ولهذا قال : { وليكتب بينكم كاتب } وليس ذلك أيضاً على الإطلاق ولكنه يجب أن يكون الكاتب متصفاً بالعدل فيكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص عنه ولا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر ، ويحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد منها . وهذا بالحقيقة أمر للمتداينين بتخير الكاتب وأن لا يستكتبوا إلا فقيهاً أديباً ديناً . قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين المجتهدين ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله { ولا يأب كاتب } ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى التنكير في كاتب { أن يكتب } وقوله { كما علمه الله } إما أن يكون متعلقاً بما قبله فالتقدير : ولا يأب كاتب أن يكتب مثل ما علمه الله تعالى فيقع قوله بعد ذلك { فليكتب } تأكيداً للأول أي فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله تعالى إياها أو بما بعده فيكون الأول نهياً عن الامتناع مطلقاً ، والثاني أمراً بالكتابة المقيدة والمطلق لا دلالة له على المقيد ، فلا يكون الثاني تأكيداً للأول وإنما يكون بياناً له . ثم النهي عن الامتناع عن الكتابة لكل كاتب إنما هو على سبيل الإرشاد والأولى تحصيلاً لحاجة المسلم وشكراً لما علمه الله من كتابة الوثائق فهو كقوله :
{ وأحسن كما أحسن الله إليك }[ القصص : 77 ] وقيل : إنه على سبيل الإيجاب ولكنه نسخ بقوله { ولا يضار كاتب ولا شهيد } . وعن الشعبي أنه فرض كفاية فإن لم يجد إلا كاتباً واحداً وجبت الكتابة عليه ، وإن وجد أشخاصاً فالواجب كتابة أحدهم .
وقيل : متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله يعني أنه بتقدير أن يكتب ، فالواجب أن يكتب كما علمه الله وأن لا يخل بشرط من الشروط كيلا يضيع مال المسلم بإهماله . واعلم أن الكتابة بعد حصول الكاتب العارف بشروط الصكوك والسجلات لا تتم إلا بإملاء من عليه الحق ليدخل في جملة إملائه اعترافه بمقدار الحق وصفته وأجله إلى غير ذلك ، فلهذا قال سبحانه { وليملل الذي عليه الحق } والإملال والإملاء لغتان : قال الفراء : أمللت عليه الكتاب لغة الحجاز وبني أسد ، وأمليت لغة بني تميم وقيس ، وقد نطق القرآن بهما . قال :
{ فهي تملى عليه بكرة وأصيلا }[ الفرقان : 5 ] .
{ وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً } أمر أن لهذا المملي الذي عليه الحق بأن يقر بتمام المال الذي عليه ولا ينقص منه شيئاً . والبخس النقص { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } محجوراً عليه لتبذيره وجهله بالتصرف وضعف عقله { أو ضعيفاً } صبياً أو شيخاً مختلاً { أو لا يستطيع أن يمل هو } أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعيّ به أو خرس { فليملل وليه بالعدل } والمراد بولي الذي عليه الحق الذي يلي أمره ويقوم بمصالحه من وصي إن كان سفيهاً أو صبياً ، أو وكيل إن كان غير مستطيع ، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه . وفائدة توكيد المتصل بالمنفصل في قوله : { أن يمل هو } أنه غير مستطيع بنفسه ولكن بغيره وهو الذي يترجم عنه . وعن ابن عباس ومقاتل والربيع أن الضمير في { وليه } عائد إلى الدين أي الذي له الدين ليمل . قيل : وفيه بعد لأن قول المدعي كيف يقبل ؟ ولو كان قوله معتبراً فأي حاجة إلى الكتابة والإشهاد ؟ ثم المقصود من الكتابة هو الاستشهاد ليتمكن بالشهود من التوصل إلى تحصيل الحق إن جحد فلهذا قال تعالى : { واستشهدوا } أي أشهدوا . والإشهاد والاستشهاد بمعنى ، لأن معنى استشهدته سألته أن يشهد شهيدين أي شاهدين " فعيل " بمعنى " فاعل " . وإطلاق الشهيد على من سيكون شهيداً تنزيل لما يشارف منزلة الكائن . ومعنى قوله { من رجالكم } أي من رجال أهل ملتكم وهم المسلمون . وقيل يعني الأحرار ، وقيل من رجالكم الذين تعدّونهم للشهادة من أهل العدالة { فإن لم يكونا } أي الشهيدان رجلين { فرجل وامرأتان } أي فليكن أو فليشهد أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يشهدون جميع هذه التقديرات جائز حسن ذكره علي بن عيسى { ممن ترضون من الشهداء } وفيه دليل على أنه ليس كل أحد صالحاً للشهادة . والفقهاء قالوا شرائط قبول الشهادة أن يكون حراً بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً عالماً بما يشهد به لا يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع مضرة عنها ، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط ولا بترك المروءة ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة .
وعن علي عليه السلام : ولا يجوز شهادة العبد في شيء وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وذلك لأنه تعالى قال { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } والإجماع منعقد على أن العبد لا يجب عليه الذهاب بل يحرم عليه ذلك إذا لم يأذن له السيد ، فيعلم منه أن العبد لا يجوز أن يكون شاهداً . وعند شريح وابن سيرين وأحمد : تجوز شهادة العبد قالوا : لأن العقل والعدالة والدين لا يختلف بالحرية والرق . وعند أبي حنيفة يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض على اختلاف الملل { أن تضل } أن لا تهتدي إحداهما للشهادة بأن تنساها لغلبة البرد والرطوبة على أمزجتهن أو إحدى النفسين ، فإن الإنسان لا يخلو من النسيان { فتذكر إحداهما الأخرى } وانتصابه على أنه مفعول له أي إرادة أن تضل . قال في الكشاف : فإن قلت : كيف يكون ضلالها مراداً لله ؟ قلت : لما كان الضلال سبباً للإذكار والإذكار مسبباً عنه وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما ، كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار ، فكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ونظيره قولهم " أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه " . وفي التفسير الكبير أن ههنا غرضين : أحدهما حصول الإشهاد وذلك لا يتأتى إلا بتذكير إحدى المرأتين . والثاني بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية وذلك لا يتأتّى إلا بضلال إحدى المرأتين ، فلهذا صار كل من الغرضين صحيحاً ولا محذور . ومن قرأ بكسر " إن " على الشرط والجزاء فلا إشكال . وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال { فتذكر إحداهما } معناه فتجعل إحداهما الأخرى ذكراً يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر ولا يخفى ما فيه من التعسف . واعلم أن الشهادة خبر قاطع ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " على مثل الشمس فاشهد أو فدع " وقد يقام الظن المؤكد فيه مقام اليقين ضرورة . وقول الشاهد الواحد لا يكفي للحكم به إلا في هلال رمضان كما مر ، ولا يحتاج إلى أزيد من اثنين إلا في الزنا لقوله تعالى :{ ثم لم يأتوا بأربعة شهداء }[ النور : 4 ] وقال :{ فاستشهدوا عليهن أربعة منكم }[ النساء : 15 ] ولا يعتبر فيه شهادة النساء . عن الزهري أنه قال مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود وغير هلال رمضان والزنا إما عقوبة أو غيرها . فإن كان عقوبة فلا يثبت إلا برجلين لما مر من حديث الزهري يستوي فيه حق الله تعالى كحد الشرب وقطع الطريق ، وحق العباد كالقصاص والقذف ، وأما غير العقوبات فما ليس بمالي .
ولا يقصد به المال إن كان مما يطلع عليه الرجال غالباً كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والإسلام والردة والبلوغ والولاء وانقضاء العدة وجرح الشهود وتعديلهم والعفو عن القصاص ، فكل ذلك لا يثبت إلا برجلين أيضاً . وإن كان ممن يختص بمعرفته النساء غالباً فتقبل فيه شهادتهن على انفرادهن لما روي عن الزهري أنه قال : مضت السنة أن تجوز شهادة النساء في كل شيء لا يليه غيرهن وذلك كالولادة والبكارة والثيابة والرتق والقرن والحيض والرضاع وعيب المرأة من برص وغيره تحت الإزار ، ولا يثبت شيء من ذلك بأقل من أربع نسوة تنزيلاً لاثنتين منهن منزلة رجل . وما يثبت بهن يثبت برجل وامرأتين وبرجلين بالطريق الأولى . وأما ما هو مال أو يقصد به المال كالأعيان والديون والعقود المالية من البيع والإقالة والرد بالعيب والإجارة والوصية بالمال والحوالة والضمان والصلح والقرض ، فيثبت بشهادة رجل وامرأتين ثبوتها بشهادة رجلين ونص القرآن منزل على هذا القسم والذي قبله . وجوز الشافعي القضاء بالشاهد واليمين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين وأنكره أبو حنيفة { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } " ما " زائدة مبهمة أي إذا دعوا فقيل : أي إلى أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها . وقيل : إلى تحمل الشهادة وهو قول قتادة واختاره القفال قال : كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة ، أمر الشاهد أن لا يأبى تحمل الشهادة وقيل : أمر بالتحمل إذا لم يوجد غيره . وحمله الزجاج على مجموع الأمرين : التحمل أولاً والأداء ثانياً . والقول الأول أصح لأنه أطلق عليهم لفظ الشهداء . والأصل في الإطلاق الحقيقة وتسميتهم قبل التحمل شهداء مجاز لا يعدل إليه إلا لضرورة . وأيضاً التحمل غير واجب على الكل بخلاف الأداء بعد التحمل . وأيضاً الأمر بالإشهاد يتضمن الأمر بتحمل الشهادة ، فكان صرف قوله { ولا يأب الشهداء } إلى الأمر بالأداء أولى ليفيد فائدة جديدة وهي أن الشاهد إن كان متعيناً وجب عليه أداء الشهادة ، وإن كان فيهم كثرة كان الأداء فرضاً على الكفاية . { ولا تسأموا } لا تضجروا ولا تملوا أن تكتبوه أي الدين أو الحق لتقدم ذكرهما على أي حال كان الحق صغيراً أو كبيراً مما جرت العادة بكتبته لا كالحبة والقيراط ، فإن القليل من المال ربما أفضى إلى نزاع كثير . وإنما نهى عن السآمة لأنها من الكسل والكسل صفة المنافق . وأيضا من كثرت مدايناته فاحتاج أن يكتب لكل دين صغير أو كبير كتاباً فربما مل كثرة الكتب فاقتضى المقام ترغيبه وإلهابه . ويجوز أن يكون الضمير للكتاب ، وأن تكتبوه مختصراً أو مشبعاً ، ولا يخلوا بكتابته إلى أجله إلى وقته الذي اتفقا على تسميته { ذلكم } الكتب أو ذلكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد { أقسط } أعدل { عند الله وأقوم للشهادة } أعون على إقامة الشهادة وهما إما من أقسط وأقام فيكون محمولاً على قولهم " أفلس من ابن المذلق " وإما من قويم وقاسط بمعنى ذو قسط على طريقة النسب وإلا فالقاسط الجائر .
ولا يصح ذلك المعنى ههنا يقال : قسط إذا جار ، وأقسط أي عدل { وأدنى ألا ترتابوا } أقرب من انتفاء الريب . رتب الله تعالى على الكتبة والإشهاد ثلاث فوائد :
الأولى : تتعلق بالدين لأنه إذا كان مكتوباً كان إلى اليقين أقرب وعن الجهل أبعد فيكون أعدل عند الله . والثانية تتعلق بالدنيا وهو كونه أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج وأعون للحفظ والذكر .
والثالثة أنه يدفع الضرر عن نفسه بأن لا يضل في أمره ولا يتردد ، وعن غيره بأن لا ينسبه إلى الكذب والخيانة فلا يقع في الغيبة والجهالة . فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في الضبط والترتيب { إلا أن تكون تجارة حاضرة } قيل : هو راجع إلى قوله { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } إن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب وقد يكون إلى أجل بعيد ، فاستثنى عن المداينة ما يكون أجله قريباً . ويحتمل أن يكون استثناء من قوله : { ولا تسأموا أن تكتبوه } وقد يقال : إنه استثناء منقطع والتقدير : لكنه إذا كانت التجارة حاضرة فليس عليكم جناح . فيكون كلاماً مستأنفاً على سبيل الإضراب عن الأول . والتجارة تصرف في المال لطلب الربح . فسواء كانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة حاضرة . فإذاً المراد بالتجارة ههنا ما يتجر فيه من الأبدال . ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يداً بيد . والمعنى إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد . ومن قرأ { تجارة } بالرفع فعلى " كان " التامة أو الناقصة والخبر { تديرونها } ومن قرأ بالنصب فالتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب .
بني أسد هل تعلمون بلاءنا*** إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا
أي إذا كان اليوم يوماً . واليوم الأشنع هو الذي ارتفع شره وعلا . وذو كواكب أي شديد . ويقال في التهديد : لأرينك الكواكب ظهراً . وقال الزجاج : تقديره إلا أن تكون المداينة تجارة أي يكون ديناً قريب الأجل . { فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } ومعنى رفع الجناح عدم الضرر لا عدم الإثم إلا لزم أن تكون الكتابة المذكورة أولاً واجبة ، وقد أثبتنا خلاف ذلك . وإنما رخص تعالى في هذا النوع من التجارة لكثرة جريانها فيما بين الناس . فتكليفهم الكتابة والإشهاد في كل لحظة حرج عليهم مع أن خوف التجاحد في مثله قليل . { وأشهدوا إذا تبايعتم } هذا التبايع كأنه لما رفع عنهم الكتابة في التجارة الحاضرة ، كرر الأمر بالإشهاد ليعلم أن حكمه باق فيها لأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته . ويحتمل أن يكون أمراً بالإشهاد مطلقاً ناجزاً كان التبايع أو كالئاً لأنه أحوط .
عن الحسن : إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد . وعن الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل . { ولا يضار كاتب ولا شهيد } يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل فيكون أصله لا يضارر بكسر الراء وبه قرأ عمر وعليه أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة ومعناه : نهى الكاتب أن يزيد أو ينقص والشاهدين أن يحرفا أو يتركا الإجابة إلى ما يطلب منهما ولهذا قال : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } فإن التحريف في الكتابة والشهادة فسق وإثم . وعن ابن مسعود وعطاء ومجاهد أن التقدير لا يضارر بفتح الراء وبه قرأ ابن عباس ، وأنه نهي للمتداينين عن الضرار بالكاتب والشهيد كأن يعجلا عن مهم ويلزا ، أولا يعطى الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد . { وإن تفعلوا } ما نهيتكم عنه من الضرار أو كل ما نهيتكم عنه من فعل معصية أو ترك طاعة ليكون عاماً { فإنه } فإن الضرار أو ارتكاب المنهي { فسوق بكم } خروج عن أمر الله وطاعته . ومعنى { بكم } أي ملتصق بكم . { واتقوا الله } في أوامره ونواهيه { ويعلمكم الله } ما فيه صلاح الدارين { والله بكل شيء } من مصالح عباد { عليم } .