غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُواْ بِٱلۡأَزۡلَٰمِۚ ذَٰلِكُمۡ فِسۡقٌۗ ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (3)

1

ثم شرع في تفصيل الاستثناء الموعود تلاوته في قوله : { إلاّ ما يتلى عليكم } فقال : { حرمت عليكم الميتة } الآية . والمجموع المستثنى أحد عشر نوعاً : الأول الميتة كانوا يقولون إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله . قالت العقلاء : الحكمة في تحريم الميتة أن الدم جوهر لطيف فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن فيحصل من أكله مضار كثيرة . الثاني الدم كانوا يأكلون الفصيد وهو دم كان يجعل في معىً من فصد عرق ثم يشوى فيطعمه الضيف في الأزمة ومنه المثل : " لم يحرم من فصد له " أي فصد له البعير وربما يقال : " من فزد له " الثالث لحم الخنزير . قالت العلماء : الغذاء يصير جزءاً من جوهر المغتذي ولا بد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلاً في الغذاء ، والخنزير مطبوع على الحرص والشره فحرم أكله لئلا يتكيف الإنسان بكيفيته . وأما الغنم فإنها في غاية السلامة وكأنها عارية عن جميع الأخلاق فلا تتغير من أكلها أحوال الإنسان . والرابع : { ما أهل لغير الله به } والإهلاك رفع الصوت وكانوا يقولون عند الذبح باسم اللات والعزى وقد مر في سورة البقرة سائر ما يتعلق بهذه الأنواع الأربعة فليرجع إليها . الخامس المنخنقة كانوا في الجاهلية يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها . وقد تنخنق بحبل الصائد وقد يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتنخنق فتموت ، وبالجملة فبأي وجه انخنقت فهي حرام . السادس الموقوذة وهي المقتولة بالخشب . وقذها إذا ضربها حتى ماتت ومنها ما رمي بالبندق فمات .

السابع المتردية التي تقع في الردى وهو الهلاك ، وتردى إذا وقع في بئر أو سقط من موضع مرتفع ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أن زهوق روحه بالتردي أو بالسهم . الثامن النطيحة التي نطحتها أخرى فماتت بسببه ، ولا يخفى أن هذه الأقسام الأربعة داخلة في الميتة دخول الخاص في العام فأفردت بالذكر لمزيد البيان . والهاء في المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة لأنها صفات الشاة بناء على أغلب ما يأكله الناس وإلاّ فالحكم عام . وإنما أنث النطيحة مع أن " فعيلا " بمعنى " مفعول " لا يدخله الهاء كقولهم : كف خضيب ، ولحية دهين ، وعين كحيل ، لأن الموصوف غير مذكور . تقول : مررت بامرأة قتيل فلان فإذا حذفت الموصوف قلت : بقتيلة فلان لئلاّ يقع الاشتباه . التاسع ما أكل السبع وهو اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان ويفترس الحيوان كالأسد وما دونه . قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئاً فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي فحرمه الله وفي الآية حذف التقدير : وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفد ولا حكم له وإنما الحكم للباقي . قوله : { إلاّ ما ذكيتم } الذكاء في اللغة تمام الشيء ومنه الذكاء في الفهم وفي السن التمام فيها ، والمذاكي الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان ، وتذكية النار رفعها وقوّة اشتعالها ، والتذكية كمال الذبح . أما المستثنى منه فعن علي وابن عباس والحسن وقتادة أنه جميع ما تقدم من قوله : { والمنخنقة } إلى قوله : { وما أكل السبع } والمعنى أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عيناً تطرف أو ذنباً يتحرك أو رجلاً تركض فاذبح فهو حلال لأن ذلك ذلك دليل الحياة المستقرة . وقيل : إنه مختص بقوله : { وما أكل السبع } . وقيل : إنه استثناء منقطع من المحرمات كأنه قيل : لكن ما ذكيتم من غير هذا فهو حلال ، أو من التحريم أي حرم عليكم ما مضى إلاّ ما ذكيتم فإنه لكم حلال . العاشر ما ذبح على النصب وهو مفرد وجمعه أنصاب كطنب وأطناب وهو كل ما نصب فعبد من دون الله قاله الجوهري . وضعف بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله : { وما أهل لغير الله به } وقال ابن جريج : النصب ليست بأصنام فإن الأصنام أحجار مصوّرة منقوشة ، وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للأصنام وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويشرحون اللحوم عليها ، فالمراد ما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب ، ويحتمل أن يكون الذبح للأصنام واقعاً عليها . وقيل : النصب جمع إما لنصاب كحمر وحمار أو لنصب كسقف وسقف . الحادي عشر ما أبدعه أهل الجاهلية وإن لم يكن من جملة المطاعم أي حرم عليكم بأن تستقسموا بالأزلام ، وإنما ذكر مع الذبح على النصب لأنهم كانوا يفعلون كلاً منهما عند البيت ؛ كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً آخر من معاظم الأمور ضرب القداح وكانوا قد كتبوا على بعضها : " أمرني ربي " وعلى بعضها : " نهاني ربي " وتركوا بعضها غفلاً أي خالياً عن الكتابة .

فإن خرج الأمر أقدم على الفعل وإن خرج النهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد العمل . فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح . وقال كثير من أهل اللغة : الاستقسام ههنا هو الميسر المنهي عنه . والأزلام قداح الميسر والتركيب يدور على التسوية والإجادة . يقال : ما أحسن مازلم سهمه أي سوّاه ورجل مزلم إذا كان مخفف الهيئة وامرأة مزلمة إذا لم تكن طويلة { ذلكم فسق } إشارة إلى جميع ما تقدم من المحرمات أي تناولها فسق ، ويحتمل أن يرجع إلى الاستقسام بالإزلام فقط . وكونه فسقاً بمعنى الميسر ظاهر ، وأما بمعنى طلب الخير والشر فوجهه أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم ويعتقدون أن ما خرج من الأمر أو النهي هو إرشاد الأصنام وإعانتها فلذلك كان فسقاً وكفراً . وقال الواحدي : إنما حرم لأنه طلب معرفة الغيب وأنه تعالى مختص بمعرفته ، وضعف بأن طلب الظن بالأمارات المتعارفة غير منهي كالتعبير والفأل وكما يدعيه أصحاب الكرامات والفراسات .

ثم إنه سبحانه حرض على التمسك بما شرع فقال : { اليوم يئس } قيل : ليس المراد يوماً بعينه وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية كقولك : كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم شيخ . وقيل : المراد يوم معين وذلك أنها نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته العضباء . وعن ابن عباس أنه قرأ الآية ومعه يهودي فقال اليهودي : لو نزلت علينا في يوم لاتخذناه عيداً . فقال ابن عباس : إنها نزلت في عيدين اتفقا في يوم واحد في يوم جمعة وافق يوم عرفة أي يئسوا من أن يحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله تعالى محرمة أو يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم لأنه حقق وعده بإظهار هذا الدين على سائر الأديان { فلا تخشوهم واخشون } أخلصوا إلى الخشية . قيل : في الآية دليل على أن التقية جائزة عند الخوف لأنه علل إظهار هذه الشرائع بزوال الخوف من الكفار . { اليوم أكملت لكم دينكم } سئل ههنا إنه يلزم منه أن الدين كان ناقصاً قبل ذلك ، وكيف يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مواظباً على الدين الناقص أكثر عمره ؟ وأجيب بأنه كقول الملك إذا استولى على عدوه : اليوم كمل ملكنا . وزيف بأنّ السؤال بعد باقٍ لأنّ ملك ذلك الملك لا بد أن يكون قبل قهر العدوّ ناقصاً .

وقيل : المراد إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعليم الحلال والحرام وقوانين القياس وأصول الاجتهاد ، وضعف بأنه يلزم أن لا يكمل لهم قبل ذلك اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز . والمختار في الجواب أن الدين كان أبداً كاملاً بمعنى أنّ الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت - ناسخة أو منسوخة أو مجملة أو مبينة أو غير ذلك - كافية بحسب ذلك الوقت وفي آخر زمان البعثة حكم ببقاء الأحكام على حالها من غير نسخ وزيادة ونقص إلى يوم القيامة . قال نفاة القياس : إكمال الدين أن يكون حكم كل واقعة منصوصاً عليه فلا فائدة في القياس . وأجيب بأن إكماله هو جعل النصوص بحيث يمكن استنباط أحكام نظائرها منها . قالوا : تمكين كل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه لا يكون إكمالاً للدين وإنما يكون إلقاء للناس في ورطة الظنون والأوهام . وأجيب بأنه إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان كل مجتهد قاطعاً بأنه عامل بحكم الله . روي أنه لما نزلت الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فرح الصحابة وأظهروا السرور إلاّ أكابرهم كأبي بكر الصدّيق وغيره فإنهم حزنوا وقالوا : ليس بعد الكمال إلاّ الزوال . وكان كما ظنوا فإنه لم يعمر بعدها إلاّ أحداَ وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا نقص . قال العلماء : كان ذلك جارياً مجرى إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن قرب وفاته وذلك إخبار بالغيب فيكون معجزاً . واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الدين - سواء قيل إنه العمل أو المعرفة أو مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل - لا يحصل إلاّ بخلق الله وإيجاده فإنه لن يكون إكمال الدين منه إلاّ وأصله منه . والمعتزلة حملوا ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار الشرائع . ثم قال : { وأتممت عليكم نعمتي } أي بذلك الإكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام ، أو نعمتي بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين { ورضيت } أي اخترت { لكم الإسلام ديناً } نصب على الحال أو مفعول ثان إن ضمن رضيت معنى صيرت . واعلم أن قوله : { ذلكم فسق } إلى ههنا اعتراض أكد به معنى التحريم لأنّ تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة واختيار دين الإسلام للناس من بين سائر الأديان . ثم بين الرخصة بقوله : { فمن اضطر في مخمصة } أي في مجاعة وأصل الخمص ضمور البطن { غير متجانف } منصوب باضطرّ أو بمضمر أي فتناول غير منحرف إلى إثم بأن يأكل فوق الشبع أو عاصياً بسفره ، وقد مرّ القول في هذه الرخصة مستوفي في سورة البقرة .

/خ11