محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (284)

{ للّه ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء واللّه على كل شيء قدير 284 } .

{ لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا } أي تظهروا { ما في أنفسكم } من الأفعال الاختيارية باللسان أو الجوارح { أو تخفوه يحاسبكم به الله } قال أبو مسلم الأصفهانيّ : إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة : { والله بما تعملون عليم } . ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقليّ فقال { لله ما في السماوات وما في الأرض } ومعنى هذا الملك ، أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه . ومن كان فاعلا لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد أن يكون عالما بها . إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به . فكأن الله تعالى احتجّ بخلقه السماوات والأرض ، مع ما فيها من وجوه الإحكام والإتقان ، على كونه تعالى عالما بها محيطا بأجزائها وجزئياتها .

قال الشعبيّ : إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه . بيّن أنه له ملك السماوات والأرض ، فيجازي على الكتمان والإظهار . وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر / وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى : { وإن تبدوا . . } إلخ . نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها .

وروى الإمام أحمد ومسلم{[1482]} والنسائيّ وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( لما نزلت هذه الآية : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } قال دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا . قال : فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى : { لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ( قال : قد فعلت ) ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ( قال : قد فعلت ) واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا } ( قال : قد فعلت ) ) . وفي ( مسند ) عبد بن حميد والطبرانيّ : قال ابن عباس : ( فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها . وصار الأمر إلى أن قضى الله تعالى أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت من القول والعمل ) . أقول إن ما جاء من أن الآية هالت من هالت من الصحابة فإنما جاءه من عمومها ومن قوله : { يحاسبكم } إذ حمله على حساب المؤاخذة ، فأما عمومها فنظمها ظاهر فيه . إلا أنها تتناول الشهادة وكتمانها أولا وبالذات . وغيرها ثانيا وبالعرض . وأما حمل الحساب على المؤاخذة والانتقام فإن كان عرفيا أو لغويا فالإخفاء حينئذ مراد به إخفاء متفق على حظره . كنفاق وريب في الدين . ولا إشكال في الآية . وقد يؤيده ذكر الإيمان بعده . ويكون ختام السورة بالإبداء والإخفاء بمثابة رد العجز عن الصدر . لافتتاح السورة بالمؤمنين والكافرين وما لكل منهما . وإن لم يكن الحساب حقيقة فيما ذكر بل كان معناه إيقافه تعالى العبد على عمله خيرا أو شرا وإراءَته عاقبته الحسنى أو السوءى ، وهو الذي يظهر ، فلا إشكال أيضا . فما روي عن بعض الصحب عليهم الرضوان منشؤه قوة اليقين وشدة الخوف من هول المطلع مع ورود الحساب في كثير من الآيات في معرض أخطار القيامة مما يحق أن / يخفق له فؤاد كل مؤمن . ولا تنس ما أسلفنا في المقدمة وفي غير موضع ، أن قوله : نزلت في كذا قد يراد أن كذا مما يشمله لفظ الآية لعمومها له ولغيره . وهكذا هنا . فالآية وإن كان سياقها في الشهادة وكتمانها ، إلا أنها تتناول غيرها بعمومها . ولذلك دخل فيها الوسوسة وتوهم ما توهم . وقوله في الرواية : فأنزل الله تعالى { لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها } لا يتوهم التراخي بين ما دخل قلوبهم وبين نزولها . بل المراد ، كما أسلفنا في سبب النزول ، أن لفظ { لا يكلّف الله . . . } إلخ الذي نزل معها مبين أن لا حرج في مثل الوسوسة ونحوها . فافهم فإنه نفيس جدا . وبه يزاح عنك ما يبحث فيه الكثيرون في هذه الآية ويرونه من المعضلات . وبالله التوفيق .

هذا وفي ( الصحيحين ) {[1483]} عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ، ما لم تعمل أو تَكَلَّمْ ) . وفي ( الصحيحين ) {[1484]} عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : إذا همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه . فإن عملها فاكتبوها سيئة . وإذا همّ بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشرا ) . { فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء } وقرئ برفع الفعلين على الاستئناف أي فهو يغفر إلخ . وبجزمهما عطفا على جواب الشرط . وفي تقديم المغفرة على التعذيب إشعار بسبق رحمته تعالى على غضبه { والله على كل شيء قدير } . قال الرازيّ : قد بيّن بقوله { لله ما في السماوات وما في الأرض } أنه كامل الملك والملكوت . وبيّن بقوله { وإن تبدوا . . . } إلخ . أنه كامل العلم والإحاطة . ثم بيّن بقوله : { والله على كل شيء قدير } أنه كامل القدرة مستول على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام . ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات . والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبدا منقادا له ، خاضعا لأوامره ، ونواهيه ، متحرزا عن سخطه . وبالله التوفيق .


[1482]:أخرجه مسلم في: 1 ـ كتاب الإيمان، حديث 200 (طبعتنا).
[1483]:أخرجه البخاري في: 49 ـ كتاب العتق، 6 ـ باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق.
[1484]:أخرجه مسلم في: 1 ـ كتاب الإيمان، حديث 203 (طبعتنا) ولم يخرجه البخاري.