محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} (7)

هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب 7 ) .

( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ) واضحات الدلالة ( هن / أم الكتاب ) أي أصله المعتمد عليه في الأحكام ( وأخر متشابهات ) وهي ما استأثر الله بعلمها لعدم اتضاح حقيقتها التي أخبر عنها ، أو ما احتملت أوجها . وجعله كله محكما في قوله : ( أحكمت آياته ) بمعنى أنه ليس فيه عيب ، وأنه كلام حق فصيح الألفاظ ، صحيح المعاني . ومتشابها في قوله ( كتابا متشابها ) بمعنى أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن ، ويصدق بعضه بعضا ( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) أي ميل عن استقامة إلى كفر وأهواء وابتداع ( فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ) أي طلب الإيقاع في الشبهات واللبس ( وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله ) وحده ( والراسخون في العلم ) أي الثابتون المتمكنون مبتدأ خبره ( يقولون آمنا به ) أي بالمتشابه على ما أراد الله تعالى ( كل ) من المحكم والمتشابه ( من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ) أي العقول الخالصة من الركون إلى الأهواء الزائغة . وهو تذييل سيق منه تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر .

تنبيه :

للعلماء في المحكم والمتشابه أقوال كثيرة ، ومباحث واسعة . وأبدع ما رأيته في تحرير هذا المقام مقالة سابغة الذيل لشيخ الاسلام تقي الدين أحمد بن تيمية عليه الرحمة والرضوان . يقول في خلالها :

المحكم في القرآن ، تارة يقابل بالمتشابه والجميع من آيات الله ، وتارة يقابل بما نسخه الله ، مما ألقاه الشيطان . ومن الناس من يجعله مقابلا لما نسخه الله مطلقا ، حتى يقول هذه الآية محكمة ليست منسوخة ، ويجعل المنسوخ ليس محكما ، وان كان الله أنزله أولا اتباعا للظاهر من قوله : ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ) . فهذه ثلاثة معان تقابل المحكم ، ينبغي التفطن لها . وجماع ذلك أن الإحكام تارة يكون في التنزيل . فيكون في مقابلة ما يلقيه الشيطان . فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله أي فصله من الاشتباه بغيره ، وفصل منه ما ليس منه ، فان الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه ، / ولهذا دخل فيه معنى المنع ، كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه ، لا جميع معناه . وتارة يكون في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع ، وهو اصطلاحي . أو يقال ( وهو أشبه ) : السلف كانوا يسمون كل رفع نسخا ، سواء كان رفع حكم ، أو رفع دلالة ظاهرة ، فكل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح ، كتخصيص العام ، وتقييد المطلق ، فهو منسوخ في اصطلاح السلف . وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلغ ، وقد يكون في مسمع المبلغ ، وقد يكون في فهمه ، كما قال : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) . ومعلوم أن من سمع ، سمع النص الذي قد رفع حكمه ، أو دلالة له ، فانه يلقي الشيطان في تلك التلاوة إتباع ذلك المنسوخ ، فيحكم الله بآياته بالناسخ الذي به رفع الحكم ، وبان المراد . وعلى هذا التقدير ، فيصح أن يقال : المتشابه المنسوخ . بهذا الاعتبار . والله أعلم .

وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى ، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها ، حتى لا تشتبه بغيرها . وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا . فتكون محتملة للمعنيين ، ولم يقل في المتشابه ( لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله ) ، وانما قال : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع . فان الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو . والوقف هنا . على ما دل عليه أدلة كثيرة ، وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجمهور التابعين ، وجماهير الأمة . ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره ، بل قال : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) . وهذا يعم الآيات / المحكمات والآيات المتشابهات . وما لا يعقل له معنى لا يتدبر ، وقال : ( أفلا يتدبرون القرآن ) ، ولم يستثن شيئا منه نهى عن تدبره . والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه ، فلم يذمه الله ، بل أمر بذلك ومدح عليه . يبين ذلك أن التأويل ، قد روي أن من اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كحيي بن أخطب وغيره من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور تأويل بقاء هذه الأمة ، كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين ، وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عاما . لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل ، بعد إسقاط المكرر . وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر . وروي أن من النصارى الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد نجران من تأول ( أنا ونحن ) على أن الآلهة ثلاثة لأن هذا ضمير جمع . وهذا تأويل في الإيمان بالله . فأولئك تأولوا في اليوم الآخر . وهؤلاء تأولوا في الله . ومعلوم أن ( أنا نحن ) من التشابه . فانه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه ، ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وان لم يكونوا من جنسه ، ويراد الواحد المعظم نفسه ، الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى . فصار هذا متشابها لأن اللفظ واحد ، والمعنى متنوع ، والأسماء المشتركة في اللفظ هي من المتشابه ، وبعض المتواطئ أيضا من المتشابه . ويسميها أهل التفسير ( الوجوه والنظائر ) وصنفوا كتب الوجوه والنظائر . فالوجوه في الأسماء المشتركة ، والنظائر في الأسماء المتواطئة . وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعا في الأسماء المشتركة ، فهي نظائر باعتبار اللفظ ، ووجوه باعتبار المعنى ، وليس الأمر على ما قاله ، / بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله . والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل : ( وإلهكم اله واحد ) . ( إنني أنا الله لا اله إلا أنا فاعبدني ) . ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله ) . ( ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ) . ( ولم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد ) . ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه ، وحرفوا الكلم عن مواضعه . وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها . وذلك أن الكلام نوعان : إنشاء فيه الأمر ، وإخبار . فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به ، كما قال من قال من السلف : ان السنة هي تأويل الأمر . قالت عائشة رضي الله عنها : " كان رسول اله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : ( سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي ) . يتأول القرآن " ، تعني قوله : ( فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا ) ، وأما الاخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع . / ليس تأويله فهم معناه ، وقد جاء اسم التأويل في القرآن في غير موضع . وهذا معناه . قال الله تعالى : ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون الا تأويله ، يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) فقد أخبر أنه فصل الكتاب ، وتفصيل بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه ، ثم قال : ( هل ينظرون ) ، أي ينتظرون ، ( الا تأويله ، يوم يأتي تأويله ) . إلى آخر الآية . وانما ذلك مجيء ما أخبر به القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها . كالدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ومجيء ربك والملك صفا صفا ، وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك . فحينئذ يقولون : ( قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ) . وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته الا الله . فان الله يقول : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) . ويقول : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " . وقال ابن عباس : " ليس في الدنيا مما في الجنة الا الأسماء " ، فان الله قد أخبر أن في الجنة خمرا ولبنا وماء وحريرا وذهبا وفضة وغير ذلك ، ونحن نعلم قطعا أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه ، بل بينهما تباين عظيم مع / التشابه . كما في قوله : ( وأوتوا به متشابها ) على أحد القولين أي يشبه ما في الدنيا ، وليس مثله . فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق ، كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه ، فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما ، ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا ، ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه ، وتلك الحقائق على ما هي عليه هي تأويل ما أخبر الله به ، وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم . فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ، ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن . ومن دخل في الاسلام ونافق المؤمنين تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني ، ان كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد . وان كان من منافقة الملتين المقرين بحشر الأجساد ، تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة . كل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إذا ما اعتقد ثبوته . وكان في هذا أيضا متبعا للمتشابه ، إذ الأسماء تشبه الأسماء ، والمسميات تشبه المسميات ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها . فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه ابتغاء الفتنة بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن يكون في الجنة هذه الحقائق ، وابتغاء تأويله ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا ، قال الله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) ، فان تلك الحقائق قال الله فيها : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) ، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل . وقوله : ( وما يعلم تأويله ) . إما أن يكون الضمير عائدا على الكتاب أو على المتشابه . فان / كان عائدا على الكتاب لقوله : ( منه ) . ومنه : ( فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) ، فهذا يصح . فان جميع آيات الكتاب محكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به ، لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا الله . وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع إخباره أنه مفصل بقوله : ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون * هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله ) . فجعل التأويل الجائي الكتاب المفصل ، وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه وقتا وقدرا ونوعا وحقيقة إلا الله . وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا . وكذلك قوله : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ) . و إذا كان التأويل الكتاب كله والمراد به ذلك ، ارتفعت الشبهة ، وصار هذا بمنزلة قوله : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ، قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السماوات والأرض ) –الى قوله - : ( إنما علمها عند الله ) . وكذلك قوله : ( يسألك الناس عن الساعة ، قل إنما علمها عند الله ، وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا ) . فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله ، وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها ، وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به ، فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله . وهذا واضح بين ، ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه ، وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها . فهذا هذا .

/ وان كان الضمير عائدا إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس ، فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه ، بخلاف الأمر والنهي . ولهذا في الآثار : العمل بمحكمه والإيمان بمتشابه . لأن المقصود في الخبر الإيمان . وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه . بخلاف الأمر والنهي فانه متميز غير مشتبه بغيره ، فانه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع . وأمور نتركها لا بد أن نتصورها . ومما جعل من لفظ التأويل في القرآن قوله تعالى : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ) والكناية عائدة على القرآن ، أو على ما لم يحيطوا بعلمه ، وهو يعود إلى القرآن . قال تعالى : ( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه ، قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ، كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به ، وربك أعلم بالمفسدين ) . فأخبر سبحانه أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله . وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفي كقوله : ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله . كما تحداهم وطالبهم لما قال : ( أم يقولون افتراه ، قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ) ، فهذا تعجيز / لجميع المخلوقين . قال تعالى : ( ولكن تصديق الذي بين يديه ، أي مصدق الذي بين يديه ، وتفصيل الكتاب ، أي مفصل الكتاب ، فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب . والكتاب اسم جنس . ولما تحدى القائلين : ( افتراه ) ، ودل على أنهم هم المفترون ، قال : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ) . ففرق بين الإحاطة بعلمه ، وبين إتيان تأويله .

فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ، ولما يأتهم تأويله ، وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله ، فان الاحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام ، وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به . وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به . فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن . ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله . وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم .

ان الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر به محكمه ومتشابهه ، وان لم يعلم تأويله . ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار : ( و إذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا * وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، و إذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ) . فقد اخبر ، ذما للمشركين ، أنه اذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور ، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر . فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك . وقوله : ( أن يفقهوه ) . يعود إلى القرآن كله . فعلم أن الله يحب أن يفقه . ولهذا قال الحسن البصري : ( ماأنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عنى بها . وما استثنى من ذلك لا متشابها ولا غيره . وقال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات / أقفه عند كل آية وأسأله عنها . فهذا ابن عباس حبر الأمة ، وهو أحد من كان يقول : ( لا يعلم تأويله إلا الله ) ، يجيب مجاهدا عن كل آية في القرآن . وهذا هو الذي جعل مجاهدا ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عند قوله : ( والراسخون في العلم ) فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل . لأن مجاهدا تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه . فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير الله . وأصل ذلك أن لفظ التأويل ، وبه أشير إلى بين ما عناه الله في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف ، بين اصطلاح طوائف من المتأخرين . فبسبب الاشتراك في لفظ ( التأويل ) اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن .

ومجاهد إمام التفسير ، قال الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به .

وأما التأويل فشأن آخر . ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله وقال : هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه ، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين : إن في القرآن آيات لا تعلم معناها ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والايمان جميعهم . وإنما قد ينفون علم بعض ذلك على بعض الناس ، وهذا لا ريب فيه ، وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك . فلقبوها ، هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه ، وما تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم ؟ فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية ، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء . ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه . والغالب على كلتا الطائفتين الخطأ . أولئك يقصرون في فهمهم القرآن بمنزلة من قيل فيه : ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وان هم إلا يظنون ) . وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه . ومن المتأخرين من وضع المسألة / بلقب شنيع فقال : لا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئا ، خلافا للحشوية . وهذا لم يقله مسلم إن الله يتكلم بما لا معنى له ، وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه . وبين نفي المعنى عند المتكلم ، ونفي الفهم عند المخاطب ، بون عظيم . ثم احتج بما لا يجري على أصله فقال : هذا عبث ، على الله محال ، وعنده أن الله لا يقبح منه شيء أصلا ، بل يجوز أن يفعل كل شيء ، وليس له أن يقول العبث صفة نقص ، فهو منتف عنه ، لأن النزاع في الحروف ، وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال ، ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة ، فلا نقل صريح ، ولا عقل صحيح .

ومثار الفتنة بين الطائفتين ومحار عقولهم أن مدعي التأويل أخطؤوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل ، وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه . فإن الأولين ، لعلمهم بالقرآن والسنن ، وصحة عقولهم ، وعلمهم بكلام السلف ، علموا أن التأويل الذي لا يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن . فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه ، وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون للأخبار والأوامر . وما بين صائبة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر ، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء . وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر ، ويتأولون آيات الصفات . وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات ، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر . وآخرون من أصناف الأمة ، وان كان يغلب عليهم السنة ، فقد يتأولون أيضا مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه .

والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة ، وأكثر أهل الكلام والبدع ، رأوا أيضا أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن . ورأوا عجزا وعيبا وقبيحا أن يخاطب الله عباده بكلام يقرؤونه ويتلونه وهم لا يفهمونه . وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل ، لكن أخطئوا في معنى التأويل الذي نفاه الله ، وفي التأويل الذي أثبتوه وتسلق بذلك بتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل ، وصار الآخرون أكثر كلاما وجدالا ، ولكن بفرية على الله ، وقول عليه ما لا يعلمونه ، وإلحاد في أسمائه وآياته . فهذا هذا .

ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل . فان التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به ، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف . فإذا قال أحد منهم : هذا الحديث أو هذا النص مؤول ، أو هو محمول على كذا ، قال الآخر : هذا نوع تأويل ، والتأويل يحتاج إلى دليل . والمتأول عليه وظيفتان : بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه ، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر ، وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات ، إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل ، أو ذم التأويل ، أو قال بعضهم : آيات الصفات لا تؤول ، وقال الآخر : بل يجب تأويلها ، وقال الثالث : بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ، ويترك عند المصلحة ، أو يصح للعلماء دون غيرهم ، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع .

وأما التأويل في لفظ السلف فله معنيان :

أحدهما- تفسير الكلام وبيان معناه ، سواء وافق ظاهره أو خالفه ، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا ، وهذا –والله أعلم- هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله . ومحمد بن جرير الطبري يقول في ( تفسيره ) : القول في تأويل قوله كذا وكذا . واختلف أهل التأويل في هذه الآية . ونحو ذلك ، ومراده التفسير .

والمعنى الثاني –في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقا هو نفس المراد بالكلام . فان الكلام إن كان طلبا كان تأويله نفس الفعل المطلوب . وان كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به . وبين هذا المعنى والذي قبله بون . فان الذي قبله يكون التأويل / فيه من باب العلم ، والكلام كالتفسير والشرح والايضاح . ويكون وجود التأويل في القلب واللسان ، له الوجود الذهني واللفظي والرسمي . وأما هذا ، فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج ، سواء كانت ماضية أو مستقبلة . فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا نفس طلوعها . وهذا الوضع والعرف . الثالث هو لغة القرآن التي نزل بها ، وقد قدمنا التبيين في ذلك . ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف : ( وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك ) . وقوله : ( ودخل معه السجن فتيان ، قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا ، وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه ، نبئنا بتأويله ، إنا نراك من المحسنين * قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله ) . وقول الملأ : ( أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين . * وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون ) . وقول يوسف لما دخلوا عليه مصر وآوى إليه أبويه وقال : ( ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين . ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ) .

فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول اليه ، كما قال يوسف : ( هذا تأويل رؤياي من قبل ) . والعالم بتأويلها الذي يخبر به ، كما قال يوسف : ( لا يأتيكما طعام ترزقانه ) . أي في المنام . ( إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ) . أي قبل أن يأتيكما التأويل . وقال الله تعالى : ( فان تنازعتم في شيء فردوه إذا الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، ذلك خير وأحسن تأويلا ) قالوا : أحسن عاقبة ومصيرا ، فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة ، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا ، والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن ، وكذلك في سورة آل عمران . وقال تعالى في قصة موسى والعالم : ( قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) . إذا قوله : ( وما فعلته عن أمري ، ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) . فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم ن خرق السفينة بغير إذن صاحبها ، ومن قتل الغلام ، ومن إقامة الجدار . فهو تأويل عمل ، لا تأويل قول ، وإنما كان كذلك لأن التأويل مصدر أوله يؤوله تأويلا ، مثل حول تحويلا ، وعول تعويلا . و ( أول يؤول ) تعدية ( آل يؤول أولا ) ، مثل حال يحول حولا ، وقولهم ( آل يؤول ) أي عاد إلى كذا ورجع اليه ، ومنه المآل ، وهو ما يؤول إليه الشيء . ويشاركه في الاشتقاق الموئل ، فانه وأل ، وهذا من أول ، والموئل المرجع ، قال تعالى : ( ولن يجدوا من دونه موئلا ) . ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر الآل ، فان آل الشخص من يؤول إليه ، ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم ، بحيث يكون المضاف إليه يصلح أن يؤول إليه الآل . كآل ابراهيم وآل لوط وآل فرعون . بخلاف الأهل . والأول أفعل ، لأنهم قالوا في تأنيثه أولى ، كما قالوا جمادى الأولى ، وفي القصص : ( وله الحمد في الأولى والآخرة ) . ومن الناس من يقول فوعل ويقول ( أولة ) إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب ، بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل ، فان فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف . سمي المتقدم أول-والله أعلم—لأن ما بعده يؤول إليه ويبنى عليه ، فهو أس لما بعده وقاعدة له . والصيغة صيغة تفضيل مثل أكبر وكبرى وأصغر وصغرى لا من باب أحمر وحمراء ، ولهذا يقولون : جئته أول من أمس وقال : ( من أول يوم ) . ( وأنا أول المسلمين ) . ( ولا تكونوا أول كافر به ) . ومثل هذا أول هؤلاء ، فهذا الذي فضل عليهم في الأول ، لأن كل واحد يرجع إلى ما قبله ، فيعتمد عليه ، وهذا السابق ، كلهم يؤول اليه . فان من تقدم في فعل ، فاستبق به من بعده ، كان السابق الذي يؤول الكل اليه . فالأول له وصف السؤدد والاتباع . ولفظ الأول مشعر بالرجوع والعود . والأول مشعر بالابتداء ، والمبتدى خلاف العائد . لأنه إنما كان أولا لما بعده ، فانه يقال ( أول المسلمين ) ، و ( أول يوم ) ، فما فيه من معنى الرجوع والعود ، هو للمضاف إليه لا للمضاف . و إذا قلنا : آل فلان فالعود في المضاف . لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلا ومرجعا لغيره . لأن كونه مفضلا دل على أنه مآل ومرجع ، لا آيل راجع . اذ لا فضل في كون الشيء راجعا إلى غيره ، آيلا اليه ، وانما الفضل في كونه هو الذي يرجع إليه ويؤال . فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلا ومرجعا ، والتفضيل المطلق في ذلك يقتضي أن يكون هو السابق المبتدئ . والله أعلم .

فتأويل الكلام ما أوله إليه المتكلم أو ما يؤول إليه الكلام أو ما تأوله المتكلم . فان التفعيل يجري على غير فعل كقوله : ( وتبتل إليه تبتيلا ) ، فيجوز أن يقال تأول الكلام إلى هذا المعنى تأويلا ، والمصدر واقع موقع الصفة ، اذ قد يحصل المصدر صفة بمعنى الفاعل . كعدل وصوم وفطر ، وبمعنى المفعول كدرهم ضرب الأمير ، وهذا خلق الله . فالتأويل هو ما أول إليه الكلام أو يؤول اليه ، أو تأول هو اليه . والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويَؤول ويُؤول إلى حقيقته التي هي عين المقصود به ، كما قال بعض السلف في قوله : ( لكل نبأ مستقر ، وسوف تعلمون ) . قال : حقيقة . فإن كان خبرا فإلى الحقيقة المخبر بها يؤول ويرجع ، والا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع ، بل كان كذبا . وان كان طلبا فإلى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع . والا لم يكن مقصوده موجودا ولا حاصلا ، ومتى كان الخبر وعدا أو وعيدا / فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يؤول . كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه تلا هذه الآية : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ) . قال : انها كائنة ولم يأت تأويلها بعد " .

فصل

وأما ادخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله الا الله ، أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم ، فانهم ، وان أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم ، فالكلام على هذا من وجهين :

الأول-من قال إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه . ما الدليل على ذلك ؟ فاني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ، ولا من الأئمة ، لا أحمد بن حنبل ولا غيره ، أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ، ونفى أن يعلم أحد معناه ، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم . ولا قالوا إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه . وإنما قالوا : كلمات لها معان صحيحة . قالوا في أحاديث الصفات : تمر كما جاءت ، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها . التي مضمونها تعطيل النصوص على ما دلت عليه . ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها ، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه ، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك . وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات : تمر كما جاءت في / أحاديث الوعد . مثل : " من غشنا فليس منا " . وأحاديث الفضائل . ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كله عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمي تحريفه تأويلا ، بالعرف المتأخر .

فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل . وكذلك نص أحمد في ( كتاب الرد على الزنادقة الجهمية ) أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن . وتكلم أحمد على ذلك المتشابه ، وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية ، وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله . فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره . بل يبين ويفسر . فاتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته .

ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب ، أن أهل السنة متفقون على ابطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين ، والتأويل المردود هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره . فلو قيل : إن هذا هو التأويل المذكور في الآية ، وأنه لا يعلمه إلا الله ، لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلا يخالف دلالتها ، لكن ذلك لا يعلمه إلا الله . وليس هذا مذهب السلف والأئمة ، وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها ، لا التوقف عنها . وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني . لا تحرف ولا يلحد فيها .

والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه ، أن نقول : لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمان والودود والعزيز والجبار والعليم والقدير والرؤوف ونحو ذلك ، ووصف نفسه بصفات مثل سورة الاخلاص وآية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر ، وقوله : ( إن الله بكل شيء عليم ) ، و : ( على كل شيء قدير ) ، و : ( انه يحب المتقين ) ، و : ( المقسطين ) و : ( المحسنين ) ، وأنه : يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات / و : ( لما ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ) . ( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله ) . ( ولكن كره الله انبعاثهم ) . ( الرحمن على العرش استوى ) . ( ثم استوى على العرش ) . ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم ) . ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض اله ، وهو الحكيم العليم ) . ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) . ( إنني معكما أسمع وأرى ) . ( وهو الله في السماوات وفي الأرض ) . ( وما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) . ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) . ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) . ( يريدون وجهه ) ( ولتصنع على عيني ) . إلى أمثال ذلك . فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه : أتقول هذا في جميع ما سمى الله ووصف به نفسه أم في البعض ؟ فان قلت هذا في الجميع كان هذا عنادا ظاهرا ، وجحدا لما يعلم بالاضطرار من دين الاسلام ، بل كفر صريح . فانا نفهم من قوله : ( إن الله بكل شيء عليم ) ، معنى . ونفهم من قوله : / ( إن الله على كل شيء قدير ) ، معنى ليس هو الأول . ونفهم من قوله : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) . معنى . ونفهم من قوله : ( إن الله عزيز ذو انتقام ) ، معنى . وصبيان المسلمين ، بل وكل عاقل يفهم هذا .

وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب مع انتسابه إلى الحديث ، لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة ، من يقول : إنا نسمي الله الرحمن الرحيم العليم القدير علما محضا من غير أن نفهم منه معنى يدل على شيء قط ، وكذلك في قوله : ( ولا يحيطون بشيء من علمه ) . يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم . وهذا الغلو في الظاهر ، من جنس غلو القرامطة في الباطن . لكن هذا أيبس وذاك أكفر .

ثم يقال لهذا المعاند : فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود ، أو على حق موجود ، أم لا ؟ فان قال : لا ، كان معطلا محضا . وما أعلم مسلما يقول هذا . وان قال : نعم قيل له : فهل فهمت منها دلالتها على نفس الرب ، ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم ، وكلاهما في الدلالة سواء ؟ فلا بد أن يقول : لأن ثبوت الصفات محال في العقل ، لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث . بخلاف الذات . فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني كما سنذكره . وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض . فيقال له : ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه ؟ فان الفرق إما أن يكون من جهة السمع ، لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة ، بخلاف الآخر . أو من جهة العقل بان أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر ، وكلا الوجهين / باطل في أكثر المواضع ، أما الأول فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير علي عظيم كدلالته على أنه عليم قدير ، ليس بينهما فرق من جهة النص . وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته . وأما الثاني فيقال لمن أثبت شيئا ونفى آخر : لم نفيت ، مثلا ، حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى إرادته ؟ فان قال : لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على الله ، قيل له : والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله . فان قال : إرادته ليست من جنس إرادة خلقه . قيل له : ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه . وكذلك محبته . وان قال ( وهو حقيقة قوله ) : لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع ، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل . وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين . لأن الفعل دل على القدرة ، والإحكام دل على العلم . والتخصيص دل على الإرادة . قيل له : الجواب من ثلاثة أوجه :

أحدهما- أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضا على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة والتقريب والإدناء . وأنواع التخصيص التى لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة ، أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة . وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص ، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص ، وما سلكه في مسلك الإرادة في مثل هذا .

الثاني- يقال له : هب أن العقل لا يدل على هذا ، فانه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة ، والسمع دليل مستقل بنفسه ، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم ، ودلالته أتم ، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة ؟ مع أن النصوص تفرق . فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل .

الثالث- يقال له : إذا قال لك الجهمي : الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه ، أو نفس الفعل والأمر به ، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورا ان قال بقدمها ، ومحذورا ان قال بحدوثها .

/ وهنا اضطربت المعتزلة . فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم . ولا يقولون بتجدد صفة له ، لامتناع حلول الحوادث عند أكثرهم ، مع تناقضهم .

فصاروا حزبين :

البغداديون- وهم أشد غلوا في البدعة في الصفات وفي القدر ، نفوا حقيقة الإرادة . وقال الجاحظ : لا معنى لها إلا عدم الإكراه ، وقال الكعبي : لا معنى لها إلا نفس الفعل ، إذا تعلقت بفعله ، ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده .

والبصريون- كأبي علي وأبي هاشم . قالوا : تحدث إرادة لا في محل ، فلا إرادة . فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل ، وكلاهما عند العقل معلوم الفساد بالبديهة . كان جوابه : أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال ، والنص قد دل عليها ، والفعل أيضا . فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل ، جعله مسفسطا أو مقرمطا ، وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة ، فان خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعي .

ثم يقال لخصومه : بم أثبتم أنه عليم قدير ؟ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة ، وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير ، و إذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني ، وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار ، كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع ، فان ذلك لا يستلزم حدوثا ولا تركيبا مقتضيا حاجة إلى غيره .

ويعارضون أيضا بما ينفي به أهل التعطيل الذات من الشبه الفاسدة ، ويلزمون بوجود الرب الخالق العلوم بالفطرة الخلقية ، والضرورة العقلية ، والقواطع العقلية ، واتفاق الأمم ، وغير ذلك من الدلائل . ثم يطالبون بوجود من جنس ما نعهده ، أو بوجود يعلمون كيفيته ، فلا بد أن يفروا إلى إثبات ما لا تشبه حقيقته الحقائق . فالقول في سائر ما سمى ووصف به نفسه ، كالقول في نفسه سبحانه وتعالى .

/ ونكتة هذا الكلام أن غالب من نفى وأثبت شيئا مما دل عليه الكتاب والسنة ، لا بد أن يثبت الشيء لقيام المقتضى ، وانتفاء المانع . وينفى الشيء لوجود المانع أو لعدم المقتضى ، أو يتوقف إذا لم يكن عنده مقتض ولا مانع ، فيبين له أن المقتضى فما نفاه قائم ، كما أنه فيما أثبته قائم . إما من كل وجه ، أو من وجه يجب به الإثبات . فان كان المقتضى هناك حقا ، فكذلك هنا . وإلا فدرء ذاك المقتضى من جنس درء هذا . وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيها أثبته ، فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجودا على التقديرين لم ينج من محذروه بإثبات أحدهما ونفي الآخر ، فانه إن كان حقا نفاهما ، وان كان باطلا لم ينف واحدا منهما ، فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي ، ولا سبيل إلى النفي فتعين الإثبات . فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئا . وما من أحد الا ولا بد أن يثبت شيئا أو يجب عليه إثباته ، فهذا يعطيك من حيث الجملة أن اللوازم التي يدعي أنها موجبة النفي خيالات غير صحيحة ، وان لم يعرف فسادها على التفصيل ، وأما من حيث التفصيل فيبين فساد المانع وقيام المقتضى كما قرر هذا غيره مرة .

فان قال من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة ، ولم يثبت ما هو فيها أبعاض كاليد والقدم : هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم . قيل له : وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي . فان أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضا أو تسميتها أعراضا لا يمنع ثبوتها ، قيل له : وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيبا وأبعاضا أو تسميتها تركيبا وأبعاضا لا يمنع ثبوتها .

فان قال : هذه لا يعقل منها الا الأجزاء ، قيل له : وتلك لا يعقل منها الا الأعراض .

فان قال : العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية ، قيل : والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة ، وذلك في حق الله محال . فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقا ، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه .

/ فان قال : ذلك تجسيم والتجسيم منتف ، قيل : وهذا تجسيم والتجسيم منتف .

فان قال : أنا أعقل صفة ليست عرضا بغير متحيز ، وان لم يكن له في الشاهد نظير ، قيل له : فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وان لم يكن له في الشاهد نظير . قيل له : فاعقل صفة هي لنا بعض لغير وإن لم يكن له في الشاهد نظير . فان نفى عقل هذا نفى عقل ذاك ، وان كان بينهما نوع فرق ، لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع . ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع لكن ذاك أيضا مستلزم لنفي الذات ، ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء ، صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة ، وهذا أيضا ليس هو معقول النص ، ولا مدلول العقل ، وانما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق .

وأصل ذلك أنهم بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة ، وهي ألفاظ مجملة . مثل متحيز ومحدد وجسم ومركب ، ونحو ذلك ، ونفوا مدلولها ، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة ، ومدلولا عليها بنوع قياس ، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض ، أو اثبات امكان الجسم بالتركيب من الأجزاء ، فوجب طرد الدليل بالحدوث والامكان لكل ما شمله هذا الدليل ، إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح ، فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص ومن جهة العقل من ناحية أخرى ، فصاروا أحزابا ، تارة يغلبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهو المعتزلة ، وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول كهشام بن الحكم الرافضي ، فانه قد قيل : أول ما تكلم في الجسم نفيا واثباتا من زمن هشام بن الحكم وأبي الهذيل العلاف ، فان أبا الهذيل ونحوه من قدماء المعتزلة نفوا الجسم ، لما سلكوا من القياس وعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس ، واعتقد الأولون احالة ثبوته ، واعتقد هذا إحالة نفيه ، وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الاحالة والتناقض .

فما أعلم أحدا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة الا ولا بد أن يتناقض فيحيل ما أوجب نظيره ، ويوجب ما أحال نظيره ، اذ كلامهم من عند/ غير الله ، وقد قال الله تعالى : ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) .

والصواب ما عليه أئمة الهدى ، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، لا يتجاوز القرآن والحديث ، ويتبع في ذلك سبل السلف الماضين ، أهل العلم والايمان . والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه . ولا يعرض عنها ، فيكون من باب الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا . ولا يترك تدبر القرآن ، فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني . فهذا أحد الوجهين . وهو منع أن تكون هذه من المتشابه . الوجه الثاني : أنه إذا قيل هذه من المتشابه ، أو كان فيها ما هو من المتشابه ، كما نقل بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابها ، فيقال : الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله ، اما المتشابه ، واما الكتاب كله كما تقدم . ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة . وهذا الوجه قوي ان ثبت حديث ابن اسحاق في وفد نجران ، أنهم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أنا ونحن " ونحو ذلك ، ويؤيده أيضا أنه قد ثبت أن القرآن متشابها ، وهو ما يحتمل معنيين ، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب ، كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى ، فان نفي المتشابه بين الله وبين خلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا ، وانما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولا أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى ، ونزيده تقريرا ان الله سبحانه يقول : ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون * قرآنا عربيا غير ذي عوج ) وقال / تعالى : ( الر ، تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) فأخبر أنه أنزله ليعقلوه ، وأنه طلب تذكرتهم . وقال أيضا : ( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكير فيه ، ولم يستثن من ذلك شيئا . بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه ، مثل قوله : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) وقوله : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله ، والا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفة ما لم يتدبر لما تدبر . وقال علي عليه السلام لما قيل له : " هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ؟ فقال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة الا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة " ، فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة ، والفهم أخص من العلم والحكم ، قال الله تعالى : ( ففهمناها سليمان / وكلا آتينا حكما وعلما ) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " رب مبلغ أوعى من سامع ، وقال : " بلغوا عني ولو آية " . وأيضا فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن ، آيات الصفات وغيرها . وفسروها بما يوافق دلالتها ، ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن . وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم . مثل عبد الله بن مسعود الذي كان يقول : " لو أعلمُ أعلمَ بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته " .

/ وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وهو حبر الأمة وترجمان القرآن ، كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين اثباتا للصفات ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا ، وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين ، بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم جلالة ، أصحاب زيد بن ثابت ، لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به ، بل أخذوا عن غيره مثل عمر ، وابن عمر ، وابن عباس . ولو كان معاني هذه الآيات منفيا أو مسكوتا عنه ، لم يكن ربانيو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاما فيه . ثم ان الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة ، ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية .

قال أبو عبد الرحمان السلمي : " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا : عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل " . وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا شيئا من ذلك لم ينفوا معناه ، بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية . كقول مالك بن أنس لما سئل عن قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) ، كيف استوى ؟ فقال : " الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والايمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " . وكذلك ربيعة قبله . وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول . فليس في أهل السنة من ينكره . وقد بين أن الاستواء معلوم ، كما أن سائر ما اخبر به معلوم ، ولكن الكيفية لا تعلم ، ولا يجوز السؤال عنها ، لا يقال : كيف استوى ؟ ولم يقل مالك : الكيف معدوم ، وانما قال : الكيف مجهول . وهذا فيه نزاع بين أصحابنا وغيرهم من أهل السنة ، غير أن أكثرهم يقولون : لا تخطر كيفيته ببال ، ولا تجري ماهيته في مقال . ومنهم من يقول : ليس له كيفية ولا ماهية . فان قيل : معنى قوله ( الاستواء معلوم ) أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه ، وقيل : هذا ضعيف ، فان هذا ن باب تحصيل الحاصل ، فان السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن ، وقد تلا الآية ، وأيضا فلم يقل ذكر الاستواء في القرآن ، ولا اخبار الله بالاستواء ، وانما قال : الاستواء معلوم ، فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم ، لم يخبر عن الجملة . وأيضا فانه قال : والكيف مجهول ، ولو أراد ذلك لقال معنى الاستواء مجهول ، أو تفسير الاستواء مجهول ، أو بيان الاستواء غير معلوم ، فلم ينف الا العلم بكيفية الاستواء ، لا العلم بنفس الاستواء ، وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه . لو قال في قوله : ( إنني معكما أسمع وأرى ) ، كيف يسمع وكيف يرى ؟ لقلنا : السمع والرؤية معلوم ، والكيف مجهول . ولو قال : كيف كلم موسى تكليما ؟ قلنا : التكليم معلوم والكيف غير معلوم . وأيضا فان من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة يقرون بأن الله فوق العرش حقيقة ، وان ذاته فوق ذات العرش ، لا ينكرون معنى الاستواء ، ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية . ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة . قال بعضهم : ارتفع على العرش : علا على العرش . وقال بعضهم عبارات أخرى . وهذه ثابتة عن السلف . وقد ذكر البخاري في ( صحيحه ) بعضها في آخره ، في ( كتاب الرد على الجهمية ) .

وأما التأويلات المحرفة مثل استولى وغير ذلك ، فهي من التأويلات المبتدعة لما ظهرت الجهمية . وأيضا قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات ، بل في ( صحيح البخاري ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : " يا عائشة ، إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمى الله ، فاحذريهم " ، وهذا عام وقصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا ، فانه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن ، حتى رآه عمر ، فسأل عمر عن : ( الذاريات ذروا ) فقال : " ما اسمك ؟ قال : عبد الله صبيغ ، فقال : وأنا عبد الله عمر ، وضربه الضرب الشديد " . وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول : " ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ " . وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : " إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه " . وكما قال تعالى : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ) ، فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد ، كالذي يعارض بين آيات القرآن . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض " فان ذلك يوقع الشك في قلوبهم / ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه الا الله ، فكان مقصودهم مذموما ، ومطلوبهم متعذرا ، مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها . ومما يبين الفرق بين المعنى والتأويل أن صبيغا سأل عمر عن الذاريات وليست من الصفات . وقد تكلم الصحابة في تفسيرها مثل علي بن أبي طالب مع ابن الكواء لما سأله عنها ، كره سؤاله ، لما رآه من قصده . لكن علي كان رعيته ملتوية عليه ، لم يكن مطاعا فيهم طاعة عمر حتى يؤدبه . والذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات فيها اشتباه ، لأن اللفظ يحتمل الرياح والسحاب والنجوم والملائكة ويحتمل غير ذلك ، اذ ليس في اللفظ ذكر الموصوف . والتأويل الذي لا يعلمه الا الله هو أعيان الرياح ومقاديرها وصفاتها وأعيان السحاب وما تحمله من الأمطار ومتى ينزل المطر . وكذلك في الجاريات والمقسمات ، فهذا لا يعلمه الا الله تعالى . وكذلك في قوله : " أنا ونحن " ونحوهما من أسماء الله التي فيها معنى الجمع كما اتبعته النصارى ، فان معناه معلوم وهو الله سبحانه ، لكن اسم الجمع يدل على تعدد المعاني بمنزلة الأسماء المتعددة ، مثل العليم والقدير والسميع والبصير ، فان المسمى واحد ، ومعاني الأسماء متعددة ، فهكذا الاسم الذي لفظه الجمع . وأما التأويل الذي اختص الله به ، فحقيقة ذاته وصفاته ، كما قال مالك : والكيف مجهول فإذا قالوا : ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره ؟ قيل : هذا هو التأويل الذي لا يعلمه الا الله . وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله . / فان قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " . قيل ، أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه ، واللام هنا للتأويل المعهود ، لم يقل تأويل كل القرآن ، فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مخبرها الا الله ، والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله . وهذا كقوله : ( هل ينظرون الا تأويله يوم يأتي تأويله ) وقوله : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ) فان المراد تأويل الخبر الذي فيه عن المستقبل ، فانه هو الذي ينتظر ويأتي ، ولما يأتهم . وأما تأويل الأمر والنهي فذاك في الأمر ، وتأويل الخبر عن الله وعمن مضى ان أدخل في التأويل لا ينتظر ، والله سبحانه أعلم وبه التوفيق . انتهى كلام الشيخ تقي الدين . وانما سقته بطوله لما أن هذا البحث من المعارك المهمة التي قل من حررها ونهج فيها منهج الحق كالشيخ قدس سره . مع ما في خلال البحث من القواعد الجليلة في فن التفسير . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

/ وقال الامام الجليل أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني في كتاب " ايثار الحق على الخلق " في بحث سبب الاختلاف الشديد بين الفرق ما نصه :

وأما الأصل الثاني وهو السمعي فهو اختلافهم في أمرين :

أحدهما- في معرفة المحكم والمتشابه أنفسهما والتمييز بينهما حتى يرد المتشابه إلى المحكم .

وثانيهما- اختلافهم هل يعلمون تأويل المتشابه ، ثم اختلافهم في تأويله على تسليم أنهم قد عرفوا المتشابه .

ولنذكر سبب وقوع المتشابه على العقول من حيث الحكمة والدقة في كتب الله تعالى أولا ، والمشهور أن سببه الابتلاء بالزيادة في مشقة التكليف لتعظيم الثواب ، وهذا أنسب بالمتشابه من حيث اللفظ . وأما أنا فوقع لي أن سببه زيادة علم الله على علم الخلق ، فان العوائد التجربية ، والأدلة السمعية ، دلت على امتناع الاتفاق في تفاصيل الحكم ، وتفاصيل التحسين والتقبيح ، ولذلك وقع الاختلاف بين أهل العصمة من الملائكة والأنبياء ، كما قال تعالى حاكيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله : ( ما كان لي من علم بالملأ الأعلى اذ يختصمون ) وحكى الله تعالى اختلاف سليمان وداود ، وموسى وهارون ، وموسى والخضر . وصح في الحديث اختلاف موسى وآدم ، واختلاف الملائكة في حكم قاتل / المائة نفس ، إلى أمثال ذلك قد أفردتها لبيان امتناع الاتفاق في نحو ذلك ، وان علة الاختلاف التفاصيل في العلم ، فوجب من ذلك أن يكون في أحكام الله تعالى وحكمه ما تستقبحه عقول البشر ، لأن الله تعالى لو ماثلنا في جميع الأحكام والحكم دل على مماثلة لنا في العلم المتعلق بذلك وفي مؤداه ولطائفه وأصوله وفروعه ، ولذلك تجد الأمثال والنظراء في العلوم أقل اختلافا ، خصوصا من المقلدين وانما عظم الاختلاف بين الخضر وموسى لما خص به الخضر عليهما السلام . وهذه فائدة نفيسة جدا ، وبها يكون ورود المتشابه أدل على الله تعالى وعلى صدق أنبيائه ، لأن الكذابين إنما يأتون بما يوافق الطباع ، كما هو دين القرامطة والزنادقة . وقد أشار السميع إلى ذلك بقوله تعالى : ( ولو اتبع الحق أهوائهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) . وقال في رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ) وكيف يستنكر اختلاف الإنسان الظلوم الجهول وعلام الغيوب الذي جمع معارف العارفين في علمه مثل ما أخذه العصفور في منقاره من البحر الأعظم ؟ بل كيف لا يختص هذا الرب الأعظم بمعرفة ما لا نعرفه من الحكم اللطيفة التي يستلزم تفرده بمعرفتها أن يتفرد بمعرفة حسن ما تعلقت به وتأويله ، وبهذا ينشرح صدر العارف للإيمان بالمتشابه ، والإيمان بالغيب في تأويله . ولنذكر بعد هذا كل واحد من الأمرين المقدم ذكرهما على الإيجاز .

أما الأمر الأول- وهو اختلافهم في ماهيتها . فمنهم من قال : المحكم ما لا يحتمل الا معنى واحدا ، والمتشابه ما احتمل أكثر من معنى . فهؤلاء رجعوا بالمحكم إلى النص الجلي ، وما عداه متشابه . وعزاه الإمام يحيى إلى أكثر المتكلمين وطوائف من الحشوية . ومنهم من قال : المحكم ما كان إلى معرفته سبيل ، والمتشابه ما لا سبيل إلى معرفته بحال ، نحو قيام الساعة والحكمة في العدد المخصوص في حملة العرش ، وخزنة النار . ومنهم من قصر المتشابه على آيات مخصوصة . ثم اختلفوا ، فمنهم من قال : هي الحروف المقطعة في أوائل السور ، ومنهم من قال آيات الشقاوة والسعادة ، ومنهم من قال : المنسوخ ، ومنهم من قال : القصص والأمثال ، ومنهم عكس فقال : المحكم آيات مخصوصة ، وهي آيات الحلال والحرام وما عداها متشابه ، إلى غير ذلك- حكى الجميع الامام يحيى في ( الحاوي ) - واختار أن المحكم ما علم المراد بظاهره بدليل عقلي أو نقلي ، والمتشابه به ما لم يعلم المراد منه لا على قرب ولا على بعد ، مثل قيام الساعة والأعداد المبهمة . وقد ترك الامام والشيخ ابن تيمية وجها آخر من المتشابه الذي يحتاج إلى التأويل مما لا يعلمه الا الله على الصحيح ، وذلك وجه الحكم المعينة فيما لا تعرف العقول وجه حسنه ، مثل خلق أهل النار ، وترجيح عذابهم على العفو مع سبق العلم وسعة الرحمة وكمال القدرة على كل شيء ، والدليل على أن الحكمة الخفية فيه تسمى تأويلا له ، ما ذكره الله تعالى في قصة موسى والخضر ، فان قوله : ( سأنبئك بتأويل ما لم / تستطع عليه صبرا ) صريح في ذلك ، وهذا مراد في الآية ، لأن الله وصف الذين في قلوبهم زيغ بابتغائهم تأويله وذمهم بذلك ، وهم لا يبتغون علم العاقبة ، عاقبة الخبر عن الوعد والوعيد ، وما يؤول اليه ، على ما فسره الشيخ ، فهم لا يبتغون الجنة والنار والقيامة وذات الرب سبحانه كما يبغيها طالب العيان ، إنما يستقبحون شيئا من الظواهر بعقولهم فيتكلفون لها معاني كثيرة يختلفون فيها ، وكل منهم يتفرد بمعنى من غير حجة صحيحة الا مجرد الاحتمال ، وربما خالف ذلك التأويل المعلوم من الشرع فتأولوه ، وربما استلزم الوقوع في أعظم مما فروا منه ، والذي وضح لي في هذا وضوحا لا ريب فيه بحسن توفيق الله أمور :

أحدهما- أن الكلام في ذات الله تعالى على جهة التصور والتفصيل أو على جهة الاحاطة على حد علم الله ، كلاهما باطل ، بل من المتشابه الممنوع الذي لا يعلمه الا الله تعالى لقوله تعالى : ( ولا يحيطون به علما ) ولقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) وإنما تتصور المخلوقات وما هو نحوها . ولما روي من النهي عن التفكير في ذات الله ، والأمر في التفكير في آلاء الله ، ولما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ذلك مذهبه ، حتى رواه عنه الخصوم . ومن أشهر ما حفظ عنه عليه السلام في ذلك قوله في امتناع معرفة الله عز وجل على العقول : " امتنع منها بها ، واليها حاكمها " . ومن التفكير في الله والتحكم فيه والدعوى الباطلة على العقول والتكلف / لتعريفها ما لا تعرفه ، حدثت هنا البدع المتعلقة بذات الله وصفاته وأسمائه . ومن البدع في هذا الموضع بدع المشبهة على اختلاف أنواعهم ، وبدع المعطلة على اختلافهم أيضا ، فغلاتهم يعطلون الذات والصفات والأسماء . الجميع ، ومنهم الباطنية ، ودونهم الجهمية . ومن الناس من يوافقهم في بعض ذلك دون بعض . فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أتوا من تعاطي علم ما لا يعلمون . ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الإيمان بما ورد من غير تشبيه لسلموا . فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم ، ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف أعلم ، فطلبوا العلم من غير مظانه ، بل طلبوا علم ما لا يعلم ، فتعارضت أنظارهم العقلية ، وعارض بعضهم بعضا في الأدلة السمعية ، فالمشبهة ينسبون خصومهم وسائر أئمة الإسلام جميعا إلى التشبيه ، ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة . والكل حرموا طريق الجمع بين الآيات والآثار ، والاقتداء بالسلف الأخيار ، والاقتصار على جليات الأبصار ، وصحاح الآثار . وقد روى الإمام أبو طالب عليه السلام في ( أماليه ) بإسناده من حديث زيد بن أسلم " أن رجلا سأل أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة فقال : يا أمير المؤمنين ، هل تصف لنا ربنا فنزداد له حبا ؟ فغضب عليه السلام ونادى ( الصلاة جامعة ) فحمد الله وأثنى عليه إلى قوله : فكيف يوصف الذي عجزت الملائكة مع قربهم من كرسي كرامته ، وطول ولههم إليه ، وتعظيم جلال عزته ، وقربهم من غيب ملكوت قدرته أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم وهم من ملكوت القدس كلهم ومن معرفته على ما فطرهم عليه فقالوا : ( سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم ) . فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته ، وتقدمك فيه الرسل بينك وبين معرفته فأتم به واستضىء بنور هدايته ، فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها . فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ، / ولا في سنة النبي صلى الله علينه وسلم ، ولا عن أئمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله سبحانه ، فانه منتهى حق الله عليك " . وقد روى السيد في ( الأمالي ) أيضا الحديث المشهور في ( كتاب الترمذي ) عن علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ستكون فتنة ، قلت : فما المخرج منها ؟ قال : كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وفصل ما بينكم ، فهو الفاصل بين الحق والباطل ، من ابتغى الهدى من غيره أضله الله إلى قوله : من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم " . ورواه في ( أماليه ) بسند آخر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه . / ورواه ابن الأثير في ( الجامع ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث متلقى بالقبول عند علماء الأصول ، ولكن المبتدعة يرون تصانيفهم أهدى منه ، لبيانهم فيها ، على زعمهم ، المحكم من المتشابه . فمنهم من صرح بذلك وقال : إن كلامه أنفع من كلام الله تعالى ، وكتبه أهدى من كتب الله ، وهو الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العناني . وقد حمله الإمام المطهر بن يحيى على الجنون ، وقيل : لم يصح عنه . ومنهم من يلزمه ذلك وان لم يصرح به . فهذا الأمر الأول من المتشابه وهو التحكم بالنظر في ذات الله تعالى . وما يؤدي اليه .

الأمر الثاني- من المتشابه الواضح تشابهه والمنع منه ، هو النظر في سر القدر السابق في الشرور مع عظيم رحمة الله تعالى وقدرته على ما يشاء . وقد ثبت في كتاب الله تعالى تحير الملائكة الكرام عليهم السلام في ذلك وسؤالهم عنه بقولهم : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، قال إني أعلم ما لا تعلمون ) ثم ساق خبر آدم وتعليمه الأسماء وتفضيله في ذلك عليهم إلى قوله : ( ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) وفي ذلك اشارة واضحة إلى ما سيأتي من أن مراد الله بالخلق هم أهل الخير ، فالخلق كلهم كالشجرة ، وأهل الخير ثمرة تلك الشجرة ، واليه الإشارة بقوله : ( وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون ) وفي حديث الخليل عليه السلام حين دعا على العصاة ، قال / الله " كف عن عبادي . ان مصير عبدي مني احدى ثلاث : اما أن يتوب فأتوب عليه ، أو يستغفرني فأغفر له ، أو أخرج من صلبه من يعبدني " –رواه الطبراني " .

وقال الامام الغزالي في كتاب العلم في ( الإحياء ) في أقسام العلوم الباطنة : ولا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضرا ببعض الخلق ، كما يضر نور الشمس أبصار الخفافيش وكما يضر ريح الورد بالجعل . وكيف يبعد هذا ، وقولنا :إن كل شي بقضاء من الله وقدر –حق في نفسه ، وقد أضر سماعه بقوم حيث أوهم ذلك عندهم دلالة على السفه ، ونقيض الحكمة ، والرضا بالقبيح والظلم . وألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك . وكذلك سر القدر لو أفشي أوهم عند أكثر الخلق عجزا ، اذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل هذا الوهم عنهم .

وقال في شرح ( أسماء الله الحسنى ) في شرح الرحمن الرحيم : والآن إن خطر لك نوع من الشر لا ترى خيرا ، أو تحصيل ذلك الخير من غير شر أولى ، فاتهم عقلك القاصر في كلا الطرفين ، فانك مثل أم الصبي التي ترى الحجامة شرا محضا ، والغبي الذي يرى القصاص شرا محضا ، لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول ، وأنه في حقه شر محض ، ويذهل عن الخير العام الحاصل للناس كافة ، ولا يدري أن التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض ، لا ينبغي لحكيم أن يهمله . هذا أو قريب من هذا . وفي بعض كلامه نظر قد أوضحته في ( العواصم ) والسر في ذلك أن الله تعالى لا يريد الشر لكونه شرا قطعا ، وإنما يريده وسيلة إلى الخير قال : ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) ، وكما صح في الحدود والمصائب أنها كفارات ، فهذا هو سر القدر في الجملة ، وإنما الذي خفي تفصيله ومعرفته في عذاب الآخرة وشقاوة الأشقياء ، فمن الناس من كبر ذلك عليه وأداه إلى الحكم بنفي التحسين والتقبيح ، فصرحوا بنفي حكمة الله تعالى ، وهم غلاة الأشعرية ، إلا بمعنى إحكام المصنوعات في تصويرها لا سواه ، ومن الناس من أداه ذلك إلى / القول بالجبر ، ونفي قدرة العباد واختيارهم ، ومنهم من جمع بينهما . ومن الناس من جعل الوجه في تحسين ذلك من الله عدم قدرته سبحانه على هدايتهم ، وهم جمهور المعتزلة ، لكنهم يعتذرون عن تسميته عجزا ، ويسمونه غير مقدور . ومنهم من جعل العذر في ذلك أن الله لا يعلم الغيب ، وهم غلاة القدرية ، نفاة الأقدار . وقد تقصيت الردود الواضحة عليهم ، والبراهين الفاضحة لهم في ( العواصم ) ، وجمعت في ذلك ما لم أسبق إليه ولا إلى قريب منه ، في علم . فتمت هذه المسألة في مجلد ضخم ، وبلغت أحاديث وجوب الايمان بالقدر اثنين وسبعين ، وأحاديث صحته مائة وخمسة وخمسين ، الجملة مائتان وسبعة وعشرون حديثا ، من غير الآيات القرآنية ، والأدلة البرهانية . وصنف ابن تيمية في بيان الحكمة في العذاب الأخروي ، وتبعه تلميذه ابن قيم الجوزية ، وبسط ذلك في كتابه ( حادي الأرواح إلى ديار الأفراح ) ، فأفردت ذلك في جزء لطيف ، وزدت عليه .

ومضمون كلامهم أنه لا يجوز اعتقاد أن الله لا يريد الشر لكونه شرا ، بل لابد من خير راجح يكون ذلك الشر وسيلة اليه ، وذلك الخير هو تأويل ذلك الشر السابق له على نحو تأويل الخضر لموسى . وطردوا ذلك في شرور الدارين معا . ونصر ذلك الغزالي في شرح ( الرحمن الرحيم ) ، ولنورد في ذلك حديثا واحدا ، مما يدل على المنع من الخوض في تعيين الحكمة من ذلك فنقول : قال البيهقي في كتابه ( الأسماء والصفات ) عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس : " لما بعث الله موسى وكلمه قال : اللهم ، أنت رب عظيم ، ولو شئت أن تطاع لأطعت ، ولو شئت أن لا تعصى لما عصيت ، وأنت تحب أن تطاع ، وأنت في ذلك تعصى ، فكيف هذا يا رب ؟ فأوحى الله إليه أني لا أسأل عما أفعل ، وهم يسألون . فانتهى موسى "

ورواه الهيثمي في ( في مجمع الزوائد ) ، وعزاه إلى الطبراني ، وزاد في : " فلما بعث الله عزيرا سأل الله مثلما سأل موسى ، ثلاث مرات ، فقال الله تعالى له : أتستطيع أن تصر صرة من الشمس ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع أن تجيء بمكيال من الريح ؟ قال : لا . قال : أفتستطيع / أن تجيء بمثقال أو بقيراط من نور ؟ قال : لا . قال : فهكذا لا تقدر على الذي سألت عنه . أما أني لا أجعل عقوبتك الا اني أمحو اسمك من الأنبياء . فلا تذكر فيهم . فلما بعث الله عيسى ورأى منزلته سأل عن ذلك ، كموسى . وأجيب عليه بمثل ذلك ، وقال الله تعالى : لئن لم تنته لأفعلن بك كما فعلت بصاحبك بين يديك ، فجمع عيسى من معه فقال : القدر سر الله تعالى فلا تكلفوه " .

وروى الطبراني عن وهب عن ابن عباس " أنه سئل عن القدر ؟ فقال : وجدت أطول الناس فيه حديثا أجهلهم به ، وأضعفهم فيه حديثا أعلمهم به ، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شعاع الشمس ، كلما ازداد فيه نظرا ازداد تحيرا " . قلت : ويشهد لهذه الآيات ما جاء في كتاب الله من قول الملائكة : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ) . والجواب الجملي عليهم كما مر . وأما أحاديث النهي عن الخوض في القدر فعشرة أحاديث ، رجال بعضها ثقات ، وبعضها شواهد لبعض ، كما أوضحته في ( العواصم ) وأقل من هذا مع شهادة القرآن والبرهان لذلك ، يكفي المنصف . وما حدث بسبب الخوض من الضلالات زيادة عبرة وحيرة .

الأمر الثالث- من المتشابه : الحروف المقطعة أوائل السور ، فان الجهل بالمراد بها معلوم ، كالألم والصحة . والفرق بينها وبين ( أقيموا الصلاة ) ، ونحو ذلك ضروري . ودعوى التمكن من معرفة معانيها تستلزم جواز أن ينزل الله سورة كلها كذلك أو كتابا من كتبه الكريمة ، ويستلزم جواز أن يتخاطب العقلاء بمثل ذلك ، ويلوموا من طلب منهم بيان مقاصدهم ونحو ذلك . وهذا هو اختيار زيد بن علي عليه السلام ، والقاسم والهادي عليهم السلام ، وهو نص في تفسيرهما ( المجموع ) . وكذلك الإمام يحيى عليه السلام ، ذكره في ( الحاوي ) وقولهم : / إنا مخاطبون بها فيجب أن نفهمها- مقلوب . وصوابه : أن لا نفهمها فيجب أن لا نكون مخاطبين بفهمها . وقد ذكرت في الحجة على أنها غير معلومة أكثر من عشرين حجة في ( تكميلة ترجيح أساليب القرآن ) .

الأمر الرابع- من المتشابه : المجمل الذي لا يظهر معناه بعلم ولا ظن ، سواء كان بسبب الاشتراك في معناه ، أو لغرابته ، أو عدم صحة تفسيره في اللغة والشرع ، أو غير ذلك . فقد وقع الوهم في المجمل لنوح عليه السلام ، كيف لغيره ؟ وذلك قوله ( ان ابني من أهلي وان وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح انه ليس من أهلك ) .

وأما المحكم فهو ما عدا المتشابه ، وغالبه النص الجلي ، والظاهر الذي لم يعارض ، والمفهوم الصحيح الذي لم يعارض ، والخاص والمقيد وان عارضهما العام والمطلق . ويلحق بهذا فوائد .

الأولى- الصحيح في قوله تعالى : ( وما يعلم تأويله الا الله ) الوقف على الله ، بدليل ذم مبتغى تأويل المتشابه في الآية . وهو اختيار الإمام يحيى في ( الحاوي ) واحتج بأن " أما " للتفصيل على بابها ، والتقدير و ( أما الراسخون ) بدليل قوله تعالى : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) كما تقول : أما زيد فعالم وعمرو جاهل ، أي وأما عمرو فجاهل ، يوضحه ان المخالف مسلم أن هذا هو الظاهر منها ، لكنه يقول : انه يجب تأويلها على ان المراد ذمهم بابتغاء تأويله الباطل ، فيقيد اطلاق الآية بغير حجة ، ويجعلها من المتشابه ، مع انها الفارق بين المحكم والمتشابه ، وهذا خلف .

/ وقد روى الحاكم عن ابن عباس " أنه قرأ ( ويقول الراسخون ) " وقال : صحيح . ورواه الزمخشري في ( كشافه ) قراءة عن أبي وغيره ، ورواه الإمام أبو طالب في ( أماليه ) عن علي عليه السلام . ولم يتأوله ولم يطعن فيه ، وهو في ( النهج ) أيضا ، وهو نص لا يمكن تأويله ، فان لفظه عليه السلام : اعلم أيها السائل ان الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب ، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمى تركهم التعمق ، في ما لم يكلفهم البحث عنه ، رسوخا . فاقتصر على ذلك . انتهى . بحروفه .

وأيضا فلا يجب علم جميع المكلفين بذلك عند الخصوم ، اذ في المتكلفين الأمي والعجمي ونحوهم . و إذا كان علم البعض يكفي ويخرج الخطاب بذلك عن العبث ، جاز أن يكون ذلك البعض هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن شاء الله من ملائكته وخواص عباده . والله سبحانه أعلم .

الفائدة الثانية- إذا تعارض العام والخاص ، فالمحكم هو الخاص والبناء عليه واجب ، وفيه الجمع بينهما ، وفي العكس طرح الخاص مع رجحانه بالنصوصية . وهي قاعدة كبيرة فاحفظها . ولا خلاف فيها في الاعتقاد ، لعدم القاعدة في التاريخ فيه ، ولذلك أجمعوا على اثبات الخلة للمتقين ، وتأويل نفي الخلة المطلق ، فتأمل ذلك .

الفائدة الثالثة- إذا كان التحسين العقلي مع بعض السمع فهو المحكم ، والمتشابه مخالفه ، لما وضح من تأويل الخضر بموافقة العقل ، وفي مخالفة هذه القاعدة عناد بين وضلال كبير ، فاعرفها واعتبر مواضيعها ترشد . ان شاء الله تعالى .