محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (49)

( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا49 ) .

( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ) تعجيب من تمادحهم بالتزكية التي هي التطهير والتبرئة من القبيح فعلا وقولا ، المنافية لما هم عليه من الطغيان والشرك الذي قصه تعالى عنهم قبل . فالمراد بهم اليهود . وقد حكى تعالى عنهم أنهم يقولون : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) {[1880]} . وحكى عنهم أيضا أنهم قالوا : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) {[1881]} . وأنهم قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ){[1882]} . وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس / قال : " كان اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب . وكذبوا . قال الله : اني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له . وأنزل الله : ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ) " . أي انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم فيه من الكفر والاثم العظيم . أو من ادعائهم تكفير ذنوبهم مع استحالة أن يغفر للكافر شيء من كفره أو معاصيه . وقوله تعالى : ( بل الله يزكي من يشاء ) تنبيه على أن تزكيته هي المعتد بها دون تزكية غيره . فانه العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن وقبيح . وقد ذمهم وزكى المرتضين من عباده المؤمنين .

تنبيه :

قال الزمخشري : يدخل في الآية كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى والزلفى عند الله . فان قلت : أما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[1883]} : " والله ! اني لأمين في السماء ، أمين في الأرض ؟ " قلت : انما قال ذلك حين قال له المنافقون : اعدل في القسمة ، اكذابا لهم إذ وصفوه بخلاف ما وصفه به ربه . وشتان من شهد الله له بالتزكية ومن شهد لنفسه أو شهد له من لا يعلم اه .

وقد ورد في ذم التمادح والتزكية أحاديث كثيرة . منها عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال{[1884]} : " سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يثني على رجل ويطريه في المدح فقال : أهلكتم أو قطعتم ظهر الرجل " . متفق عليه .

وعن أبي بكرة رضي الله عنه{[1885]} " أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا / فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ويحك ! قطعت عنق صاحبك ( يقوله مرارا ) ان كان أحدكم مادحا لا محالة ، فليقل : أحسب كذا وكذا ان كان يرى أنه كذلك . وحسيبه الله . ولا يزكي على الله أحدا " . متفق عليه . وعن همام بن الحرث عن المقداد رضي الله عنه{[1886]} " أن رجلا جعل يمدح عثمان رضي الله عنه . فعمد المقداد فجثا على ركبتيه . فجعل يحثو في وجهه الحصباء . فقال له عثمان : ما شأنك ؟ فقال : ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب " . رواه مسلم .

وقال الإمام أحمد{[1887]} : حدثنا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال : قال عمر بن الخطاب : " من قال : أنا مؤمن فهو كافر . ومن قال : هو عالم ، فهو جاهل . ومن قال : هو في الجنة هو في النار " . ( لم أعثر عليه في المسند . فمن ظفر به فليثبته ههنا . ) ورواه ابن مردويه من طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر أنه قال : " ان أخوف ما أخاف عليكم اعجاب المرء برأيه . فمن قال انه مؤمن فهو كافر . ومن قال هو عالم فهو جاهل . ومن قال هو في الجنة فهو في النار "

وروى الإمام أحمد عن معبد الجهني قال : " كان معاوية قلما كان يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال : وكان قلما يدع ، يوم الجمعة ، هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين . وان هذا المال حلو خضر فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه . واياكم والتمادح فانه الذبح " .

وروى ابن ماجة عنه{[1888]} : " اياكم والتمادح فانه الذبح " .

وروى ابن جرير بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال{[1889]} : " ان الرجل ليغدو بدينه ثم / يرجع وما معه منه شيء . يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا فيقول له : والله ! انك لذيت وذيت فلعله أن يرجع ولم يحل من حاجته بشيء ، وقد أسخط الله عليه ، ثم قرأ : ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم . . . ) الآية " ( ولا يظلمون فتيلا ) عطف على جملة قد حذفت ، تعويلا على دلالة الحال عليها وايذانا بأنها غنية عن الذكر . أي يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون في ذلك العقاب فتيلا ، أي أدنى ظلم وأصغره . والفتيل الخيط الذي في شق النواة أو ما يفتل بين الأصابع من الوسخ . يضرب به المثل في القلة والحقارة . وقيل : التقدير ، يثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلا . ولا يساعده مقام الوعيد . قاله أبو السعود .


[1880]:|5/ المائدة/ 18| ونصها: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما واليه المصير18).
[1881]:|2/ البقرة/ 80| ونصها: (وقالوا لن تمسنا النار الا أياما معدودات قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون80).
[1882]:|2/ البقرة/ 111| ونصها: (وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين111).
[1883]:انظر تفصيل ذلك بالحاشية رقم 3 ص 345.
[1884]:أخرجه البخاري في: 78 –كتاب الأدب، 54 –باب ما يكره من التمادح، حديث 1293.
[1885]:أخرجه البخاري في: 78 –كتاب الأدب، 54 –باب ما يكره من التمادح، حديث 1293.
[1886]:أخرجه مسلم في: 53 –كتاب الزهد والرقائق، حديث 69 (طبعتنا).
[1887]:لم أعثر عليه في المسند. فمن ظفر به فليثبته ههنا.
[1888]:أخرجه في: 33 –كتاب الأدب، 36 –باب المدح، حديث 3743 (طبعتنا).
[1889]:الأثر رقم 9477.