ولا تجسّسوا : أصلها تتجسسوا بتائين : لا تبحثوا عن عورات الناس ومعايبهم . الغيبة : ذِكر الإنسان بما يكره في غيابه .
في هذه الآية الكريمة أدبٌ رفيع للمؤمنين حتى يعيشوا في مجتمع فاضل ، تكون فيه حرياتُهم مكفولة ، وحقوقهم محفوظة ، فلا يؤخذون بالظن ، ولا يحاكَمون بريبة ، فالإنسان بريء حتى يثبت عليه الجرم .
روى الطبراني عن حارثة بن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا ظننتَ فلا تحقّق » وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : « لا تظننّ بكلمة خرجتْ من أخيك إلا خيرا ، وأنتَ تجدُ لها في الخير محملا » .
يا أيها الذين آمنوا : ابتعِدوا عن كثير من ظنّ السوء بالناس ، إن بعض الظن إثمٌ يستوجب العقوبة . وهذا تهذيبٌ رفيع لنا يرفع من مستوى مجتمعنا ، ويديم الوئامَ والمودة بيننا ، ويزيد توثيقَ رباط المجتمع الإسلامي الفاضل قُوةً ومنعة .
وهذا أمر ثانٍ من أوامر الله العليا يُبعدنا فيه عن الأعمال الدنيئة ، لتطهير قلوبنا ونظافة أخلاقنا ، حتى يكفُلَ حرياتِ الناس وحرماتِهم وكرامتهم ، التي لا يجوز أن تُنتهَك ولا تمسّ بحال من الأحوال . فما دام الإنسان في بيته قد ستر نفسه عن الناس فلا يجوز لنا أن نتتبّع عوراتِه ، ولا البحث عن سرائره ، لأن الإسلام يريد أن يعيش الناس آمنين على أنفسهم مطمئنين في بيوتهم ، ولنا الظواهُر ، ولا يجوز لنا أن نتعقب بواطن الناس وما أخفوه .
قال عبد الرحمن بن عوف : حرستُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بالمدينة ، إذ تبين لنا سراجٌ في بيتٍ بابه مغلقٌ على قوم لهم أصوات مرتفعة ولَغَط ، فقال عمر : هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف ، وهم الآن يشربون ، فما ترى ؟ قلت : أرى أنّا قد أتينا ما نهى الله عنه ، قال تعالى : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } وقد تجسّسنا . فانصرفَ عمر وتركهم .
وفي الحديث الصحيح : « من ستر عورةً فكأنما استحيا موْؤدة من قبرِها » رواه أبو داود والنسائي .
وفي الحديث أيضا عن سفيان الثوري عن معاوية بن أبي سفيان : قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إنك إن اتبعت عوراتِ الناس أفسدتَهم أو كِدتَ تفسدهم » رواه أبو داود .
{ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ }
ولا يذكرْ بعضكم بعضا بما يكره في غيبته ولو بإشارة أو نحو ذلك ، لما في ذلك من أذى للناس . والمراد بما يكره : ما يكرهه في دينه أو دنياه أو خلُقه أو خلْقه أو ماله أو ولده أو زوجته وفي كل ما يؤذيه .
قال الحسن البصري : الغيبة ثلاثة أوجه كلّها في كتاب الله : الغيبة ، والإفك والبهتان .
فأما الغيبة : فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه . وأما الإفك : فأن تقول فيه ما بلغك عنه وقد يكون ذلك غير صحيح . وأما البهتان : فأن تقول فيه ما ليس فيه . والغيبة من الجرائم الكبيرة ، والذي يريد التوبة منها عليه أن يستغفر لمن اغتابه ، أو يذهب إليه ويطلب العفو منه .
ولبشاعة الغيبة ، وكراهتها يعبّر عنها الله تعالى بهذا التعبير العجيب للتنفير منها والبعد عن إيذاء الناس فيقول :
{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ }
تصوروا هذا التمثيلَ الفظيع الذي تتأذى منه النفوس . وقد وردتْ أحاديثُ كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تنفر المسلمين من الغيبة ، ليرفع الله من نفوسهم ويطهرها ، ويبني مجتمعا طاهرا مثاليا .
واستثنى العلماء من تحريم الغيبة ، الملحدَ في الدين ، والحاكمَ الجائر ، والفاسقَ المجاهِر بالفسق ، وتجريحَ الشاهد عند القاضي ، والمتظلّمَ في أمر هام ، وراوي حديث الرسول الكريم ، { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ } [ النساء : 148 ] .
ثم بعد ذلك يأتي تعبير لطيف { واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } بابُه دائماً مفتوح للتوبة ، وهو مع كل ما يأتيه الناس من مخالفات ومعاصي رحيم يقبل التوبة فلا تقنطوا من رحمة الله .
قرأ يعقوب : ميتا بتشديد الياء . والباقون : ميتا بإسكان الياء .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } قيل : نزلت الآية في رجلين اغتابا رفيقهما ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ، ويتقدم لهما إلى المنزل فيهيئ لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب ، فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره ، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام فلم يهيئ لهما شيئا ، فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئاً ؟ قال : لا ، غلبتني عيناي ، قالا له : انطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاماً ، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق إلى أسامة بن زيد ، وقل له : إن كان عنده فضل من طعام وإدام فليعطك ، وكان أسامة خازن محمد صلى الله عليه وسلم على رحله ، فأتاه فقال : ما عندي شيء ، فرجع سلمان إليهما وأخبرهما ، فقالا : كان عند أسامة طعام ولكن بخل ، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة ، فلم يجد عندهم شيئاً ، فلما رجع قالا : لو بعثناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، ثم انطلقا يتجسسان ، هل عند أسامة ما أمر لهما به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فلما جاءا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ، قالا : والله يا محمد ما تناولنا يومنا هذا لحماً ، قال : بل ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } وأراد : أن يظن بأهل الخير شرا { إن بعض الظن إثم } قال سفيان الثوري : الظن ظنان : أحدهما إثم ، وهو أن تظن وتتكلم به ، والآخر ليس بإثم وهو أن تظن ولا تتكلم . { ولا تجسسوا } التجسس : هو البحث عن عيوب الناس ، نهى الله تعالى عن البحث عن المستور من عيوب الناس وتتبع عوراتهم حتى لا يظهر على ما ستره الله منها .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تناجشوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً " . أنبأنا أبو بكر محمد بن محمد بن علي بن الحسن الطوسي بها ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفرايني ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أنبأنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يحيي بن أكثم ، أنبأنا الفضل بن موسى الشيباني ، عن الحسين بن واقد ، عن أبي أوفى بن دلهم ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورات المسلمين ، يتتبع الله عورته ، ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " . قال ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك . وقال زيد بن وهب : قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً ، فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن يظهر لنا شيء نأخذه به { ولا يغتب بعضكم بعضاً } يقول : لا يتناول بعضكم بعضاً بظهر الغيب بما يسوء مما هو فيه .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشمهيني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول : فقد بهته " .
أنبأنا أبو الطاهر الحارثي ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده " أنهم ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فقالوا : لا يأكل حتى يطعم ، ولا يرحل حتى يرحل ، فقال النبي : قد اغتبتموه . فقالوا : إنما حدثنا بما فيه ، قال : حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه " . قوله عز وجل : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه } قال مجاهد : لما قيل لهم : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً قالوا : لا ، قيل : فكرهتموه أي فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً . قال الزجاج : تأويله : إن ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحم أخيك ، وهو ميت لا يحس بذلك .
أجبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا الفريابي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، حدثني صفوان بن عمرو ، حدثنا راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير ، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم ولحومهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " . قال ميمون بن سيار : بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول : كل ، قلت : يا عبد الله ولم آكل ؟ قال : بما اغتبت عبد فلان ، فقلت : والله ما ذكرت فيه خيراً ولا شراً ، قال : ولكنك استمعت ورضيت به ، فكان ميمون لا يغتاب أحداً ولا يدع أحداً يغتاب عنده أحدا . { واتقوا الله إن الله تواب رحيم* }