ومع كل هذا فقد أنكر الذين كفروا مجيء يوم القيامة ، فقلْ لهم أيها الرسول : ستأتيكم الساعة وحقِّ ربي ، عالمِ الغيب الذي لا يغيب عن علمه مقدارُ ذرَة في السموات والأرض ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبر . . . . وكل ذلك مسطور في كتاب مبين .
قرأ حمزة والكسائي : { علاّم الغيب } ، وقرأ أهل المدينة وابن عامر و رويس : { عالِمُ الغيب } برفع الميم ، والباقون : { عالِمِ الغيب } بكسر الميم .
وقرأ الكسائي وحده : { لا يعزِب } بكسر الزاي ، والباقون : { يعزب } بضم الزاي .
قوله تعالى : " وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة " قيل : المراد أهل مكة . قال مقاتل : قال أبو سفيان لكفار مكة : واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث . " قل بلى وربي لتأتينكم " " قل " يا محمد " بلى وربي لتأتينكم " وروى هارون عن طلق المعلم قال : سمعت أشياخنا يقرؤون " قل بلى وربي ليأتينكم " بياء ، حملوه على المعنى ، كأنه قال : ليأتينكم البعث أو أمره . كما قال : " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك " {[12952]} [ الأنعام : 158 ] . فهؤلاء الكفار مقرون بالابتداء منكرون الإعادة ، وهو نقض لما اعترفوا بالقدرة على البعث ، وقالوا : وإن قدر لا يفعل . فهذا تحكم بعد أن أخبر على ألسنة الرسل أنه يبعث الخلق ، وإذا ورد الخبر بشيء وهو ممكن في الفعل مقدور ، فتكذيب من وجب صدقه محال . " عالم الغيب " بالرفع قراءة نافع وابن كثير على الابتداء ، وخبره وقرأ عاصم وأبو عمرو " عالم " بالخفض ، أي الحمد لله عالم ، فعلى هذه القراءة لا يحسن الوقف على قوله : " لتأتينكم " . وقرأ حمزة والكسائي : " علام الغيب " على المبالغة والنعت . " لا يعزب عنه " أي لا يغيب عنه ، " ويعزب " أيضا . قال الفراء : والكسر أحب إلى . النحاس وهي قراءة يحيى بن وثاب ، وهي لغة معروفة . يقال عزَب يعزِب ويعزُب إذا بعد وغاب . " مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض " أي قدر نملة صغيرة . " ولا أصغر من ذلك ولا أكبر " وفي قراءة الأعمش " ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ " بالفتح فيهما عطفا على " ذرة " . وقراءة العامة بالرفع عطفا على " مثقال " . " إلا في كتاب مبين " فهو العالم بما خلق ولا يخفى عليه شيء .
ولما ثبتت حكمته بما نشاهد من محكم الأفعال وصائب الأقوال ، فثبت بذلك علمه لأن الحكمة لا تكون إلا بالعلم ، وكان الرب الرحيم العليم لا تكمل ربوبيته إلا بالملك الظاهر والأيالة{[56339]} القاهرة التي لا شوب فيها ، ثبت البعث الذي هو محط الحكمة وموضع ظهور العدل ، فكانت نتيجة ذلك : فالله يأتي بالساعة لما ثبت من برهانها كما ترون ، فعطف عليه قوله : { وقال الذين كفروا } أي ستروا ما دلتهم عليه عقولهم{[56340]} من براهينها الظاهرة : { لا تأتينا الساعة } والإخبار عنها باطل .
ولما تقدم من الأدلة ما لا يرتاب معه ، أمره أن يجيبهم برد كلامهم مؤكداً بالقسم على أنه لم يخله من دليل ظاهر فقال : { قل بلى وربي } أي المحسن إليّ بما عمني به معكم من النعم ، وبما خصني به من تنبئتي وإرسالي إليكم - إلى غير ذلك من أمور لا يحصيها إلا هو سبحانه ، فهو أكرم من أن يدعكم من غير أن يحشركم لينتقم{[56341]} لي منكم ، ويقر عيني بما يجازيكم به من أذاكم لي ولمن اتبعني ، فإنه لا يكون سيد قط يرضى أن يبغي بعض عصاة عبيده على بعض ، ويدعهم سدى من غير تأديب ، فكيف إذا كان المبغي عليه مطيعاً له ، والباغي عاصياً عليه ، هذا ما لا يرضاه عاقل فكيف بحاكم فكيف بأحكم الحاكمين ؟ { لتأتينكم } أي الساعة لتظهر فيها{[56342]} ظهوراً تاماً الحكمة بالعدل والفضل ، {[56343]}وغير ذلك من عجائب الحكم{[56344]} والفصل{[56345]} .
ولما كان الحاكم لا يهمل رعيته إلا إذا غابوا من علمه ، ولا يهمل شيئاً من أحوالهم إلا إذا{[56346]} غاب عنه ذلك الشيء ، وكانت الساعة من عالم الغيب ، وكان ما تقدم من إثبات العلم ربما خصه متعنت بعالم الشهادة ، وصف ذاته الأقدس سبحانه بما بين{[56347]} أنه لا فرق عنده بين الغيب الذي الساعة منه والشهادة ، بل الكل عنده شهادة ، وللعناية بهذا المعنى يقدم{[56348]} الغيب إذا جمعا في الذكر ، فقال مبيناً عظمة المقسم به ليفيد حقية{[56349]} المقسم عليه لأن القسم بمنزلة الاستشهاد على الأمر ، وكلما كان المستشهد به أعلى كعباً وأبين فضلاً وأرفع منزلة كان في{[56350]} الشهادة أقوى وآكد ، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ ، واصفاً له على قراءة الجماعة ومستأنفاً ، - وهو أبلغ - على قراءة المدنيين وابن عامر ورويس عن يعقوب بالرفع{[56351]} : { عالم الغيب } وقراءة حمزة والكسائي " علام " بصيغة المبالغة كما هو أليق بالموضع .
ولما كنا لقصور علمنا متقيدين{[56352]} بما في هذا الكون مع أن الكلام فيه ، قال مصرحاً بالمقصود على أتم وجه : { لا يعزب } - أي يغيب ويبعد عزوباً قوياً - على قراءة الجماعة بالضم{[56353]} ، ولا ضعيفاً - على قراءة الكسائي بالكسر{[56354]} { عنه مثقال ذرة } أي من ذات ولا معنى ، والذرة نملة حمراء صغيرة جداً صارت مثلاً في أقل القليل فهي كناية عنه .
ولما كان في هذه السورة السباق للحمد ، وهو الكمال وجهة العلو به أوفق ولأمر الساعة ومبدأه منها بدأ بها .
ولما كان قد بين علمه بأمور السماء ، وكان المراد بها الجنس ، جمع هنا تصريحاً بذلك المراد فقال : { في السماوات } وأكد النفي بتكرير " لا " فقال : { ولا في الأرض } ولما كنا مقيدين{[56355]} بالكتاب ، ابتدأ الخبر{[56356]} بما يبهر العقل من أن كل شيء مسطور من قبل كونه ثم يكون على وفق{[56357]} ما سطر ، فإذا كشف للملائكة عن ذلك ازدادوا إيماناً وتسبيحاً وتحميداً وتقديساً ، فقال - عند حميع القراء عاطفاً على الجملة من أصلها لا{[56358]} على المثقال لأن الاستثناء يمنعه : { ولا أصغر } أي ولا يكون شيء أصغر { من ذلك } أي المثقال { ولا أكبر } أي من المثقال فما فوقه { إلا في كتاب } وإخبارنا به لما جرت به عوائدنا من تقييد العلم بالكتاب ، وأما هو سبحانه فغني عن ذلك .
ولما كان الإنسان قد يكتب الشيء ثم يغيب عنه وينسى مكانه فيعجز في استخراجه أخبر أن كتابه على خلاف ذلك ، بل هو بحيث لا يكشف من يريد اطلاعه عليه شيئاً إلا وجده في الحال فقال : { مبين * } ويجوز - ولعله أحسن - إذا تأملت هذه مع آية يونس أن يعطف على مثقال ، ويكون الاستثناء منقطعاً ، ولكن على بابها في كونها بين متنافيين ، فإن المعنى أنه لا يغيب ولا يبعد{[56359]} عنه شيء من ذلك{[56360]} لكنه محفوظ أتم حفظ في كتاب لا يراد منه كشف عن شي إلا{[56361]} كان له في غاية الإبانة ، ولعله عبر بأداة المتصل إشارة إلى أنه إن كان هناك عزوب فهو على هذه الصفة التي هي في غاية البعد عن العزوب{[56362]} ،