ثم ذكر الأعذار التي يعذر بها العبد عن الخروج إلى الجهاد ، فقال : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } أي : في التخلف عن الجهاد لعذرهم المانع .
{ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } في امتثال أمرهما ، واجتناب نهيهما { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } فيها ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، { وَمَنْ يَتَوَلَّ } عن طاعة الله ورسوله { يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } فالسعادة كلها في طاعة الله ، والشقاوة في معصيته ومخالفته .
قال ابن عباس : لما نزلت : " وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما " قال أهل الزمانة : كيف بنا يا رسول الله ؟ فنزلت " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج " أي لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد لعماهم وزمانتهم وضعفهم . وقد مضى في " التوبة " وغيرها الكلام فيه مبينا{[14005]} . والعرج : آفة تعرض لرجل واحدة ، وإذا كان ذلك مؤثرا فخلل الرجلين أولى أن يؤثر . وقال مقاتل : هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية وقد عذرهم . أي من شاء أن يسير منهم معكم إلى خيبر فليفعل . " ومن يطع الله ورسوله " فيما أمره . " يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار " قرأ نافع وابن عامر " ندخله " بالنون على التعظيم . الباقون بالياء ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لتقدم اسم الله أولا . " ومن يتول يعذبه عذابا أليما " .
ولما توعد المتخلفين بتخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توعدهم في التقاعد عن هذا الإمام القائم بعده بالحق ، {[60353]}وكان{[60354]} أهل الأعذار لا يتيسر لهم ما أريد بهذا الدعاء ، وكان الدين مبنياً على الحنيفية السمحة ، استأنف قوله تعالى مسكناً لما استثاره{[60355]} الوعيد من روعهم : { ليس على الأعمى } أي في تخلفه عن الدعاء إلى الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم أو مع غيره من أئمة الدعاء { حرج } أي ميل بثقل الإثم لأجل أن عماه موهن لسعيه وجميع بطشه ، ولأجل تأكيد المعنى تسكيناً لما ثار من روع المؤمن كرر النافي والحرج في كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الأمر فقال : { ولا على الأعرج } وإن كان نقصه أدنى من نقص العمى { حرج } وجعل كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الحكم .
ولما ذكر هذين الأثرين الخاصين المزيد ضررهما في العاقة عن كمال الجهاد ، عم بقوله : { ولا على المريض } أي بأيّ مرض { حرج } فلم يخرج أهل هذه الأعذار الذين لم يمنعهم إلا إعذارهم عن أهل الحديبية ، وأطلب الحرج المنفي ليقبل التقدير بالتخلف ولا حاجة لأن حضورهم لا يخلو عن نفع في الجهاد ، وذكر هكذا{[60356]} دون أسلوب الاستثناء إيذاناً بأنهم لم يدخلوا في الوعيد أصلاً حتى يخرجوا منه .
ولما بشر{[60357]} المطيعين لتلك الدعوة وتوعد القاعدين عنها وعذر المعذورين ، وكانت إجابة المعذورين جائزة ، بل أرفع من قعودهم ، ولذلك لم ينف إجابتهم إنما نفى الحرج ، قال معمماً عاطفاً على ما تقديره : فمن تخلف منهم فتخلفه مباح له : { ومن يطع الله } أي المحيط بجميع صفات الكمال المفيض من آثار صفاته على من يشاء ولو كان ضعيفاً ، المانع منها من يشاء وإن كان قوياً { ورسوله } من المعذورين وغيرهم فيما ندبا إليه من أي طاعة كانت إجابته { يدخله } أي الله الملك الأعظم جزاء له-{[60358]} { جنات تجري } ونبه على قرب منال الماء بإثبات الجار في قوله : { من تحتها الأنهار } أي ففي أي موضع أردت أجريت نهراً { ومن يتول } أي كائناً من{[60359]} كان من المخاطبين الآن وغيرهم ، عن طاعة من الطاعات التي أمرا{[60360]} بها من أي طاعة كانت { يعذبه } أي على توليه في الدارين أو إحداهما { عذاباً أليماً * } وقراءة أهل المدينة والشام { ندخله ونعذبه } بالنون أظهر في إرادة العظمة لأجل تعظيم النعمة والنقمة .
{ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما }
{ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } في ترك الجهاد { ومن يطع الله ورسوله يدخله } بالياء والنون { جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذّبه } بالياء والنون { عذاباً أليماً } .
قوله : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } الحرج معناه الإثم{[4260]} أي لا إثم على هؤلاء المذكورين في التخلف عن الجهاد لما بهم من أعذار أو زمانة تمنع من الكر والفر مما يقتضيه فن الحرب في ساحات القتال .
وفي الآية بيان لثلاثة أصناف من المعذورين وهم : الأعمى ، فإنه لا يستطيع مزاولة الجهاد أو الإقدام على العدو ولا يمكنه الاحتراز والحذر .
ثم الأعرج ، الذي يعجزه العرج عن مزاولة القتال وما يقتضيه ذلك من قدرة على الحركة والسعي وسرعة التنقل . أما إن كان عرجه هينا بسيطا لا يعجزه عن المجاهدة فلا يعذر في ترك الجهاد . وفي معنى الأعرج ، الأقطع وهو المقطوع اليد . وكذلك المقعد وهو أولى بالعذر .
ثم المريض الذي لا يستطيع الكر والفر وسرعة الحركة والتنقل ولا يقدر على ملاقاة العدو بالضرب والطعن ونحوهما لما به من مرض . أما إن كان مرضه هينا كالسعال أو الصداع الخفيف أو نحو ذلك مما لا يعجز صاحبه عن الجهاد فليس بمعذور .
قوله : { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار } يرغب الله المؤمنين في قتال المشركين الظالمين الذين يجحدون آيات الله ، ويصدون الناس عن دين الإسلام . والمعنى : من يطع الله ورسوله في الدعوة إلى جهاد المشركين وإلى القتال في صفوف المؤمنين دفعا لشرور الظالمين وفتنتهم ، وابتغاء مرضاة الله وسعيا لإعلاء كلمة الإسلام ، أولئك يجزيهم ربهم خير الجزاء يوم القيامة حيث النعيم المقيم في جنات تجري من تحتها الأنهار { ومن يتول يعذبه عذابا أليما } من يعرض عن طاعة الله ورسوله فيتخلف عن الجهاد مع المؤمنين فلسوف يبوء بعذاب الذل والخزي في الدنيا ، وبالعذاب الوجيع في الآخرة{[4261]} .