الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (28)

فيه ثماني مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " يا أيها النبي " قال علماؤنا : هذه الآية متصلة : بمعنى ما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، وكان قد تأذى ببعض الزوجات . قيل : سألنه شيئا من عرض الدنيا . وقيل : زيادة في النفقة . وقيل : أذينه بغيرة بعضهن على بعض . وقيل : أمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهن وتخييرهن بين الدنيا والآخرة . وقال الشافعي رحمه الله تعالى : إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها . أمر صلى الله عليه وسلم أن يخير نساءه فاخترنه . وجملة ذلك أن الله سبحانه خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا ، وبين أن يكون نبيا مسكينا ، فشاور جبريل فأشار عليه بالمسكنة فاختارها ، فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين ، أمره الله عز وجل أن يخير زوجاته ، فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له . وقيل : إن السبب الذي أوجب التخيير لأجله ، أن امرأة من أزواجه سألته أن يصوغ لها حلقة من ذهب ، فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالذهب - وقيل بالزعفران - فأبت إلا أن تكون من ذهب ، فنزلت آية التخيير فخيرهن ، فقلن اخترنا الله ورسوله . وقيل : إن واحدة منهن اختارت الفراق . فالله أعلم .

روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم - عن جابر ابن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، قال : فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا . قال : - فقال والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " هن حولي كما ترى يسألنني النفقة ) فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ، كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ! ! فقلن : والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده . ثم اعتزلن شهرا أو تسعا وعشرين ثم نزلت عليه هذه الآية : " يا أيها النبي قل لأزواجك - حتى بلغ - للمحسنات منكن أجرا عظيما " . قال : فبدأ بعائشة فقال : ( يا عائشة ، إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك ) قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية . قالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ! بل أختار الله ورسول والدار الآخرة ، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت . قال : ( لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها ، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا ) . وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : ( يا عائشة ، إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) قالت : وقد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه ، قال ثم قال : ( إن الله يقول : " يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا - حتى بلغ - للمحسنات منكن أجرا عظيما " فقلت : أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، وفعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلت . قال : هذا حديث حسن صحيح قال العلماء : وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تشاور أبويها لأنه كان يحبها ، وكان يخاف أن يحملها فرط الشباب على أن تختار فراقه ، ويعلم من أبويها أنهما لا يشيران عليها بفراقه .

الثانية- قوله تعالى : " قل لأزواجك " كان للنبي صلى الله عليه وسلم أزواج ، منهن من دخل بها ، ومنهن من عقد عليها ولم يدخل بها ، ومنهن من خطبها فلم يتم نكاحه معها . فأولهن : خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب . وكانت قبله عند أبي هالة{[12787]} واسمه زرارة بن النباش الأسدي ، وكانت قبله عند عتيق بن عائذ ، ولدت منه غلاما اسمه عبد مناف . وولدت من أبي هالة هند بن أبي هالة ، وعاش إلى زمن الطاعون فمات فيه . ويقال : إن الذي عاش إلى زمن الطاعون هند بن هند ، وسمعت نادبته تقول حين مات : واهند بن هنداه ، واربيب رسول الله . ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت . وكانت يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة ، وتوفيت بعد أن مضى من النبوة سبع سنين ، وقيل : عشر . أو كان لها حين توفيت خمس وستون سنة . وهي أول امرأة آمنت به . وجميع أولاده منها غير إبراهيم . قال حكيم بن حزام : توفيت خديجة فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها ، ولم تكن يومئذ سنة الجنازة الصلاة عليها .

ومنهن : سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية ، أسلمت قديما وبايعت ، وكانت عند ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو ، وأسلم أيضا ، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية ، فلما قدما مكة مات زوجها . وقيل : مات بالحبشة ، فلما حلت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، فتزوجها ودخل بها بمكة ، وهاجر بها إلى المدينة ، فلما كبرت أراد طلاقها فسألته ألا يفعل وأن يدعها في نسائه ، وجعلت ليلتها لعائشة حسبما هو مذكور في الصحيح فأمسكها ، وتوفيت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين .

ومنهن : عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وكانت مسماة لجبير بن مطعم ، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم اله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، دعني أسلها من جبير سلا رفيقا ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين ، وقيل بثلاث سنين ، وبنى بها بالدينة وهي بنت تسع ، وبقيت عنده تسع سنين ، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة ، ولم يتزوج بكرا غيرها . وماتت سنة تسع وخمسين ، وقيل ثمان وخمسين .

ومنهن : حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها ، فأتاه جبريل فقال : ( إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة ) فراجعها . قال الواقدي : وتوفيت في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية ، وهي ابنة ستين سنة . . وقيل : ماتت في خلافة عثمان بالمدينة .

ومنهن : أم سلمة ، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية واسم أبي أمية سهيل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوال سنة أربع ، زوجها منه ابنها سلمة على الصحيح ، وكان عمر ابنها صغيرا ، وتوفيت في سنة تسع وخمسين . وقيل : سنة ثنتين وستين ، والأول أصح . وصلى ، عليها سعيد ابن زيد . وقيل أبو هريرة . وقبرت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة .

ومنهن ، أم حبيبة ، واسمها رملة بنت أبي سفيان . بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضميري إلى النجاشي ، ليخطب عليه أم حبيبة فزوجه إياها ، وذلك سنة سبع من الهجرة ، وأصدق النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار ، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة ، وتوفيت سنة أربع وأربعين . وقال الدارقطني : كانت أم حبيبة تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض ، الحبشة على النصرانية ، فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، وأمهرها عنه أربعة آلاف ، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة .

ومنهن : زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية ، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ، وكان اسم أبيها برة ، فقالت : يا رسول الله ، بدل اسم أبي فإن البرة حقيرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم : ( لو كان أبوك مؤمنا سميناه باسم رجل منا أهل البيت ولكني قد سميته جحشا والجحش من البرة ) ذكر هذا الحديث الدارقطني . تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في سنة خمس من الهجرة ، وتوفيت سنة عشرين ، وهي بنت ثلاث وخمسين .

ومنهن : زينب بنت خذيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية ، كانت تسمى في الجاهلية أم المساكين ، لإطعامها إياهم . تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهرا من الهجرة ، فمكثت عنده ثمانية أشهر ، وتوفيت في حياته في آخر ربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهرا ، ودفنت بالبقيع .

ومنهن : جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية ، أصابها في غزوة بني المصطلق فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس فكاتبها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها ، وذلك في شعبان سنة ست ، وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية ، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين . وقيل : سنة خمسين وهي ابنة خمس وستين .

ومنهن : صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية ، سباها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر واصطفاها لنفسه ، وأسلمت وأعتقها ، وجعل عتقها صداقها . . وفي الصحيح : أنها وقعت في سهم دحية الكلبي فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس ، وماتت في سنة اثنتين وخمسين . وقيل : سنة اثنتين وخمسين ، ودفنت بالبقيع .

ومنهن : ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة من بني النضير ، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها ، وتزوجها في سنة ست ، وماتت مرجعه من حجة الوداع ، فدفنها بالبقيع . وقال الواقدي : ماتت سنة ست عشرة وصلى عليها عمر . قال أبو الفرج الجوزي : وقد سمعت من يقول : إنه كان يطؤها بملك اليمين ولم يعتقها .

قلت : ولهذا والله أعلم لم يذكرها أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي في عداد أزواج النبي صلى .

ومنهن : ميمونة بنت الحارث الهلالية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف على عشرة أميال من مكة ، وذلك في سنة سبع من الهجرة في عمرة القضية ، وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، وقدر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، ودفنت هنالك ، وذلك في سنة إحدى وستين . وقيل : ثلاث وستين . وقيل ثمان وستين .

فهؤلاء المشهورات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ، وهن اللاتي دخل بهن ، رضي الله عنهن . فأما من تزوجهن ولم يدخل بهن فمنهن : الكلابية . واختلفوا في اسمها ، فقيل فاطمة . وقيل عمرة . وقيل العالية . قال الزهري : تزوج فاطمة بنت الضحاك الكلابية فاستعاذت منه فطلقها ، وكانت تقول : أنا الشقية . تزوجها في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة ، وتوفيت سنة ستين .

ومنهن : أسماء بنت النعمان بن الجون بن الحارث الكندية ، وهي الجونية . قال قتادة : لما دخل عليها دعاها فقالت : تعال أنت ، فطلقها . وقال غيره : هي التي استعاذت منه . وفي البخاري قال : تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل ، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين . وفي لفظ آخر قال أبو أسيد : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجونية ، فلما دخل عليها قال : ( هبي لي نفسك ) فقالت : وهل تهب الملكة نفسها للسوقة ، فأهوى بيده ليضعها عليها لتسكن ، فقالت : أعوذ بالله منك فقال : ( قد عذت بمعاذ ) ثم خرج علينا فقال : ( يا أبا أسيد ، اكسها رازقيين{[12788]} وألحقها بأهلها ) .

ومنهن : قتيلة بنت قيس ، أخت الأشعث بن قيس ، زوجها إياه الأشعث ، ثم انصرف إلى حضرموت ، فحملها إليه فبلغه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فردها إلى بلاده ، فارتد وارتدت معه . ثم تزوجها عكرمة بن أبي جهل ، فوجد من ذلك أبو بكر وجدا شديدا . فقال له عمر : إنها والله ما هي من أزواجه ، ما خيرها ولا حجبها . ولقد برأها{[12789]} الله منه بالارتداد . وكان عروة ينكر أن يكون تزوجها .

ومنهن : أم شريك الأزدية ، واسمها غزية بنت جابر بن حكيم{[12790]} ، وكانت قبله عند أبي بكر بن أبي سلمى ، فطلقها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها . وهي التي وهبت نفسها . وقيل : إن التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم .

ومنهن : خولة بنت الهزيل بن هبيرة ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهلكت قبل أن تصل إليه .

ومنهن : شراف بنت خليفه ، أخت دحية ، تزوجها ولم يدخل بها .

ومنهن ليلى بنت الخطيم ، أخت قيس ، تزوجها وكانت غيورا فاستقالته فأقالها .

ومنهن : عمرة بنت معاوية الكندية ، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قال الشعبي : تزوج امرأة من كندة فجيء بها بعد ما مات .

ومنهن : ابنة جندب بن ضمرة الجندعية . قال بعضهم : تزوجها رسول الله صلى الله عليه وأنكر بعضهم وجود ذلك .

ومنهن : الغفارية . قال بعضهم : تزوج امرأة من غفار ، فأمرها فنزعت ثيابها فرأى بياضا فقال : ( الحقي بأهلك ) . ويقال : إنما رأى البياض بالكلابية . فهؤلاء اللاتي ، عقد عليهن ولم يدخل بهن ، صلى الله عليه وسلم

فأما من خطبهن فلم يتم نكاحه معهن ، ومن وهبت له نفسها :

فمنهن : أم هانئ بنت أبي طالب ، واسمها فاختة . خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني امرأة مصبية{[12791]} واعتذرت إليه فعذرها .

ومنهن : ضباعة بنت عامر .

ومنهن : صفية بنت بشامة بن نضلة ، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وكان أصابها سباء ، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( إن شئت أنا وإن شئت زوجك ) ؟ قالت : زوجي . فأرسلها ، فلعنتها بنو تميم ، قاله ابن عباس .

ومنهن : أم شريك . وقد تقدم ذكرها .

ومنهن : ليلى بنت الخطيم ، وقد تقدم ذكرها .

ومنهن : خولة بنت حكم بن أمية ، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فأرجأها ، فتزوجها عثمان بن مظعون .

ومنهن : جمرة بنت الحارث بن عوف المري ، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبوها : إن بها سوءا ولم يكن بها ، فرجع إليها أبوها وقد برصت ، وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر .

ومنهن : سودة القرشية ، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مصبية . فقالت : أخاف أن يضغو{[12792]} صبيتي عند رأسك . فحمدها ودعا لها .

ومنهن : امرأة لم يذكر اسمها . قال مجاهد : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت : أستأمر أبي . فلقيت أباها فأذن لها ، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( قد التحفنا لحافا غيرك ) . فهؤلاء جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكان له من السراري سريتان : مارية القبطية ، وريحانة ، في قول قتادة . وقال غيره : كان له أربع : مارية ، وريحانة ، وأخرى جميلة أصابها في السبي ، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش .

الثالثة- قوله تعالى : " إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها " " إن " شرط ، وجوابه " فتعالين " ، فعلق التخيير على شرط . وهذا يدل على أن التخيير والطلاق المعلقين على شرط صحيحان ، فينفذان ويمضيان ، خلافا للجهال المبتدعة الذين يزعمون أن الرجل إذا قال لزوجته : أنت طالق إن دخلت الدار ، أنه لا يقع الطلاق إن دخلت الدار ، لأن الطلاق الشرعي هو المنجز في الحال لا غير .

الرابعة- قوله تعالى : " فتعالين " هو جواب الشرط ، وهو فعل جماعة النساء ، من قولك تعالى ، وهو دعاء إلى الإقبال إليه يقال : تعال بمعنى أقبل ، وضع لمن له جلالة ورفعة ، ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال ، وأما في هذا الموضع فهو على أصله ، فإن الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمتعكن " قد تقدّم الكلام في المتعة في " البقرة " {[12793]} . وقرئ " أمتعُكن " بضم العين . وكذا " أسرحكن " بضم الحاء على الاستئناف . والسراح الجميل : هو أن يكون طلاقا للسنة من غير ضرار ولا منع واجب لها .

الخامسة- اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين : الأول : أنه خيرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق ، فاخترن البقاء ، قالته عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي وابن شهاب وربيعة . ومنهن من قال : إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن ، لتكون لهن المنزلة العليا كما كانت لزوجهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، ذكره الحسن وقتادة . ومن الصحابة علي فيما رواه عنه أحمد بن حنبل أنه قال : لم يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة .

قلت : القول الأول أصح ، لقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت : قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا في رواية : فاخترناه فلم يعده طلاقا ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور بين البقاء والطلاق ، لذلك قال : ( يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ) الحديث . ومعلوم أنه لم يرد الاستئمار في اختيار الدنيا وزينتها على الآخرة . فثبت أن الإستئمار إنما وقع في الفرقة ، أو النكاح . والله أعلم .

السادسة- واختلف العلماء في المخيرة إذا اختارت زوجها ، فقال جمهور العلماء من السلف وغيرهم وأئمة الفتوى : إنه لا يلزمه طلاق ، لا واحدة ولا أكثر ، هذا قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وعائشة . ومن التابعين عطاء ومسروق وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب . وروي عن علي وزيد أيضا : إن اختارت زوجها فواحدة بائنة ، وهو قول الحسن البصري والليث ، وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك . وتعلقوا بأن قوله : اختاري ، كناية عن إيقاع الطلاق ، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة ، كقوله : أنت بائن . والصحيح الأول ؛ لقول عائشة : خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ، فلم يعده علينا طلاقا . أخرجه الصحيحان . قال ابن المنذر : وحديث عائشة دل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا ، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق ، ويدل على معنى ثالث ، وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها أنها تطليقة يملك زوجها رجعتها ، إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما أمره الله . وروي هذا عن عمر وابن مسعود وابن عباس . وبه قال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي . وروي عن علي أنها إذا اختارت نفسها أنها واحدة بائنة . وهو قول أبي حنيفة وأصحابه . ورواه ابن خويز منداد عن مالك . وروي عن زيد : بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث . وهو قول الحسن البصري ، وبه قال مالك والليث ، لأن الملك إنما يكون بذلك . وروي عن علي رضي الله عنه أنها إذا اختارت نفسها فليس بشيء . وروي عنه أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية .

السابعة- ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء ، والقضاء ما قضت فيهما جميعا ، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة . قال ابن شعبان : وقد اختاره كثير من أصحابنا ، وهو قول جماعة من أهل المدينة . قال أبو عمر : وعلى هذا القول أكثر الفقهاء . والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما ، وذلك أن التمليك عند مالك وهو قول الرجل لامرأته : قد ملكتك ، أي قد ملكتك ما جعل الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك ، كان القول قوله مع يمينه إذا ناكرها . وقالت طائفة من أهل المدينة : له المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها . والأول قول مالك في المشهور . وروى ابن خويز منداد . عن مالك أن للزوج أن يناكر المخيرة في الثلاث ، وتكون طلقة بائنة كما قال أبو حنيفة . وبه قال أبو الجهم . قال سحنون : وعليه أكثر أصحابنا . وتحصيل مذهب مالك : أن المخيرة إذا اختارت نفسها وهي مدخول بها فهو الطلاق كله ، وإن أنكر زوجها فلا نكرة له . وإن اختارت واحدة فليس بشيء ، وإنما الخيار البتات ، إما أخذته وإما تركته ؛ لأن معنى التخيير التسريح ، قال الله تعالى في آية التخيير : " فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا " {[12794]} فمعنى التسريح البتات ، قال الله تعالى : " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " [ البقرة : 229 ] . والتسريح بإحسان هو الطلقة الثالثة ، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم . ومن جهة المعنى أن قوله : اختاريني أو اختاري نفسك يقتضي ألا يكون له عليها سبيل إذا اختارت نفسها ، ولا يملك منها شيئا ، إذ قد جعل إليها أن تخرج ما يملكه منها أو تقيم معه إذا اختارته ، فإذا اختارت البعض من الطلاق لم تعمل بمقتضى اللفظ ، وكانت به بمنزل من خير بين شيئين فاختار غيرهما . وأما التي لم يدخل بها فله مناكرتها في التخيير والتمليك إذا زادت على واحدة ؛ لأنها تبين في الحال .

الثامنة- واختلفت الرواية عن مالك متى يكون لها الخيار ، فقال مرة : لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض . فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى افترقا من مجلسهما بطل ما كان من ذلك إليها ، وعلى هذا أكثر الفقهاء . وقال مرة : لها الخيار أبدا ما لم يعلم أنها تركت ، وذلك يعلم بأن تمكنه من نفسها بوطء أو مباشرة ، فعلى هذا إن منعت نفسها ولم تختر شيئا كان له رفعها على الحاكم لتوقع ، أو فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها . وعلى القول الأول إذا أخذت في غير ذلك من حديث أو عمل أو مشي أو ما ليس في التخيير بشيء كما ذكرنا سقط تخييرها . واحتج بعض أصحابنا لهذا القول بقوله تعالى : " فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره " {[12795]} [ النساء : 140 ] . وأيضا فإن الزوج أطلق لها القول ليعرف الخيار منها ، فصار كالعقد بينهما ، فإن قبلته وإلا سقط ، كالذي يقول : قد وهبت لك أو بايعتك ، فإن قبل وإلا كان الملك باقيا محال . هذا قول الثوري والكوفيين والأوزاعي والليث والشافعي وأبى ثور ، وهو اختيار ابن القاسم ووجه الرواية الثانية أن ذلك قد صار في يدها ملكته على زوجها بتمليكه إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها .

قلت : وهذا هو الصحيح لقوله عليه السلام لعائشة : ( إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) رواه الصحيح ، وخرجه البخاري ، وصححه الترمذي . وقد تقدم في أول الباب . وهو حجة لمن قال : إنه إذا خير الرجل امرأته أو ملكها أن لها أن تقضي في ذلك وإن افترقا من مجلسهما ، روي هذا عن الحسن والزهري ، وقال مالك في إحدى روايتيه . قال أبو عبيد : والذي عندنا في هذا الباب ، اتباع السنة في عائشة في هذا الحديث ، حين جعل لها التخيير إلى أن تستأمر أبويها ، ولم يجعل قيامها من مجلسها خروجا من الأمر . قال المروزي : هذا أصح الأقاويل عندي . وقاله ابن المنذر والطحاوي .


[12787]:في كتب الصحابة أقوال فيمن كان قبل.
[12788]:قوله "رازقيين" بالتثنية، صفة موصوف محذوف للعلم. في رواية "رازقينين" والرازقية: ثياب من كتان بيض طوال.
[12789]:كذا في الأصول وأسد الغابة، وعبارته:" وقد برأها الله بالردّة" والذي في شرح المواهب:"...وارتدّت مع أخيها فبرئت من الله ورسوله...الخ".
[12790]:في المواهب:" جابر بن عوف".
[12791]:أي ذات صبيان.
[12792]:أي يصيحوا ويضجوا.
[12793]:راجع ج 3 ص 200 فما بعد.
[12794]:راجع ج 3 ص 125.
[12795]:راجع ج 5 ص 418.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (28)

ولما تقرر بهذه الوقائع - التي نصر{[55444]} فيها سبحانه وحده بأسباب باطنه سببها ، وأمور خفية رتبها ، تعجز عنها الجيوش المتخيرة المستكثرة ، والملوك المتجبرة{[55445]} المستكبرة - ما قدم من أنه كافي من توكل عليه ، وأقبل بكليته إليه ، وختم بصفة القدرة العامة الدائمة ، تحرر{[55446]} أنه قادر على كل ما يريده ، وأنه لو شاء أجرى مع وليه كنوز الأرض ، وأنه لا يجوز لأحد أن يراعي غيره ولا أن{[55447]} يرمق بوجه ما سواه ، وعلم أن من أقبل إلى هذا الدين فإنما نفع نفسه والفضل لصاحب الدين عليه ، ومن أعرض عنه{[55448]} فإنما وبال إعراضه على نفسه ، ولا ضرر على الدين بإعراض هذا المعرض ، كما أنه لا نفع له{[55449]} بإقبال ذلك{[55450]} المقبل ، وكان قد قضى سبحانه أن من انقطع إليه حماه من الدنيا إكراماً له ورفعاً لمنزلته عن خسيسها إلى نفيس ما عنده ، لأن كل أمرها إلى {[55451]}زوال وتلاش{[55452]} واضمحلال ، ولا يعلق{[55453]} همته بذلك إلا قاصر ضال ، فأخذ سبحانه يأمر أحب الخلق إليه ، وأعزهم منزلة لديه ، المعلوم امتثاله للأمر بالتوكل والإعراض عن كل ما سواه سبحانه{[55454]} وأنه لا يختار من الدنيا غير الكفاف ، والقناعة والعفاف ، بتخيير ألصق{[55455]} الناس به تأديباً لكافة الناس ، فقال على طريق الاستنتاج مما تقدم : { يا أيها النبي } ذاكراً صفة رفعته واتصاله به سبحانه والإعلام بأسرار القلوب ، وخفايا الغيوب ، المقتضية لأن يفرغ فكره لما يتلقاه من المعارف ، ولا يعاق{[55456]} عن شيء من ذلك بشيء من أذى : { قل لأزواجك } أي نسائك : { إن كنتن } أي كوناً راسخاً { تردن } أي اختياراً عليّ { الحياة } ووصفها بما يزهد فيها ذوي الهمم ويذكر من له عقل بالآخرة فقال : { الدنيا } أي ما{[55457]} فيها من السعة والرفاهية{[55458]} والنعمة { وزينتها } أي المنافية لما أمرني به{[55459]} ربي {[55460]}من الإعراض{[55461]} عنه واحتقاره من أمرها لأنها أبغض{[55462]} خلقه إليه ، لأنها قاطعة عنه { فتعالين } أصله أن الآمر يكون أعلى من المأمور ، فيدعوه أن يرفع نفسه إليه ثم كثر حتى صار معناه : أقبل ، وهو هنا كناية عن الإخبار والإراداة بعلاقة أن المخبر يدنو إلى من يخبره { أمتعكن } أي بما أحسن به{[55463]} إليكن { وأسرحكن } أي من حبالة عصمتي { سراحاً جميلاً * } أي ليس فيه مضارة ، ولا نوع حقد ولا مقاهرة


[55444]:من م ومد، وفي الأصل وظ: بصر.
[55445]:زيدت الواو في الأصل، ولم تكن في ظ وم ومد فحذفناها.
[55446]:زيد في ظ: على.
[55447]:زيد من ظ وم ومد.
[55448]:زيد من ظ وم ومد.
[55449]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لا.
[55450]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: هذا.
[55451]:من م ومد، وفي الأصل وظ: تلاش وزوال.
[55452]:من م ومد، وفي الأصل وظ: تلاش وزوال.
[55453]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: لا تعاق.
[55454]:زيد من ظ وم ومد.
[55455]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: الضيق.
[55456]:من ظ ومد، وفي الأصل وم: لا يعاف.
[55457]:سقط من ظ.
[55458]:في م ومد: الرفاهة.
[55459]:زيد من ظ وم ومد.
[55460]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالإعراض.
[55461]:من ظ وم ومد، وفي الأصل: بالإعراض.
[55462]:من م ومد، وفي الأصل وظ: انقض.
[55463]:زيد من ظ وم ومد.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدۡنَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيۡنَ أُمَتِّعۡكُنَّ وَأُسَرِّحۡكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} (28)

قوله تعالى : { أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً ( 28 ) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا }

ذكر أنن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد تأذى ببعض الزوجات ؛ إذ سألنه شيئا من عرض الدنيا . وقيل : زيادة في النفقة ، فأُمر النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهنّ وتخييرهن بين الدنيا والآخرة .

فقد روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له ، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا ، فقال : والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، لو رأيتُ بنتَ خارجة سألتني النفقةََ فقمتُ إليها فوجأتُ{[3726]} عنقها ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " " هن حولي كما ترى يسألنني النفقة " فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها . كلاهما يقول : تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ! فقلن : والله لا نسأل الآن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين يوما ، ثم نزلت هذه الآية { أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ } حتى بلغ { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } قال : فبدأ بعائشة فقال : " يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك " قالت : وما هو يا رسول الله ؟ فتلا عليها الآية فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، وأسألك ألا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت . قال : " لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ، ولك بعثني معلما مُيَسرا " . {[3727]}

قوله : { قل لأزواجك } فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم زوجات قد دخل بهن ، وأولهن : خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب . وكانت قبله زوجة لأبي هالة وولدت منه هند بن أبي هالة . وكانت قبل أبي هالة زوجة لعتيق بن عائذ . ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت وكانت يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة ، وكان لها حين توفيت خمس وستون سنة ، وهي أول امرأة آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أولاده منها غير إبراهيم .

ثم سودة بنت زمعة العامرية أسلمت قديما وبايعت ، وكانت زوجة لابن عمها واسمه السكران بن عمرو وكلاهما هاجرًا إلى الحبشة فلما قدما مكة مات زوجها . وقيل : مات بالحبشة ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر بها .

ثم عائشة بنت أبي بكر الصديق ، تزوجها رسول الله بمكة قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث سنين وبقيت عنده تسع سنوات ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة سنة ولم يتزوج بكرا غيرها .

ثم حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها فأتاه جبريل فقال : إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة ، فراجعها ، توفيت في خلافة عثمان وهي ابنة ستين سنة .

ثم أم سلمة ، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أربع من الهجرة وكان ابنها عمر صغير . وقد قُبرت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة .

ثم أم حبيبة ، واسمها رملة بنت أبي سفيان ، كانت زوجة لعبيد الله بن جحش الذي مات بأرض الحبشة على النصرانية فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف ، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة .

ثم زينب بنت جحش الأسدية ، وكان اسمها بَرَّة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ، تزوجها النبي بالمدينة سنة خمس من الهجرة ، وتوفيت سنة عشرين وهي بنت ثلاث وخمسين .

ثم زينب بنت خذيمة بن الحارث الهلالية ، وكانت تسمى في الجاهلية أم المساكين ؛ لإطعامها إياهم . مكثت عند النبي ثمانية أشهر وتوفيت في حياته ودفنت بالبقيع .

ثم جويرية بنت الحارث المصطلقية أصابها في غزوة بني المصطلق فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها ، توفيت سنة ست وخمسين وهي ابنة خمس وستين .

ثم صفية بنت حيي بن أخطب أصابها النبي يوم خيبر واصطفاها لنفسه وأسلمت وأعتقها . وماتت سنة خمسين ودفنت بالبقيع .

ثم ريحانه بنت زيد بن عمرو من بني النَّضير أعتقها النبي وتزوجها في سنة ستٍّ وماتت وهو راجع من حجة الوداع فدفنها بالبقيع .

ثم ميمونة بنت الحارث الهلالية ، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَرف على عشرة أميال من مكة سنة سبع من الهجرة ، وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم{[3728]}

قوله : { إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } المراد بالحياة الدنيا وزينتها ، ما فيها من السعة والنضارة ووجوه النعمة .

وذلك أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخيِّر نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن تتحصل لهن عندهم البحبوحة والسعة ، وبين الصبر على ما عنده من ضيق العيش ورقة الحال ولهن عند الله في مقابل ذلك خير الجزاء . فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة . ويذلك اجتمع لهن في كنفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الدنيا من حسن الذكر وطيب الثناء يوم القيامة ، وفي الآخرة ما أعده لهن من عظيم المنزلة في عليين بجوار خير زوج في العالمين . { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } أي أَقبِلن إليّ أعطكن متعة الطلاق . وهي واجبة للتي لم يُدخَل بها ولم يُفرض لها حين العقد صداق . أما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة . والمتعة للمرأة تقدر بدرع{[3729]} وخمار{[3730]} وملحفة{[3731]} وذلك على حسب السعة والإقتار ، وقد مضى تفصيل المتعة في سورة البقرة .

قوله : { وأسرّحكنّ } أي أطلقكن . وتسريح المرأة ، تطليقها . والاسم السراح ، بالفتح{[3732]}

قوله : { سراحا جميلا } أي طلاقا للسُّنة من غير ضِرار ولا منع لها من واجب . وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه . وثمة قولان في ذلك . أحدهما : أنه خيرهن بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق فاخترنَ البقاء وهو قول عائشة وآخرين .

ثانيها : أنه خيرهن بين الدنيا فيفارقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن لتكون لهن المنزلة العليا ، ولكم يخيرهن في الطلاق . وهو قول الحسن وقتادة ، وهو مروي عن علي ( رضي الله عنه ) والقول الأول الراجح ؛ لما روته عائشة من خبر ثابت في الصحيحين قالت : " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدّه طلاقا " ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا التخيير المأمور به بين البقاء والطلاق .

واختلف العلماء أيضا في المخيرة إذا اختارت زوجها هل يكون ذلك طلقة رجعية أو بائنة أو لا يلزم بذلك شيء ؟ فقد ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم أنه لا يلزمه طلاق ، لا طلقة واحدة ولا أكثر . وقيل : إن اختارت زوجها فواحدة بائنة . وهو قول الحسن البصري والليث . وروي مثله عن مالك . واحتجوا بأن قوله لها : اختاري ، كناية عن إيقاع الطلاق فإذا ما أضافه إليها وقعت طلقة . والراجح القول الأول ؛ لما أخرجه الصحيحان عن عائشة قالت : " خيرنا رسول الله صلى اله عليه وسلم ، فاخترناه ، فلم يعد علينا طلاقا " قال ابن المنذر : وحديث عائشة يدل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا .

واختلفوا في المخيرة إذا اختارت نفسها فهل ذلك طلقة رجعية أو بائنة ؟ فقد قيل : طلقة رجعية يملك زوجها رجعتها . وقد روي عن عمر وابن مسعود وابن عباس . وهو قول ابن أبي ليلى والثوري والشافعي .

وقيل : إذا اختارت نفسها فتلك طلقة واحدة بائنة . وهو قول الحنفية . وهي رواية عن مالك{[3733]} .


[3726]:وجأ يجأ، وجئا ووجاء. أي دفعه بجمع كفه في الصدر أو العنق. ويقال: وجأه باليد والسكين: ضربه انظر المعجم الوسيط ج 2 ص 1012
[3727]:تفسير القرطبي ج 14 ص 163 وتفسير ابن كثير ج 3 ص 479
[3728]:تفسير القرطبي ج 14 ص 162-167 وتفسير الطبري ج 21 ص 100
[3729]:درع المرأة: قميصها. انظر المصباح المنير ج 1 ص 205
[3730]:الخمار: ثوب تغطي المرأة به رأسها. وجمعه خُمُر. انظر المصباح المنير ج 1 ص 195
[3731]:الملحفة: الملاءة التي تلتحف بها المرأة. . انظر المصباح المنير ج 2 ص 212
[3732]:مختار الصحاح ص 293
[3733]:تفسير القرطبي ج 14 ص 170-173 وفتح القدير ج 3 ص 276 والكشاف ج 3 ص 258 وأحكام القرآن لابن العربي ج 3 ص 1505-1513