الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ} (4)

قوله تعالى : " ثم ارجع البصر كرتين " " كرتين " في موضع المصدر ؛ لأن معناه رجعتين ، أي مرة بعد أخرى . وإنما أمر بالنظر مرتين لأن الإنسان إذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه ما لم ينظر إليه مرة أخرى . فأخبر تعالى أنه وإن نظر في السماء مرتين لا يرى فيها عيبا بل يتحير بالنظر إليها ، فذلك قوله تعالى : " ينقلب إليك البصر خاسئا " أي خاشعا صاغرا متباعدا عن أن يرى شيئا من ذلك . يقال : خسأت الكلب أي أبعدته وطردته . وخسأ الكلب بنفسه ، يتعدى ولا يتعدى . وانخسأ الكلب أيضا . وخسأ بصره خسأ وخسوءا أي سَدِرَ{[15186]} ، ومنه قوله تعالى : " ينقلب إليك البصر خاسئا " وقال ابن عباس : الخاسئ الذي لم ير ما يهوى . " وهو حسير " أي قد بلغ الغاية في الإعياء . فهو بمعنى فاعل ، من الحسور الذي هو الإعياء . ويجوز أن يكون مفعولا من حسره بعد الشيء ، وهو معنى قول ابن عباس . ومنه قول الشاعر :

من مَدّ طرفا إلى ما فوق غايته *** ارتدّ خَسْآنَ منه الطَّرْفُ قد حَسِرَا

يقال : قد حسر بصره يحسر حسورا ، أي كَلّ وانقطع نظره من طول مدى وما أشبه ذلك ، فهو حسير ومحسور أيضا . قال :

نظرت إليها بالمُحَصَّب من مِنًى *** فعاد إليّ الطَّرْفُ وهو حَسِيرُ

وقال آخر يصف ناقة :

فَشَطْرَهَا نَظَرُ العينين محسور{[15187]}

نصب " شطرها " على الظرف ، أي نحوها . وقال آخر :

والخيل شُعْثٌ ما تزال جيادُها *** حَسْرَى تغادر بالطريق سخالَها

وقيل : إنه النادم . ومنه قول الشاعر :

ما أنا اليوم على شيء خلا *** يابنة القَيْنِ تولَّى بِحَسر

المراد " بكرتين " ها هنا التكثير . والدليل على ذلك : " ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير " وذلك دليل على كثرة النظر .


[15186]:لم يكد يبصر.
[15187]:هذا عجز لقيس بن خويلد الهذلي. وصدره: *إن العسير بها داء مخامرها* والعسير: الناقة التي لم ترض (لم تذلل).
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ} (4)

ولما كان في سياق المجازاة بالأعمال الصالحة والطالحة التي دل{[66759]} عدم الانتصاف من الظالمين في هذه الدار على أنها تكون بعد البعث وكانت العزة مقتضية لذلك ، وكان خلقه سبحانه وتعالى لهذا الوجود على هذا النظام مثبتاً لها ، وكانت أعمالهم أعمال المنكر لها ، ولا سيما تصريحهم بأنه لا بعث ، دل على عظمة عزته{[66760]} بما أبدعه من هذا السقف الرفيع البديع ، ثم بجعله محفوظاً هذا الحفظ المنيع ، على تعاقب الأحقاب{[66761]} وتكرر{[66762]} السنين ، فقال معبراً بأداة التراخي دالاً على جلاله بإدامة التكرير طول الزمان : { ثم ارجع البصر } وأكد ما{[66763]} أفهمته الآية من طلب التكرير بقوله تعالى : { كرتين } أي مرتين أخريين - هذا مدلولها لغة ، وبالنظر إلى السياق علم أن المرد مرة بعد مرة لا تزال{[66764]} تكرر ذلك لارتياد الخلل لا إلى نهاية ، كما أن " لبيك " مراد به إجابة إلى غير غاية ، وعلى ذلك دل قوله سبحانه وتعالى : { ينقلب إليك } أي من غير اختيار بل غلبة وإعياء وانكسار ، { البصر خاسئاً } أي صاغراً مطروداً ذليلاً{[66765]} بعيداً عن إصابة المطلوب { وهو } أي والحال أنه { حسير * } أي كليل تعب معيى من طول المعاودة وتدقيق النظر وبعد المسرح ، وإذا كان هذا الحال في بعض المصنوع فكيف يطلب{[66766]} العلم بالصانع في كماله من جلاله وجماله ، فكيف بمن يتفوه بالحلول أو الاتحاد حسبه جهنم وبئس المهاد .


[66759]:- زيد في الأصل: عليها، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[66760]:- من ظ وم، وفي الأصل: عزة.
[66761]:- من ظ وم، وفي الأصل: الأحكام.
[66762]:- من م، وفي الأصل وظ: تكرير.
[66763]:- من ظ وم، وفي الأصل: بما.
[66764]:- من ظ وم، وفي الأصل: لا ترك.
[66765]:- زيدت من ظ و م.
[66766]:- في م: عند طلب.
 
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي - تفسير الجلالين [إخفاء]  
{ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ} (4)

{ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير }

{ ثم ارجع البصر كرتين } كرة بعد كرة { ينقلب } يرجع { إليك البصر خاسئاً } ذليلا لعدم إدراك خلل { وهو حسير } منقطع عن رؤية خلل .