الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن يَأۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٖ مِّنَ ٱلۡغَمَامِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ} (210)

" هل ينظرون " يعني التاركين الدخول في السلم{[1870]} ، و " هل " يراد به هنا الجحد ، أي ما ينتظرون : " إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " . نظرته وانتظرته بمعنى . والنظر الانتظار . وقرأ قتادة وأبو جعفر يزيد بن القعقاع والضحاك " في ظلال من الغمام " . وقرأ أبو جعفر " والملائكة " بالخفض عطفا على الغمام ، وتقديره مع الملائكة ، تقول العرب : أقبل الأمير في العسكر ، أي مع العسكر . " ظلل " جمع ظلة في التكسير ، كظلمة وظلم وفي التَّسْليم ظُلُلات ، وأنشد سيبوبه :

إذا الوحشُ ضمَّ الوَحْشُ في ظُلُلاَتِهَا *** سواقطُ من حَرٍّ وقد كانَ أظهرا{[1871]}

وظُلاَّت وظلال ، جمع ظل في الكثير ، والقليل أظلال . ويجوز أن يكون ظلال جمع ظلة ، مثل قوله : قلة وقلال ، كما قال الشاعر : مَمْزُوجَةٌ بماءِ القِلاَلِ{[1872]}

قال الأخفش سعيد : و " الملائكة " بالخفض بمعنى وفي الملائكة . قال : والرفع أجود ، كما قال : " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة " {[1873]} ، " وجاء ربك والملك صفا صفا " {[1874]} . قال الفراء : وفي قراءة عبد الله : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام " . قال قتادة : الملائكة يعني تأتيهم لقبض أرواحهم ، ويقال يوم القيامة ، وهو أظهر . قال أبو العالية والربيع : تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام ، ويأتيهم الله فيما شاء . وقال الزجاج : التقدير في ظلل من الغمام ومن الملائكة . وقيل : ليس الكلام على ظاهره في حقه سبحانه ، وإنما المعنى يأتيهم أمر الله وحكمه . وقيل : أي بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل ، مثل : " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " {[1875]} أي بخذلانه إياهم ، هذا قول الزجاج ، والأول قول الأخفش سعيد . وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعا إلى الجزاء ، فسمى الجزاء إتيانا كما سمى التخويف والتعذيب في قصة نمروذ إتيانا فقال : " فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم " {[1876]} . وقال في قصة النضير : " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب " ، وقال : " وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها " {[1877]} . وإنما احتمل الإتيان هذه المعاني لأن أصل الإتيان عند أهل اللغة هو القصد إلى الشيء ، فمعنى الآية : هل ينظرون إلا أن يظهر الله تعالى فعلا من الأفعال مع خلق من خلقه يقصد إلى مجازاتهم ويقضي في أمرهم ما هو قاض ، وكما أنه سبحانه أحدث فعلا سماه نزولا واستواء كذلك يحدث فعلا يسميه إتيانا ، وأفعاله بلا آلة ولا علة ، سبحانه ! وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : هذا من المكتوم الذي لا يفسر . وقد سكت بعضهم عن تأويلها ، وتأولها بعضهم كما ذكرنا . وقيل : الفاء بمعنى الباء ، أي يأتيهم بظلل ، ومنه الحديث : ( يأتيهم الله في صورة ) أي بصورة امتحانا لهم ولا يجوز أن يحمل هذا وما أشبهه مما جاء في القرآن والخبر على وجه الانتقال والحركة والزوال ؛ لأن ذلك من صفات الأجرام والأجسام ، تعالى الله الكبير المتعال ، ذو الجلال والإكرام عن مماثلة الأجسام علوا كبيرا . والغمام : السحاب الرقيق الأبيض ، سمي بذلك لأنه يغم ، أي يستر ، كما تقدم{[1878]} . وقرأ معاذ بن جبل : " وقضاء الأمر " . وقرأ يحيى بن يعمر " وقضي الأمور " بالجمع . والجمهور " وقضي الأمر " فالمعنى وقع الجزاء وعذب أهل العصيان . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي " ترجع الأمور " على بناء الفعل للفاعل ، وهو الأصل ، دليله " ألا إلى الله تصير الأمور " {[1879]} ، " إلى الله مرجعكم " {[1880]} . وقرأ الباقون " ترجع " على بنائه للمفعول ، وهي أيضا قراءة حسنة ، دليله " ثم تردون " {[1881]} " ثم ردوا إلى الله " {[1882]} ، " ولئن رددت إلى ربي " {[1883]} . والقراءتان حسنتان بمعنى ، والأصل الأولى ، وبناؤه للمفعول توسع وفرع ، والأمور كلها راجعة إلى الله قبل وبعد . وإنما نبه بذكر ذلك في يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا .


[1870]:- في ز "الإسلام".
[1871]:- البيت للجعدي. ومعنى أظهر: صار في وقت الظهيرة. وصف سيرة في الهاجرة إذا استكن الوحش من حر الشمس واحتدامها ولحق بكنسه.
[1872]:- القلال (بالكسر جمع قلة بالضم): الجرة، وقيل: هو إناء للعرب كالجرة.
[1873]:- آية 158 سورة الأنعام.
[1874]:- آية 22 سورة الفجر.
[1875]:- آية 2 سورة الحشر.
[1876]:- آية 26 سورة النحل.
[1877]:- آية 47 سورة الأنبياء.
[1878]:- تراجع المسألة الأولى جـ1 ص 405
[1879]:- آية 53 سورة الشورى.
[1880]:- آية 48، 105 سورة المائدة.
[1881]:- آية 94 سورة التوبة.
[1882]:- آية 62 سورة الأنعام.
[1883]:- آية 36 سورة الكهف.