الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{ثُمَّ خَلَقۡنَا ٱلنُّطۡفَةَ عَلَقَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡعَلَقَةَ مُضۡغَةٗ فَخَلَقۡنَا ٱلۡمُضۡغَةَ عِظَٰمٗا فَكَسَوۡنَا ٱلۡعِظَٰمَ لَحۡمٗا ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ} (14)

الثانية-قوله تعالى : " نطفة " قد مضى القول في النطفة والعلقة والمضغة وما في ذلك من الأحكام في أول الحج{[11629]} والحمد لله على ذلك .

الثالثة-قوله تعالى : " ثم أنشأناه خلقا آخر " اختلف الناس في الخلق الآخر ، فقال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد : هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا . وعن ابن عباس : خروج إلى الدنيا . وقال قتادة عن فرقة : نبات شعره . الضحاك : خروج الأسنان ونبات الشعر . مجاهد : كمال شبابه ، وروي عن ابن عمر ، والصحيح أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت .

الرابعة-قوله تعالى : " فتبارك الله أحسن الخالقين " يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله " خلقا آخر " قال فتبارك الله أحسن الخالقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هكذا أنزلت ) . وفي مسند الطيالسي : ونزلت " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " الآية ، فلما نزلت قلت أنا : تبارك الله أحسن الخالقين ، فنزلت " تبارك الله أحسن الخالقين " . ويروى أن قائل ذلك معاذ ابن جبل . وروي أن قائل ذلك عبد الله بن أبي سرح ، وبهذا السبب ارتد وقال : آتي بمثل ما يأتي محمد ، وفيه نزل " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " [ الأنعام : 93 ] على ما تقدم بيانه في " الأنعام " {[11630]} . وقوله تعالى : " فتبارك " تفاعل من البركة . " أحسن الخالقين " أتقن الصانعين . يقال لمن صنع شيئا خلقه ، ومنه قول الشاعر :

ولأنت تَفْرِي ما خلقتَ وبع *** ضُ القوم يخلق ثم لا يَفْرِي{[11631]}

وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى . وقال ابن جريج : إنما قال " أحسن الخالقين " لأنه تعالى قد أذن لعيسى عليه السلام أن يخلق ، واضطرب بعضهم في ذلك . ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع ، وإنما هي منفية بمعنى الاختراع وإيجاد من العدم .

الخامسة{[11632]}-مسألة : من هذه الآية قال ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا : الله أعلم ، فقال عمر : ما تقول يا ابن عباس ؟ فقال : يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق السموات سبعا والأرضين سبعا ، وخلق ابن آدم من سبع ، وجعل رزقه في سبع ، فأراها في ليلة سبع وعشرين . فقال عمر رضي الله عنه : أعجزكم{[11633]} أن تأتوا بمثل ما أتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه . وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أبي شيبة . فأراد ابن عباس " خلق ابن آدم من سبع " بهذه الآية{[11634]} ، وبقوله " وجعل رزقه في سبع " قوله " فأنبتنا{[11635]} فيها حبا . وعنبا وقضبا . وزيتونا ونخلا . وحدائق علبا . وفاكهة وأبا " [ عبس : 27 - 31 ] الآية . السبع منها لابن آدم ، والأب للأنعام . والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء ، هذا قول . وقيل : القضب البقول لأنها تقضب ، فهي رزق ابن آدم . وقيل : القضب والأب للأنعام ، والست الباقية لابن آدم ، والسابعة هي للأنعام ؛ إذ هي من أعظم رزق ابن آدم .


[11629]:راجع ص 6 من هذا الجزء.
[11630]:راجع ج 7 ص 39.
[11631]:البيت لزهير بن أبي سلمى يمدح هرم بن سنان. والفري: القطع.
[11632]:كذا في ك و ز . وفي ب و ج وط : مسألة.
[11633]:في الدر المنثور: "أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام".
[11634]:كذا في ألأصول، وسياق الكلام يقتضي أن تكون العبارة هكذا: فأراد ابن عباس بقوله: "خلق بن آدم من سبع هذه الآية..." إلخ.
[11635]:راجع ج 19 ص 218 فما بعد.