الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (110)

قوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } فيه ثلاث مسائل :

الأولى : روى الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " قال : ( أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها عند الله ) . وقال : هذا حديث حسن . وقال أبو هريرة : نحن خير الناس للناس نسوقهم بالسلاسل إلى الإسلام . وقال ابن عباس : هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدرا والحديبية . وقال عمر بن الخطاب : من فعل فعلهم كان مثلهم . وقيل : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يعني الصالحين منهم وأهل الفضل . وهم الشهداء على الناس يوم القيامة ؛ كما تقدم في البقرة{[3351]} . وقال مجاهد : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " على الشرائط المذكورة في الآية . وقيل : معناه كنتم{[3352]} في اللوح المحفوظ . وقيل : كنتم مذ آمنتم خير أمة . وقيل : جاء ذلك لتقدم البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمته . فالمعنى كنتم عند من تقدمكم من أهل الكتب خير أمة . وقال الأخفش : يريد أهل أمة ، أي خير أهل دين ، وأنشد :

حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً *** وهل يأثَمَنْ ذو أُمَّةٍ وهو طائع{[3353]}

وقيل : هي كان التامة ، والمعنى خلقتم ووجدتم خير أمة . " فخير أمة " حال . وقيل : كان زائدة ، والمعنى أنتم خير أمة . وأنشد سيبويه : وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ{[3354]}

ومثله قوله تعالى : " كيف نكلم من كان في المهد صبيا " {[3355]} [ مريم : 29 ] . وقوله : " واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم " {[3356]} [ الأعراف : 86 ] . وقال في موضع آخر : " واذكروا إذ أنتم قليل " . وروى سفيان عن ميسرة الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة " كنتم خير أمة أخرجت للناس " قال : تجرون الناس بالسلاسل إلى الإسلام . قال النحاس : والتقدير على هذا كنتم للناس خير أمة . وعلى قول مجاهد : كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر . وقيل : إنما صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة ؛ لأن المسلمين منهم أكثر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى . فقيل : هذا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس قرني ) أي الذين بعثت فيهم .

الثانية : وإذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم ، فقد روى الأئمة من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) . الحديث{[3357]} وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدهم ، وإلى هذا ذهب معظم العلماء ، وإن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه ولو مرة في عمره أفضل ممن يأتي بعده ، وإن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل . وذهب أبو عمر بن عبد البر إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة ، وإن قوله عليه السلام : ( خير الناس قرني ) ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول . وقد جمع قرنه جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان وأهل الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود ، وقال لهم : ما تقولون في السارق والشارب والزاني . وقال مواجهة لمن هو في قرنه : ( لا تسبوا أصحابي ) . وقال لخالد بن الوليد في عمار : ( لا تسب من هو خير منك ) وروى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي ) . وفي مسند أبي داود الطيالسي عن محمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر . قال : كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( أتدرون أي الخلق أفضل إيمانا ) قلنا الملائكة . قال : ( وحق لهم بل غيرهم ) قلنا الأنبياء . قال : ( وحق لهم بل غيرهم ) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني يجدون ورقا فيعملون بما فيها فهم أفضل الخلق إيمانا ) . وروى صالح بن جبير عن أبي جمعة قال : قلنا يا رسول الله ، هل أحد خير منا ؟ قال : ( نعم قوم يجيؤون من بعدكم فيجدون كتابا بين لوحين فيؤمنون بما فيه ويؤمنون بي ولم يروني ) . وقال أبو عمر : وأبو جمعة له صحبة واسمه حبيب بن سباع ، وصالح بن جبير من ثقات التابعين . وروى أبو ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن أمامكم أياما الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعمل مثله عمله ) قيل : يا رسول الله ، منهم ؟ قال : ( بل منكم ) . قال أبو عمر : وهذه اللفظة " بل منكم " قد سكت عنها بعض المحدثين فلم يذكرها . وقال عمر بن الخطاب في تأويل قوله : " كنتم خير أمة أخرجت للناس " قال : من فعل مثل فعلكم كان مثلكم . ولا تعارض بين الأحاديث ؛ لأن الأول على الخصوص ، والله الموفق .

وقد قيل في توجيه أحاديث هذا الباب : إن قرنه إنما فضل لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم ، وإن أواخر هذه الأمة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر كانوا عند ذلك أيضا غرباء ، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت كما زكت أعمال أوائلهم ، ومما{[3358]} يشهد لهذا قوله عليه السلام : ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء ) . ويشهد له أيضا حديث أبي ثعلبة ، ويشهد له أيضا قوله صلى الله عليه وسلم : ( أمتي كالمطر لا يُدْرَى أوله خير أم آخره ) . ذكره أبو داود الطيالسي وأبو عيسى الترمذي ، ورواه هشام بن عبيد الله الرازي عن مالك عن الزهري عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ) . ذكره الدارقطني في مسند حديث مالك . قال أبو عمر : هشام بن عبيد الله ثقة لا يختلفون في ذلك . وروي أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن اكتب إلي بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها ، فكتب إليه سالم : إن عملت بسيرة عمر ، فأنت أفضل من عمر لأن زمانك ليس كزمان عمر ، ولا رجالك كرجال عمر . قال : وكتب إلى فقهاء زمانه ، فكلهم كتب إليه بمثل قول سالم . وقد عارض بعض الجلة من العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس قرني ) بقوله صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله ) .

قال أبو عمر : فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها . والمعنى في ذلك ما تقدم ذكره من الإيمان والعمل الصالح في الزمان الفاسد الذي يرفع فيه من أهل العلم والدين ، ويكثر فيه الفسق والهرج ، ويذل المؤمن ويعز الفاجر ويعود الدين غريبا كما بدا غريبا ويكون القائم فيه كالقابض على الجمر ، فيستوي حينئذ أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية ، ومن تدبر آثار هذا الباب بان له الصواب{[3359]} ، والله يؤتي فضله من يشاء .

الثالثة : قوله تعالى : " تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به . فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم ، وكان ذلك سببا لهلاكهم . وقد تقدم الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أول السورة{[3360]} .

قوله تعالى : " ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم " أخبر أن إيمان أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم خير لهم ، وأخبر أن منهم مؤمنا وفاسقا ، وأن الفاسق أكثر .


[3351]:- راجع جـ2 ص 154.
[3352]:- الزيادة في د و ب.
[3353]:- البيت للنابغة الذبياني. أمة بالضم والكسر: ذو أمة: ذو دين واستقامة، والأمة: النعمة.
[3354]:- هذا عجز بيت الفرزدق، وصدره: *فكيف إذا رأيت ديار قوم*
[3355]:- راجع جـ11 ص 101.
[3356]:- راجع جـ7 ص 249، وص 394.
[3357]:- الزيادة من هـ و د وب، في د و ب: من كل من يأتي.
[3358]:- في د و ب وهـ.
[3359]:- في د و ب: الكتاب.
[3360]:- راجع ص 46 من هذا الجزء.