الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (50)

قوله تعالى : " ومصدقا " عطف على قوله : " ورسولا " . وقيل : المعنى وجئتكم مصدقا . " لما بين يدي " لما قبلي . " ولأحل لكم " فيه حذف ، أي ولأحل لكم جئتكم . " بعض الذي حرم عليكم " يعني من الأطعمة . قيل : إنما أحل لهم عيسى عليه السلام ما حرم عليهم بذنوبهم ولم يكن في التوراة ، نحو أكل الشحوم وكل ذي ظفر . وقيل : إنما أحل لهم أشياء حرمتها عليهم الأحبار ولم تكن في التوراة محرمة عليهم . قال أبو عبيدة : يجوز أن يكون " بعض " بمعنى كل ، وأنشد لبيد :

تَرّاكُ أمكنة إذا لم أرضها *** أو يرتبط بعض النفوس حِمامُها

وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة ؛ لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل في هذا الموضع ؛ لأن عيسى صلى الله عليه وسلم إنما أحل لهم أشياء مما حرمها عليهم موسى من أكل الشحوم وغيرها ولم يحل لهم القتل ولا السرقة ولا فاحشة . والدليل على هذا أنه{[3114]} روي عن قتادة أنه قال : جاءهم عيسى بألين مما جاء به موسى صلى الله عليهما وعلى نبينا ؛ لأن موسى جاءهم بتحريم الإبل وأشياء من الشحوم فجاءهم عيسى بتحليل بعضها . وقرأ النخعي " بعض الذي حرم عليكم " مثل كرم ، أي صار حراما . وقد يوضع البعض بمعنى الكل إذا انضمت إليه قرينة تدل عليه ، كما قال الشاعر{[3115]} :

أبَا منذر أفنيت فاسْتَبْقِ بعضنا *** حَنَانَيْكَ بعض الشر أهْوَنُ من بعض

يريد بعض الشر أهون من كله . " وجئتكم بآية من ربكم " إنما وحد وهي آيات ؛{[3116]} لأنها جنس واحد في الدلالة على رسالته .


[3114]:- في د: ما روى.
[3115]:- هو طرفة بن العبد، خاطب به عمرو بن هند الملك، وكنيته أبو منذر حين أمر بقتله.
[3116]:- في د: آياته.