الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} (117)

قوله تعالى : " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به " يعني في الدنيا بالتوحيد . " أن اعبدوا الله " " أن " لا موضع لها من الإعراب وهي مفسرة مثل " وانطلق الملأ منهم أن امشوا{[6189]} " [ ص : 6 ] . ويجوز أن تكون في موضع نصب أي ما ذكرت لهم إلا عبادة الله ، ويجوز أن تكون في موضع خفض أي بأن اعبدوا الله وضم النون أولى لأنهم يستثقلوا كسرة بعدها ضمة والكسر جائز على أصل التقاء الساكنين .

قوله تعالى : " وكنت عليهم شهيدا " أي حفيظا بما أمرتهم . " ما دمت فيهم " " ما " في موضع نصب أي وقت دوامي فيهم . " فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم " قيل : هذا يدل على أن الله عز وجل توفاه أن يرفعه وليس بشيء ؛ لأن الأخبار تظاهرت برفعه وأنه في السماء حي وأنه ينزل ويقتل الدجال على ما يأتي بيانه ، وإنما المعنى فلما رفعتني إلى السماء . قال الحسن : الوفاة في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أوجه : وفاة الموت وذلك قوله تعالى : " الله يتوفى الأنفس حين موتها{[6190]} " [ الزمر : 42 ] يعني وقت انقضاء أجلها . ووفاة النوم قال الله تعالى : " وهو الذي يتوفاكم بالليل{[6191]} " [ الأنعام : 60 ] يعني الذي ينيمكم . ووفاة الرفع قال الله تعالى : " يا عيسى إني متوفيك{[6192]} " [ آل عمران : 55 ] . وقوله{[6193]} " كنت أنت " " أنت هنا{[6194]} " توكيد " الرقيب " خبر " كنت " ومعناه الحافظ عليهم والعالم بهم والشاهد على أفعالهم ، وأصله المراقبة أي المراعاة ومنه المرقبة{[6195]} لأنها في موضع الرقيب من علو المكان . " وأنت على كل شيء شهيد " أي من مقالتي ومقالتهم ، وقيل على من عصى وأطاع . خرج مسلم عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بموعظة فقال : ( يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة{[6196]} عراة غرلا{[6197]} " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " [ الأنبياء : 104 ] ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي . فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح : " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " قال : فيقال لي إنهم لم يزالوا مدبرين{[6198]} مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم )


[6189]:راجع ج 15 ص 151.
[6190]:راجع ج 15 ص 260.
[6191]:راجع ج 7 ص 5.
[6192]:راجع ج 4 ص 99.
[6193]:من ك.
[6194]:من ك.
[6195]:في الأصول: الرقبة. والمثبت هو اللغة.
[6196]:الزيادة عن صحيح مسلم.
[6197]:غرل (جمع أغرل) أي غير مختونين، والمراد –والله أعلم- إنهم يحشرون كما خلقوا لا شيء معهم ولا ينقص منهم شيء، بل يتم لهم كل ما نقص منهم. "هامش مسلم".
[6198]:من ك و هـ و ب و ع.