الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلۡكَٰفِرِينَ سَلَٰسِلَاْ وَأَغۡلَٰلٗا وَسَعِيرًا} (4)

قوله تعالى : " إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا " بين حال الفريقين ، وأنه تعبد العقلاء وكلفهم ومكنهم مما أمرهم ، فمن كفر فله العقاب ، ومن وحد وشكر فله الثواب . والسلاسل : القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعا كما مضى في " الحاقة " {[15662]} . وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وهشام عن ابن عامر " سلاسلا " منونا . الباقون بغير تنوين . ووقف قنبل وابن كثير وحمزة بغير ألف . الباقون بالألف . فأما " قوارير " الأول فنونه نافع وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، ولم ينون الباقون . ووقف فيه يعقوب وحمزة بغير ألف . والباقون بالألف . وأما " قوارير " الثانية فنونه أيضا نافع والكسائي وأبو بكر ، ولم ينون الباقون . فمن نون قرأها بالألف ، ومن لم ينون أسقط منها الألف ، واختار أبو عبيد التنوين في الثلاثة ، والوقف بالألف اتباعا لخط المصحف . قال : رأيت في مصحف عثمان " سلاسلا " بالألف و " وقواريرا " الأول بالألف ، وكان الثاني مكتوبا بالألف فحكت فرأيت أثرها هناك بينا . فمن صرف فله أربع حجج : أحدها : أن الجموع أشبهت الآحاد فجمعت جمع الآحاد ، فجعلت في حكم الآحاد فصرفت . الثانية : أن الأخفش حكى عن العرب صرف جميع ما لا ينصرف إلا أفعل منك ، وكذا قال الكسائي والفراء : هو على لغة من يجر الأسماء كلها إلا قولهم هو أظرف منك فإنهم لا يجرونه ، وأنشد ابن الأنباري في ذلك قول عمرو بن كلثوم :

كأن سيوفنا فينا وفيهم *** مَخَارِيقٌ بأيدي لا عبينَا

وقال لبيد :

وجَزُورِ أيسارٍ دعوتُ لحَتْفِهَا *** بمغالِقٍ متشابِهٍ أجسامُهَا

وقال لبيد أيضا :

فضلا وذو كَرَمٍ يعينُ على الندَى *** سَمْحٌ كَسُوبُ رغائبٍ غَنَّامُهَا

فصرف مخاريق ومغالق ورغائب ، وسبيلها ألا تصرف . والحجة الثالثة : أن يقول نونت قوارير الأول لأنه رأس آية ، ورؤوس الآي جاءت بالنون ، كقوله جل وعز : " مذكورا " . " سميعا بصيرا " فنونا الأول ليوقف بين رؤوس الآي ، ونونا الثاني على الجوار للأول . والحجة الرابعة : اتباع المصاحف ، وذلك أنهما جميعا في مصاحف مكة والمدينة والكوفة بالألف . وقد احتج من لم يصرفهن بأن قال : إن كل جمع بعد الألف منه ثلاثة أحرف أو حرفان أو حرف مشدد لم يصرف في معرفة ولا نكرة ، فالذي بعد الألف منه ثلاثة أحرف قولك : قناديل ودنانير ومناديل ، والذي بعد الألف منه حرفان قول الله عز وجل : " لهدمت صوامع " [ الحج : 40 ] لأن بعد الألف منه حرفين ، وكذلك قوله : " ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا " [ الحج : 40 ] . والذي بعد الألف منه حرف مشدد شواب ودواب . وقال خلف : سمعت يحيى بن آدم يحدث عن ابن إدريس قال : في المصاحف الأول الحرف الأول بالألف والثاني بغير ألف ، فهذا حجة لمذهب حمزة . وقال خلف : رأيت في مصحف ينسب إلى قراءة ابن مسعود الأول بالألف والثاني بغير ألف . وأما أفعل منك فلا يقول أحد من العرب في شعره ولا في غيره هو أفعل منك منونا ؛ لأن من تقوم مقام الإضافة فلا يجمع بين تنوين وإضافة في حرف ؛ لأنهما دليلان من دلائل الأسماء ولا يجمع بين دليلين . قال الفراء وغيره .

قوله تعالى : " وأغلالا " جمع غل تغل بها أيديهم إلى أعناقهم . وعن جبير بن نفير عن أبي الدرداء كان يقول : ارفعوا هذه الأيدي إلى الله جل ثناؤه قبل أن تغل بالأغلال . قال الحسن : إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار ؛ لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكن إذلالا . " وسعيرا " تقدم القول فيه .


[15662]:راجع جـ 18 ص 272.