في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةٞۖ فَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ مُّحۡكَمَةٞ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلۡقِتَالُ رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ نَظَرَ ٱلۡمَغۡشِيِّ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ} (20)

16

وينتقل السياق إلى تصوير موقف المنافقين من الجهاد ، وما يعتمل في نفوسهم من جبن وخور وذعر وهلع عند مواجهة هذا التكليف ، ويكشف دخيلتهم في هذا الأمر ، كما يكشف لهم ما ينتظرهم لو ظلوا على هذا النفاق ، ولم يخلصوا ويستجيبوا ويصدقوا الله عندما يعزم الأمر ويتحتم الجهاد :

( ويقول الذين آمنوا : لولا نزلت سورة . فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ، فأولى لهم طاعة وقول معروف ، فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم . فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ! أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ? ) . .

وتطلع الذين آمنوا إلى تنزيل سورة : إما أن يكون مجرد تعبير عن شوقهم إلى سورة جديدة من هذا القرآن الذي يحبونه ، ويجدون في كل سورة منه زادا جديدا حبيبا . وإما أن يكون تطلعا إلى سورة تبين أمرا من أمور الجهاد ، وتفصل في قضية من قضايا القتال تشغل بالهم . فيقولون : ( لولا نزلت سورة ! ) . .

( فإذا أنزلت سورة محكمة ) . . فاصلة بينة لا تحتمل تأويلا - ( وذكر فيها القتال ) . . أي الأمر به . أو بيان حكم المتخلفين عنه ، أو أي شأن من شؤونه ، إذا بأولئك ( الذين في قلوبهم مرض ) . . وهو وصف من أوصاف المنافقين . . يفقدون تماسكهم ، ويسقط عنهم ستار الرياء الذي يتسترون به ، وينكشف جزعهم وضعف نفوسهم من مواجهة هذا التكليف ، ويبدون في حالة تزري بالرجال ، يصورها التعبير القرآني المبدع صورة فريدة كأنها معروضة للأنظار :

( رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ) . .

وهو تعبير لا تمكن محاكاته ، ولا ترجمته إلى أي عبارة أخرى . وهو يرسم الخوف إلى حد الهلع . والضعف إلى حد الرعشة . والتخاذل إلى حد الغشية ! ويبقى بعد ذلك متفردا حافلا بالظلال والحركة التي تشغف الخيال ! وهي صورة خالدة لكل نفس خوارة لا تعتصم بإيمان ، ولا بفطرة صادقة ، ولا بحياء تتجمل به أمام الخطر . وهي هي طبيعة المرض والنفاق !

وبينما هم في هذا التخاذل والتهافت والانهيار تمتد إليهم يد الإيمان بالزاد الذي يقوي العزائم ويشد القوائم لو تناولوه في إخلاص :

( فأولى لهم طاعة وقول معروف . فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ) . .

نعم . أولى لهم من هذه الفضيحة . ومن هذا الخور . ومن هذا الهلع . ومن هذا النفاق . .

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةٞۖ فَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ مُّحۡكَمَةٞ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلۡقِتَالُ رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ نَظَرَ ٱلۡمَغۡشِيِّ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ} (20)

{ وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ } حرصاً على الجهاد لما فيه من الثواب الجزيل فالمراد بهم المؤمنون الصادقون { لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ } أي هلا أنزلت سورة يؤمر فيها بالجهاد فلولا تحضيضية ، وعن ابن مالك أن { لا } زائدة والتقدير لو أنزلت سورة وليس بشيء .

{ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال } أي بطريق الأمر به ، والمراد بمحكمة مبنية لا تشابه ولا احتمال فيها لوجه آخر سوى وجوب القتال ، وفسرها الزمخشري بغير منسوخة الأحكام . وعن قتادة كل سورة فيها القتال فهي محكمة وهو أشد القرآن على المنافقين وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن لا بخصوصية هذه الآية والمتحقق أن آيات القتال غير منسوخة وحكمها باق إلى يوم القيامة . وقيل : محكمة بالحلال والحرام .

وقرئ { نُزّلَتْ } سورة بالبناء للفاعل من نزل الثلاثي المجرد ورفع { سُورَةٌ } على الفاعل .

وقرأ زيد بن علي { نُزّلَتْ } كذلك إلا أنه نصب { سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ } ، وخرج ذلك على كون الفاعل ضمير السورة ، و { سُوَرٍ مُّحْكَمَةٌ } نصب على الحال . وقرأ هو . وابن عمير { وَذَكَرَ } مبنياً للفاعل وهو ضميره تعالى { القتال } بالنصب على أنه مفعول به { رَأَيْتَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } أي نفاق ، وقيل : ضعف في الدين { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت } أي نظر المحتضر الذي لا يطرف بصره ، والمراد تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً ، وقيل : يفعلون ذلك من شدة العداوة له عليه الصلاة والسلام ، وقيل : من خشية الفضيحة فإنهم إن تخلفوا عن القتال افتضحوا وبأن نفاقهم ، وقال الزمخشري : كانوا يدعون الحرص على الجهاد ويتمنونه بألسنتهم ويقولون : لولا أنزلت سورة في معنى الجهاد فإذا أنزلت وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه كاعوا وشق عليهم وسقط في أيديهم كقوله تعالى : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فريق مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس } [ النساء : 77 ] والظاهر ما ذكرناه أولاً من أن القائلين هم الذين أخلصوا في ايمانهم وإنما عرا المنافقين ما عرا عند نزول أمر المؤمنين بالجهاد لدخولهم فيهم بحسب ظاهر حالهم ، وقد جوز هو أيضاً أرادة الخلص من الذين آمنوا لكن كلامه ظاهر في ترجح ما ذكره أولاً عنده والظاهر أن في الكلام عليه إقامة الظاهر مقام المضمر ، وجوز أن يكون المطلوب في قوله تعالى : { لَوْلاَ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } إنزال سورة مطلقاً حيث كانوا يستأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ ، وروى نحوه عن ابن جريج . أخرج ابن المنذر عنه أنه قال في الآية : كان المؤمنون يشتاقون إلى كتاب الله تعالى وإلى بيان ما ينزل عليهم فيه فإذا نزلت السورة يذكر فيها القتال رأيت يا محمد المنافقين ينظرون إليك الخ .

{ فأولى لَهُمْ } تهديد ووعيد على ما روى عن غير واحد ، وعن أبي علي أن { أُوْلِى } فيه علم لعين الويل مبني على زنة أفعل من لفظ الويل على القلب وأصله أويل وهو غير منصرف للعلمية والوزن ، فالكلام مبتدأ وخبر .

واعترض بأن الويل غير متصرف فيه ، ومثل يوم أيوم مع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصوف البتة ، وإن القلب خلاف الأصل لا يرتكب إلا بدليل ، وإن علم الجنس شيء خارج عن القياس مشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه ، ثم قيل : إن الاشتقاق الواضح من الولي بمعنى القرب كما في قوله :

تكلفني ليلى وقد شط وليها *** وعادت عواد بيننا وخطوب

يرشد إلى أنه للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء كأنه قيل : هلاكاً أولى لهم بمعنى أهلكهم الله تعالى هلاكاً أقرب لهم من كل شر وهلاك ، وهذا كما غلب بعداً وسحقاً في الهلاك ، وهو على هذا منصوب على أنه صفة في الأصل لمصدر محذوف وقد أقيم مقامه والجار متعلق به . وفي «الصحاح » عن الأصمعي أولى له قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد :

فعادى بين هاديتين منها *** وأولى أن يزيد على الثلاث

أي قارب أن يزيد ، قال ثعلب : ولم يقل أحد في { أُوْلِى } أحسن مما قاله الأصمعي ، وعلى هذا هو فعل مستتر فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق ، وقريب منه ما قيل : إنه فعل ماض وفاعله ضميره عز وجل واللام مزيدة أي أولاهم الله تعالى ما يكرهون أو غير مزيدة أي أدنى الله عز وجل الهلاك لهم ، والظاهر زيادة اللام على ما سمعت عن الأصمعي ، ومن فسره بقرب جوز الأمرين ، وقيل : هو اسم فعل والمعنى وليهم شر بعد شر ، وقيل : هو فعلى من آل بمعنى رجع لا أفعل من الولي فهو في الأصل دعاء عليهم بأن يرجع أمرهم إلى الهلاك ، والمراد أهلكهم الله تعالى إلا أن التركيب مبتدأ وخبر ، وقال الرضي : هو علم للوعيد من وليه الشر أي قربه ، والتركيب مبتدأ وخبر أيضاً . واستدل بما حكى أبو زيد من قولهم : أولاة بتاء التأنيث على أنه ليس بأفعل تفضيل ولا أفعل فعلى وأنه علم وليس بفعل ثم قال : بل هو مثل أرمل وأرملة إذا سمي بهما ولذا لم ينصرف ، وليس اسم فعل أيضاً بدليل أولاة في تأنيثه بالرفع يعني أنه معرب ولو كان اسم فعل كان مبنياً مثله . وتعقب بأنه لا مكانع من كون أولاة لفظاً آخر بمعناه فلا يرد من ذلك على قائلي ما تقدم أصلاً ، وجاء أول أفعل تفضيل وظرفاً كقبل وسمع فيه أولة كما نقله أبو حيان ، وقيل : الأحسن كونه أفعل تفضيل بمعنى أحق وأحرى وهو خبر لمبتدأ محذوف يقدر في كل مقام بما يليق به والتقدير ههنا العقاب أولى لهم ، وروى ذلك عن قتادة ومال إلى هذا القول ابن عطية ، وعلى جميع هذه الأقوال قوله تعالى : { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ }

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةٞۖ فَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ مُّحۡكَمَةٞ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلۡقِتَالُ رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ نَظَرَ ٱلۡمَغۡشِيِّ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ} (20)

{ 20-23 } { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ }

يقول تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا } استعجالا ومبادرة للأوامر الشاقة : { لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ } أي : فيها الأمر بالقتال .

{ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ } أي : ملزم العمل بها ، { وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ } الذي هو أشق شيء على النفوس ، لم يثبت ضعفاء الإيمان على امتثال هذه الأوامر ، ولهذا قال : { رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } من كراهتهم لذلك ، وشدته عليهم .

وهذا كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً }

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةٞۖ فَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ مُّحۡكَمَةٞ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلۡقِتَالُ رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ نَظَرَ ٱلۡمَغۡشِيِّ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ} (20)

قوله تعالى : { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم 20 طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم 21 فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم 22 أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم } .

يبين الله جل جلاله ههنا حال المؤمنين الصادقين الذين يتمنون نزول آية من عند الله تأمرهم بالجهاد طلبا لرضى الله وثوابه ورغبة في دفع الظلم والظالمين . وذلك بخلاف المرتابين والخائرين المنافقين فإنهم إذا أنزلت آية في القتال غشيهم من الرعب والجزع ما غشيهم . وذلك لفرط جبنهم وخورهم وفساد قلوبهم . وهو قوله سبحانه { ويقول الذين آمنوا نزلت سورة } أي يقول المؤمنون المخلصون : هلا نزّلت من عند الله سورة تأمر بقتال الكافرين ، وذلك بسبب عشقهم نزول القرآن ولعظيم حبهم للجهاد في سبيل الله . وذلك كله يكشف عن حقيقة الإخلاص في نفوس هؤلاء المؤمنين الصادقين المخبتين إلى ربهم .

قوله : { فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال } إذا أنزل الله سورة محكمة لا نسخ فيها ، أو مبيّنة غير متشابهة وقد فرض فيها الجهاد وقتال المشركين { رأيت الذين في قلوبهم مرض } أي رأيت المرتابين من الناس الذين ران على قلوبهم الشك والنفاق { ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت } يعني تشخص أبصارهم من فرط الهلع والجزع ، فهم ينظرون إليك نظر من يشخص بصره عند الموت { فأولى لهم } وذلك تهديد لهؤلاء الجبناء الخائرين الذين في قلوبهم مرض ، أو الذين يعبدون الله على حرف . و المعنى : فويل لهم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوۡلَا نُزِّلَتۡ سُورَةٞۖ فَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٞ مُّحۡكَمَةٞ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلۡقِتَالُ رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يَنظُرُونَ إِلَيۡكَ نَظَرَ ٱلۡمَغۡشِيِّ عَلَيۡهِ مِنَ ٱلۡمَوۡتِۖ فَأَوۡلَىٰ لَهُمۡ} (20)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ويقول الذين صدّقوا الله ورسوله: هلا نزلت سورة من الله تأمرنا بجهاد أعداء الله من الكفار، "فإذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ "يعني: أنها محكمة بالبيان والفرائض...

وقوله: وَذُكِرَ فِيها القِتالُ يقول: وذُكر فيها الأمر بقتال المشركين.

وقوله: "رأيْتَ الّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ" يقول: رأيت الذين في قلوبهم شك في دين الله وضعف "يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ" يا محمد، "نَظَرَ المَغْشِيّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ"، خوفا أن تغزيهم وتأمرهم بالجهاد مع المسلمين، فهم خوفا من ذلك وتجبنا عن لقاء العدوّ ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه الذي قد صرع. وإنما عنى بقوله: "مِنَ المَوْتِ": من خوف الموت، وكان هذا فعل أهل النفاق. وقوله: "فَأَوْلَى لَهُمْ" يقول تعالى ذكره: فأولى لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض.

وقوله: "فأوْلَى لَهُمْ" وعيد توعّد الله به هؤلاء المنافقين.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

إن الذين آمنوا كانوا يتمنّون إنزال السورة، ويقولون: هلاّ نزلت سورة لوجوه:

أحدها: لتكون السورة حجة لهم وآية على عدائهم في الرسالة والبعث والتوحيد. والثاني: كانوا يستبعدون بإنزال السورة أشياء، ويزداد لهم يقينا وتحقُّقا في الدين كقوله تعالى: {وإذا ما أُنزلت سورة} إلى قوله: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} [{وأما الذين في قلوبهم مرض] فزادتهم رِجسًا إلى رجسهم} [التوبة: 124 و125] على ما ذكر.

والثالث: كانوا يتمنّون نزول السورة ليتبين لهم المُصدِّق من المكذِّب والمتحقَّق من المُريب...

وقوله تعالى: {فإذا أُنزلت سورة محكمة}... أي مُحكَمة بالحُجج والبراهين...

. {وذُكر فيها القتال}... ليُتبيّن المُصدّق منهم من المكذّب لهم والمتحقَّق من المُريب، لأنه لم يكن ليظهر، ويتبين لهم المنافق من غيره إلى ذلك الوقت. فلما فُرض القتال عند ذلك ظهر وتبين لهم أهل النّفاق والارتياب من أهل الإيمان والتصديق...

{رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت} كان أهل النفاق يكرهون نزول ما يبيّن لهم ما في ضميرهم من النّفاق والارتياب...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

"ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت" أي: شخصوا بأبصارهم نحوك، ونظروا نظرا شديدا، شبه الشاخص بصره عند الموت، وإنما أصابهم مثل هذا؛ لأنهم إن قاتلوا خافوا الهلاك، وإن لم يقاتلوا خافوا ظهور النفاق.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{مُّحْكَمَةٌ} مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجهاً إلا وجوب القتال. {الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} هم الذين كانوا على حرف غير ثابتي الأقدام.

{فأولى لَهُمْ} وعيد بمعنى: فويل لهم. وهو أفعل: من الولي وهو القرب. ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذا ابتداء وصف حال المؤمنين في جدهم في دين الله وحرصهم على ظهوره وحال المنافقين من الكسل والفشل والحرص على فساد دين الله وأهله، وذلك أن المؤمنين كان حرصهم يبعثهم على تمني الظهور وتمني قتال العدو وفضيحة المنافقين ونحو ذلك مما هو ظهور للإسلام، فكانوا يأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ، والله تعالى قد جعل ذلك بآماد مضروبة وأوقات لا تتعدى، فمدح الله المؤمنين بحرصهم.

وقولهم: {لولا نزلت سورة} معناه: تتضمن إظهارنا وأمرنا بمجاهدة العدو ونحوه. ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين عند نزول أمر القتال...

{فأولى لهم}...

.والمشهور من استعمال «أولى»: أنك تقول: هذا أولى بك من هذا، أي أحق، وقد تستعمل «أولى» فقط على جهة الحذف والاختصار لما معها من القول، فتقول على جهة الزجر والتوعد: أولى لك يا فلان، وهذه الآية من هذا الباب، ومنه قوله تعالى: {أولى لك فأولى} [القيامة: 34-35]...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{لولا نزلت سورة} المراد منه سورة فيها تكليف بمحن المؤمن والمنافق...

{محكمة} فيها فائدة زائدة من حيث إنهم لا يمكنهم أن يقولوا المراد غير ما يظهر منه، أو يقولوا هذه آية وقد نسخت فلا نقاتل،... وقوله {رأيت الذين في قلوبهم مرض} أي المنافقين {ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت} لأن عند التكليف بالقتال لا يبقى لنفاقهم فائدة، فإنهم قبل القتال كانوا يترددون إلى القبيلتين وعند الأمر بالقتال لم يبق لهم إمكان ذلك {فأولى لهم} دعاء كقول القائل فويل لهم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ويقول} على سبيل التجديد المستمر {الذين آمنوا} أي ادعوا ذلك بألسنتهم وفيهم الصادق والمنافق دالين على صدقهم في إيمانهم بالتحريض على طلب الخير بتجدد الوحي الذي هو الروح الحقيقي: {لولا نزلت} على سبيل التدريج، وبناه للمفعول دلالة على إظهارهم أنهم صاروا في صدقهم في الإيمان واعتقادهم أن التنزيل لا يكون إلا من الله بحيث لا يحتاجون إلى التصريح به {سورة} أي سورة كانت لنسر بسماعها ونتعبد بتلاوتها ونعمل بما فيها كائناً ما كان... {فإذا أنزلت سورة} أي قطعة من القرآن تكامل نزولها كلها- تدريجاً أو جملة، وزادت على مطلوبهم بالحس بأنها {محكمة} أي مبينة لا- يلبس شيء منها بنوع إجمال ولا ينسخ لكونه جامعاً للمحاسن في كل- زمان ومكان {وذكر فيها القتال} بأيّ ذكر كان، والواقع أنه لا يكون إلا ذكراً مبيناً أنه- لا يزداد إلا وجوباً وتأكداً حتى تضع الحرب أوزارها...

{رأيت} أي- بالعين والقلب {الذين في قلوبهم مرض} أي ضعف في الدين أو نفاق من الذين أقروا بالإيمان وطلبوا تنزيل القرآن وكانوا قد أقسموا بالله جهد أيمانهم: لئن أمرتهم ليخرجن {ينظرون إليك} كراهة لما نزل عليك بعد أن حرضوا على طلبه {نظر المغشي عليه} ولما كان للغشي أسباب، بين أن هذا أشدها فقال تعالى: {من الموت} الذي هو نهاية الغشي فهو لا يطرف بعينه بل هو شاخص لا يطرف كراهة للقتال من الجبن والخور. ولما كان هذا أمراً منابذاً للإنسانية لأنه مباعد للدين والمروءة، سبب عنه أعلى التهديد فقال متوعداً لهم بصورة الدعاء بأن يليهم المكروه: {فأولى} أي أشد ميل وويل وانتكاس وعثار موضع لهم في الهلكة كائن {لهم} أي خاص بهم...

مضرة عليهم، أو كان الصدق أفضل لهم مما يدعون فيه خلاصا وهو فساد...

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

{فأولى لهم} أي فالموت أولى لمثل هؤلاء المنافقين، إذ حياتهم ليست في طاعة الله، فالموت خير منها، وقد يكون المعنى على التهديد والوعيد والدعاء عليهم بالهلاك، فكأنه قيل: أهلكهم الله هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك، فهو نحو قولهم في الدعاء بعدا له وسحقا...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(ويقول الذين آمنوا: لولا نزلت سورة. فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت، فأولى لهم طاعة وقول معروف، فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم. فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم! أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟).. وتطلع الذين آمنوا إلى تنزيل سورة: إما أن يكون مجرد تعبير عن شوقهم إلى سورة جديدة من هذا القرآن الذي يحبونه، ويجدون في كل سورة منه زادا جديدا حبيبا. وإما أن يكون تطلعا إلى سورة تبين أمرا من أمور الجهاد، وتفصل في قضية من قضايا القتال تشغل بالهم. فيقولون: (لولا نزلت سورة!).. (فإذا أنزلت سورة محكمة).. فاصلة بينة لا تحتمل تأويلا -(وذكر فيها القتال).. أي الأمر به. أو بيان حكم المتخلفين عنه، أو أي شأن من شؤونه، إذا بأولئك (الذين في قلوبهم مرض).. وهو وصف من أوصاف المنافقين.. يفقدون تماسكهم، ويسقط عنهم ستار الرياء الذي يتسترون به، وينكشف جزعهم وضعف نفوسهم من مواجهة هذا التكليف، ويبدون في حالة تزري بالرجال، يصورها التعبير القرآني المبدع صورة فريدة كأنها معروضة للأنظار: (رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت).. وهو تعبير لا تمكن محاكاته، ولا ترجمته إلى أي عبارة أخرى. وهو يرسم الخوف إلى حد الهلع. والضعف إلى حد الرعشة. والتخاذل إلى حد الغشية! ويبقى بعد ذلك متفردا حافلا بالظلال والحركة التي تشغف الخيال! وهي صورة خالدة لكل نفس خوارة لا تعتصم بإيمان، ولا بفطرة صادقة، ولا بحياء تتجمل به أمام الخطر. وهي هي طبيعة المرض والنفاق! وبينما هم في هذا التخاذل والتهافت والانهيار تمتد إليهم يد الإيمان بالزاد الذي يقوي العزائم ويشد القوائم لو تناولوه في إخلاص: (فأولى لهم طاعة وقول معروف. فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم).. نعم. أولى لهم من هذه الفضيحة. ومن هذا الخور. ومن هذا الهلع. ومن هذا النفاق..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

قد ذكرنا أن هذه السورة أنزلت بالمدينة وقد بدت قرون نفاق المنافقين، فلما جرى في هذه السورة وصف حال المنافقين أعقب ذلك بوصف أجلى مظاهر نفاقهم، وذلك حين يُدعَى المسلمون إلى الجهاد فقد يضيق الأمر بالمنافقين إذ كان تظاهرهم بالإسلام سيلجئهم إلى الخروج للقتال مع المسلمين، وذلك أمر ليس بالهيّن لأنه تعرض لإتلافهم النفوس دون أن يَرْجُو منه نفعاً في الحياة الأبدية إذ هم لا يصدقون بها فيَصبحوا في حيرة...

{فإذ أنزلت سورة محكمة وذُكِر فيها القتال رأيتَ الذين في قلوبهم مرض} الآية، وما قبله توطئة له بذكر سببه، وأفاد تقديمه أيضاً تنويهاً بشأن الذين آمنوا، وأفاد ذكره مقابلةً بين حالي الفريقين جريا على سنن هذه السورة...

وتبعاً لذلك تكون {إذا} في قوله: {فإذا أنزلت سورة} ظرفاً مستعملاً في الزمن الماضي لأن نزول السورة قد وقع، ونَظرُ المنافقين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هذا النظر قد وقع إذ لا يكون ذمهم وزجرهم قبل حصول ما يوجبه فالمقام دال والقرينة واضحة. و {لولا} حرف مستعمل هنا في التمني، وأصل معناه التحضيض فأطلق وأريد به التمني لأن التمني يستلزم الحرصَ والحرصُ يدعو إلى التحضيض...

وإنما قال: {وذُكِر فيها القتال} لأن السورة ليست كلها متمحضة لذكر القتال فإن سور القرآن ذوات أغراض شتّى...

و {الذين في قلوبهم مرض} هم المبطنون للكفر فجعل الكفر الخفيّ كالمرض الذي مقره القلب لا يبدو منه شيء على ظاهر الجسد، أي رأيت المنافقين على طريق الاستعارة. وقد غلب إطلاق هذه الصلة على المنافقين، وأن النفاق مرض نفساني معضل...

.وانتصب نظر المغشي عليه من الموت} على المفعولية المطلقة لبيان صفة النظر من قوله: {ينظرون إليك} فهو على معنى التشبيه البليغ...

و {مِن} هنا تعليلية، أي المغشي عليه لأجل الموت، أي حضور الموت...

ويجوز أن يكون {فأولى لهم} مستعملاً في التهديد والوعيد كما في قوله تعالى: {أوْلى لك فأوْلى ثم أولى لك فأولى} في سورة القيامة (34، 35)،...

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

في الآيات: حكاية لما كان يتمناه المخلصون من المؤمنين من نزول سورة قرآنية حاسمة تأمر بالجهاد حتى يجاهدوا في سبيل الله. وحكاية لحالة ذوي القلوب المريضة حينما ينزل الله سورة محكمة وحاسمة بذلك؛ حيث يستولي عليهم الرعب وينظرون إلى النبي نظر الذي في حالة الاحتضار المملوء بالرعب والفزع واليأس. ودعاء عليهم وتنديد بهم من أجل هذه الحالة التي تعتريهم...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

إنّ سبب اختلاف تعامل المؤمنين والمنافقين مع أمر الجهاد، ينبع من أن الفريق الأوّل قد علقوا آمالهم بالله سبحانه لإيمانهم القوي به، فهم يرجون عنايته ولطفه ونصرته، ولا خوف لديهم من الشهادة في سبيله. إنّ ميدان الجهاد بالنسبة إلى هؤلاء ميدان إظهار عشقهم لمحبوبهم، ميدان الشرف والفضيلة، ميدان تفجّر الاستعدادات والقابليات، وهو ميدان الثبات والمقاومة والانتصار، ولا معنى للخوف في مثل هذا الميدان. إلاّ أنّه بالنسبة إلى المنافقين ميدان موت وفناء وتعاسة، ميدان هزيمة ومفارقة لذائذ الدنيا، وهو أخيراً ميدان مظلم يعقبه مستقبل مرعب غامض!... إنّ جملة (أولى لهم) تعبّر في الأدب العربي عن التهديد واللعنة، وتمنّي التعاسة والفناء للآخر. وفسّرها البعض بأنّها تعني: الموت أولى لهم، ولا مانع من الجمع بينها...