في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

في هذا القطاع الأخير من السورة تستعرض كل القضايا التي تعالجها السورة . . قضية الوحي وطبيعته وقضية الألوهية والوحدانية . وقضية البعث والنشور . . تستعرض في مقاطع مفصلة . مصحوبة بمؤثرات قوية في إيقاعات عميقة . كلها تتجه إلى إبراز يد القدرة وهي تعمل كل شيء في هذا الكون وتمسك بمقاليد الأمور كلها . ويتمثل هذا المعنى مركزاً في النهاية في الآية التي تختم السورة : ( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ) . . فهذه اليد القوية المبتدعة خلقت الأنعام للبشر وذللتها لهم . وهي خلقت الإنسان من نطفة . وهي تحيي رميم العظام كما أنشأتها أول مرة . وهي جعلت من الشجر الأخضر ناراً . وهي أبدعت السماوات والأرض . وفي النهاية هي مالكة كل شيء في هذا الوجود . . وذلك قوام هذا المقطع الأخير . .

( وما علمناه الشعر - وما ينبغي له - إن هو إلا ذكر وقرآن مبين . لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ) . .

وردت قضية الوحي في أول السورة : ( يس والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم . لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون . . . ) . . والآن تجيء في صورتها هذه للرد على ما كان يدعيه بعضهم من وصف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بأنه شاعر ؛ ووصف القرآن الذي جاء به بأنه شعر . وما كان يخفى على كبراء قريش أن الأمر ليس كذلك . وأن ما جاءهم به محمد [ صلى الله عليه وسلم ] قول غير معهود في لغتهم . وما كانوا من الغفلة بحيث لا يفرقون بين القرآن والشعر . إنما كان هذا طرفاً من حرب الدعاية التي شنوها على الدين الجديد وصاحبه [ صلى الله عليه وسلم ] في أوساط الجماهير . معتمدين فيها على جمال النسق القرآني المؤثر ، الذي قد يجعل الجماهير تخلط بينه وبين الشعر إذا وجهت هذا التوجيه .

وهنا ينفي الله - سبحانه - أنه علم الرسول الشعر . وإذا كان الله لم يعلمه فلن يعلم . فما يعلم أحد شيئاً إلا ما يعلمه الله . .

ثم ينفي لياقة الشعر بالرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : وما ينبغي له فللشعر منهج غير منهج النبوة . الشعر انفعال . وتعبير عن هذا الانفعال . والانفعال يتقلب من حال إلى حال . والنبوة وحي . على منهج ثابت . على صراط مستقيم . يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله . ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة ، تقلب الشعر مع الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال .

والنبوة اتصال دائم بالله ، وتلق مباشر عن وحي الله ، ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله . بينما الشعر - في أعلى صوره - أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته . فأما حين يهبط عن صوره العالية فهو انفعالات ونزوات قد تهبط حتى تكون صراخ جسد ، وفورة لحم ودم ! فطبيعة النبوة وطبيعة الشعر مختلفتان من الأساس . هذه - في أعلى صورها - أشواق تصعد من الأرض . وتلك في صميمها هداية تتنزل من السماء . .

( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) . .

ذكر وقرآن . . وهما صفتان لشيء واحد . ذكر بحسب وظيفته . وقرآن بحسب تلاوته . فهو ذكر لله يشتغل به القلب ، وهو قرآن يتلى ويشتغل به اللسان . وهو منزل ليؤدي وظيفة محددة :

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَمَا عَلَّمۡنَٰهُ ٱلشِّعۡرَ وَمَا يَنۢبَغِي لَهُۥٓۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ وَقُرۡءَانٞ مُّبِينٞ} (69)

قوله : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعرا وما يستقيم له ولا يليق به أن يكون كذلك ؛ فأغراض الشعر جلُّها مذموم ، كالغزل والهجاء والافتخار ووصف الخمر والعورات وغير ذلك من وجوه الشعر وأغراضه المستهجنة . ولئن جرى على لسانه صلى الله عليه وسلم من الكلام ما كان موزونا فإنما ذلك من جنس كلامه الذي كان يتكلم به على طبيعته من غير صنعة فيه ولا تكلف ولا قصد لوزن . وذلك كما كان يتفق في خطب الناس ورسائلهم ومحاوراتهم في أحاديث موزونة ولا يسميها الناس شعرا . وبذلك فإن فِرية المشركين بأن محمدا صلى الله عليه وسلم شاعر لهي محض باطل وظلم . وهم بذلك إنما يقولون زورا ؛ لأنهم أعرف الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأنه لم يَقْرِض الشعر ، ولو تكلف قَََََرْضَه لما استطاع ؛ لأنه غير مطبوع على قرض الشعر ولا الشعر من سجيته أو طبعه . والافتراء عليه بأنه شاعر لا يقل زورا ونكرا عن الافتراء عليه بأنه كاهن وساحر .

أما القرآن العظيم نفسه فهو من حيث النَّظْمُ والمعنى فذو شأن عجيب ومميز ؛ فإنه من حيث النَّظْمْ ليس بالشعر ؛ لأنه في مزايا نظمه وأسلوبه مختلف تماما عن الشعر ذي الكلام الموزون المقفى ، وليس القرآن كذلك بل إن القرآن لذو أسلوب خاص ليس له في أصناف الكلام نظير . وما عرفت العربية له مثيلا من قبل ولا من بعد . وفي ذلك يذهب فريق من أقطاب البيان والبلاغة ومصاقع الخطابة والفصاحة من أفذاذ العربية إلى أن القرآن ليس على ضرب من ضروب النظم في لغة العرب . فليس هو بالشعر ولا بالنثر ولا بالسجع ولا بالخطابة ولا بالرسالة . وما يستقيم له شيء من ذلك ، إنْ هو إلا القرآن وكفى .

أما القرآن من حيث المعنى فإن فيه من روائع الأغراض والمقاصد ، ومن عجائب المعاني والأحكام والعبر ما يستثير الخواطر والأذهان ، ويشدَهُ الوجدان والجنان لبالغ حججه ودلالاته ، وبما حواه من عظيم المشاهد والأخبار والأسرار والحكم ، فأين ذلك كله من الشعر في أغراضه المعلومة من الهجاء والرثاء والإطراء والفخر ووصف النساء والخمر ؟ ! وذلك كله تأويل قوله : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أي لا يستقيم له ولا يليق به ولا يتأتى له إن أراد قرضه . وقد عرفتموه وأخبرتم طبعه ؛ إذ لبث فيكم أربعين سنة فما كان ليقرض الشعر ولا الشعر بمتسهِّل له .

قوله : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ } أي ليس القرآن إلا عظة بالغة وإرشادا ونورا تهتدون به إلى سواء السبيل { وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ } أي ليس هو بالشعر ولا غيره من ضروب البيان بل إنه قرآن ظاهر ومعلوم بأسلوبه الخاص ونظمه الفريد ، وطريقته المميزة .