( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ؛ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) . .
إن رد الأنفال لله والرسول ، وقسمتها بينهم على السواء ، وكراهة بعض المؤمنين لهذه التسوية . . ومن قبل كراهة بعضهم لاختصاص بعض الشباب بالنصيب الأوفر منها . . إنها شأن يشبه شأن إخراج الله لك من بيتك - بالحق - لمقاتلة الفرقة ذات الشوكة ؛ وكراهة بعض المؤمنين للقتال . . وبين أيديهم العاقبة التي أنتجت هذه الأنفال . .
ولقد سبق لنا في استعراض وقائع الغزوة - من كتب السيرة - أن أبا بكر وعمر قاما فأحسنا حين استشار رسول الله [ ص ] الناس معه في أمر القتال ، بعدما أفلتت القافلة ، وتبين أن قريشاً قد جاءت بشوكتها وقوتها . وأن المقداد بن عمرو قام فقال : يا رسول الله ، امض لأمر الله ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . . . الخ " . وأن هذا كان كلام المهاجرين . فلما كرر رسول الله [ ص ] القول على الناس فهم الأنصار أنه إنما يعنيهم ، فقام سعد بن معاذ فقال كلاماً طويلاً قاطعاً مطمئناً . .
ولكن هذا الذي قاله أبو بكر وعمر ، والذي قاله المقداد ، والذي قاله سعد بن معاذ - رضي الله عنهم - لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع رسول الله [ ص ] فلقد كره بعضهم القتال ، وعارض فيه ، لأنهم لم يستعدوا لقتال ، إنما خرجوا لملاقاة الفئة الضعيفة التي تحرس العير ؛ فلما أن علموا أن قريشاً قد نفرت بخيلها ورجلها ، وشجعانها وفرسانها ، كرهوا لقاءها كراهية شديدة ، هي هذه الكراهية التي يرسم التعبير القرآني صورتها بطريقة القرآن الفريدة :
( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون ، يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) !
روى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره - بإسناده - عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله [ ص ] ونحن بالمدينة : " إني أخبرت عن عير أبي سفيان بأنها مقبلة ، فهل لكم أن نخرج قِبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها ? " فقلنا : نعم . فخرج وخرجنا . فلما سرنا يوماً أو يومين قال لنا : " ما ترون في قتال القوم ? إنهم قد أخبروا بخروجكم ! " فقلنا : لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ، ولكنا أردنا العير ! ثم قال : " ما ترون في قتال القوم ? " فقلنا مثل ذلك : فقال المقداد بن عمرو : إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى : ذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . . فتمنينا - معشر الأنصار - أن لو قلنا كما قال المقداد بن عمرو أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ! قال : فأنزل الله على رسوله [ ص ] : ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون ) .
تشبيهُ حال بحال ، وهو متصل بما قبله : إما بتقدير مبتدأ محذوف ، هو اسم إشارة لما ذكر قبله ، تقديرُه : هذا الحال كحال ما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، ووجه الشبه هو كراهية المؤمنين في بادىء الأمر لما هو خير لهم في الواقع وإما بتقدير مصدر لفعل الاستقرار الذي يقتضيه الخبر بالمجرور في قوله { الأنفال لله وللرسول } [ الأنفال : 1 ] إذ التقدير : استقرت لله والرسول استقراراً كما أخرجك ربك ، أي فيما يلوح إلى الكراهية والامتعاض في بادىء الأمر ، ثم نوالهم النصرَ والغنيمةَ في نهاية الأمر ، فالتشبيه تمثيلي وليس مراعى فيه تشبيهُ بعض أجزاء الهيئة المشبهة ببعض أجزاء الهيئة المشبّه بها ، أي أن ما كرهتموه من قسمة الأنفال على خلاف مشتهاكم سيكون فيه خير عظيم لكم ، حسب عادة الله تعالى بهم في أمره ونهيه ، وقد دل على ما في الكلام من معنى مخالفة مشتهاهم قولُه { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم صادقين } [ الأنفال : 1 ] كما تقدم ، مع قوله في هذه الجملة { وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون } .
فجملة : { وإن فريقاً } في موضع الحال والعامل فيها { أخرجك ربك } هذا وجه اتصال كاف التشبيه بما قبلها على ما الأظهر ، وللمفسرين وجوه كثيرة بلغت العشرين قد استقصاها ابن عادل ، وهي لا تخلو من تكلف ، وبعضها متحد المعنى وبعضها مختلفُه ، وأحسن الوجوه ما ذكره ابن عطية ومعناه قريب مما ذكرنا وتقديره بعيد منه .
والمقصود من هذا الأسلوب : الانتقالُ إلى تذكيرهم بالخروج إلى بدر وما ظهر فيه من دلائِل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين .
و { ما } مصدرية . والإخراج : إما مراد به الأمر بالخروج للغزو ، وإما تقديرُ الخروج لهم وتيسيره .
والخروج مفارقة المنزل والبلدِ إلى حيننِ الرجوع إلى المكان الذي خرج منه ، أو إلى حيننِ البلوغ إلى الموضع المنتقل إليه .
والإخراج من البيت : هو الإخراج المعيّن الذي خرج به النبي صلى الله عليه وسلم غازياً إلى بدر .
والباء في { بالحق } للمصاحبة أي إخراجاً مصاحباً للحق ، والحق هنا الصواب ، لما تقدم آنفاً من أن اسم الحق جامع لمعنى كمال كل شيء في محامد نوعه .
والمعنى أن الله أمره بالخروج إلى المشركين ببدر أمراً موافقاً للمصلحة في حال كراهة فريق من المؤمنين ذلك الخروج .
وقد أشار هذا الكلام إلى السبب الذي خرج به المسلمون إلى بدر ، فكان بينهم وبين المشركين يوم بدر ، وذلك أنه كان في أوائل رمضان في السنة الثانية للهجرة إن قفلت عيرٌ لقريش فيها أموال وتجارة لهم من بلاد الشام ، راجعة إلى مكة ، وفيها أبو سفيان بن حرب في زهاء ثلاثين رجلاً من قريش ، فلما بلغ خبر هذه العير رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إليها فانتدب بعضهم وتثاقل بعضٌ ، وهم الذين كرهوا الخروج ، ولم ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تثاقلوا ومن لم يحْضر ظهرهم أي رواحلهم فسار وقد اجتمع من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر خرجوا يوم ثمانية من رمضان ، وكانوا يحسبون أنهم لا يلقون حرباً وأنهم يغيرون على العير ثم يرجعون ، وبلغ أبا سفيان خبر خروج المسلمين فأرسل صارخاً يستصرخ قريشاً لحماية العير ، فتجهز منهم جيش ، ولما بلغ المسلمون وادي ذفرَان بلغهم خروج قريش لتلقي العير ، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه بالمضي في سبيله وكانت العير يومئذ فاتتهم ، واطمأن أبو سفيان لذلك فأرسل إلى أهل مكة يقول إن الله نجى عيركم فارجعوا ، فقال أبو جهل لا نرجع حتى نَرِد بدراً ( وكان بدرٌ موضع ماء فيه سوق للعرب في كل عام ) فنقيم ثلاثاً ، فننحرَ الجُزر ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان ، وتتسامع العرب بنا وبمسيرنا فلا يزالوا يهابوننا ويعلموا أن محمداً لم يصب العير ، وأنا قد أعضضناه ، فسار المشركون إلى بدر وتنبكتْ عيرهم على طريق الساحل وأعلم الله النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأعلم المسلمين ، فاستشارهم وقال : العيرُ أحبُ إليكم أم النفير ، فقال أكثرهم العير أحب إلينا من لقاء العدو ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعاد استشارتهم فأشار أكثرهم قائلين : عليك بالعير فإنا خرجنا للعير فظهر الغضبُ على وجهه .
فتكلم أبو بكر ، وعمر ، والمقداد بنُ الأسود ، وسعدُ بن عبادةَ ، وأكثر الأنصار ، ففوضوا إلى رسول الله ما يرى أن يسير إليه صلى الله عليه وسلم فأمرهم حينئذ أن يسيروا إلى القوم ببدر فساروا . وكان النصر العظيم الذي هز به الإسلامُ رأسه .
فهذا ما أشار إليه قوله تعالى : { وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون } وذلك أنهم خرجوا على نية التعرض للعير ، وأن ليس دونَ العير قتال ، فلما أخبرهم عن تجمع قريش لقتالهم تكلم أبو بكر فأحسن ، وتكلم عمر فأحسن ، ثم قام المقداد بن الأسود فقال « يا رسول الله امضِ لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هَهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديكَ وخلفك ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى ( بَرْكِ الغماد ) ( بفتح باء برك وغين الغماد ومعجمة مكسورة موضع باليمن بعيد جداً عن مكة ) لجادلنا معك من دونه حتى تبلغه . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أشيروا عليّ أيها الناس " وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم حين بايعُوه بالعقبة قالوا يومئذ « إنا بُرءاء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فإنك في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا » فكان رسول الله يتخوف أن يكون الأنصار لا يرون نصرَه إلا ممّن دَهمه بالمدينة ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أشيروا عليّ قال له سعد بن معاذ « والله لكأنّك تريدنا يا رسول الله قال : أجلْ قال : فقد آمنّا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحرَ فخصته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد وما نَكْرَهُ أن تلقى بنا عدونا غداً إنا لصبرٌ في الحرب صدقٌ في اللقاء لعل الله يريك بنا ما تقرُّ به عينُك فسِرْ بنا على بركة الله » فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين أي ولم يخص وعد النصر ، بتلقي العير فقط فما كان بعد ذلك إلا أن زال من نفوس المؤمنين الكارهين للقتال ما كان في قلوبهم من الكراهية ، وقوله { وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون } في موضع الحال من الإخراج الذي أفادته ، ( ما ) المصدرية ، وهؤلاء هم الذين تثاقلوا وقت العزم على الخروج من المدينة ، والذين اختاروا العير دون النفيرِ حين استشارة وادي ذَفِرَان ، لأن ذلك كله مقترن بالخروج لأن الخروج كان ممتداً في الزمان ، فجملة الحال من قوله : { وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون } حال مقارنة لعاملها وهو { أخرجك } .
وتأكيد خبر كراهية فريق من المؤمنين بإن ولام الابتداء مستعمل في التعجيب من شأنهم بتنزيل السامع غير المنكر لوقوع الخبر منزلةَ المنكر لأن وقوع ذلك مما شأنه أن لا يقع ، إذ كان الشأن اتباع ما يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم أو التفويضَ إليه ، وما كان ينبغي لهم أن يكرهوا لقاء العدو . ويستلزم هذا التنزيلُ التعجيبَ من حال المخبر عنهم بهذه الكراهية فيكون تأكيد الخبر كناية عن التعجيب من المخبر عنهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في الجالب لهذه الكاف التي في قوله:"كما أخْرَجَكَ" وما الذي شبه بإخراج الله نبيه صلى الله عليه وسلم من بيته بالحقّ؛
فقال بعضهم: شبه به في الصلاح للمؤمنين، اتقاؤهم ربهم، وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم الله ورسوله. وقالوا: معنى ذلك: يقول الله: وأصلحوا ذات بينكم، فإن ذلك خير لكم، كما أخرج الله محمدا صلى الله عليه وسلم من بيته بالحقّ كان خيرا له...
وقال آخرون: معنى ذلك: كما أخرجك ربك يا محمد من بيتك بالحقّ على كره من فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم...
وقال آخرون منهم: هي بمعنى القسم. قال: ومعنى الكلام: والذي أخرجك ربك...
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال:... معناه: كما أخرجك ربك بالحقّ على كره من فريق من المؤمنين، كذلك يجادلونك في الحقّ بعدما تبين، لأن كلا الأمرين قد كان، أعني خروج بعض من خرج من المدينة كارها، وجِدَالهم في لقاء العدوّ عند دنوّ القوم بعضهم من بعض، فتشبيه بعض ذلك ببعض مع قرب أحدهما من الآخر أولى من تشبيهه بما بعد عنه. وقال مجاهد في الحقّ الذي ذكر أنهم يجادلون فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعدما تبينوه: هو القتال...
وأما قوله: "مِنْ بَيْتِكَ "فإن بعضهم قال: معناه من المدينة... وأما قوله: "وإنّ فَرِيقا مِنَ المُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ" فإن كرَاهتهم كانت كما... [روي] عن عبد الله بن عباس: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشأم، ندب إليهم المسلمين، وقال: «هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فيها أمْوَالُهُمْ، فاخْرُجُوا إليها لعَلّ الله أنْ يُنَفّلَكُمُوهَا» فانتدب الناس، فخفّ بعضهم وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا...
عن السديّ: وَإنّ فَرِيقا مِنَ المُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ لطلب المشركين.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
... وفي قوله: {بِالْحَقِّ} وجهان: أحدهما: أنك خرجت ومعك الحق. الثاني: أنه أخرجك بالحق الذي وجب عليك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بَيَّنَ -سبحانه- أن الجِدَالَ منهم عادةٌ وسَجِيَّة، ففي كل شيء لهم جدال واختيار؛ فكرهُوا خروجَه إلى بَدْرٍ، كما جادلوا في حديث الغنيمة، قال تعالى: {يسألونك عَنِ الأَنْفَالِ} وما يكون من خصال العبد غير متكرر ويكون على وجه الندرة كان أقربَ إلى الصفح عنه والتجاوز، فأمَّا إذا صار ذلك عادةً فهو أصعب.ويقال ما لم تباشر خلاصةُ الإيمان القلبَ يوجد كمالُ التسليم وترك الاختيار، وما دام يتحرك من العبد عِرْقٌ في الاختيار فهو بعيدٌ عن راحة الإيمان. ولقد أجرى الله سُنَّتَه مع أنبيائه ألا يفتح لهم كمالَ النُّعْمى إلا بعد مفارقة مألوفات الأوطان، والتجرد عن مساكنة ما فيه حظ ونصيب مِنْ كل معهود. ويقال إن في هجرة الأنبياء -عليهم السلام- عن أوطانهم أماناً لهم من عادية الأعادي، وإحياءً لقلوب قوم تقاصرت أقْدَامُهم عن المسير إليهم. وكذلك هجرة الأولياء من خواصه؛ فيها لهم خلاصٌ من البلايا، واستخلاصٌ للكثيرين من البلايا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} فيه وجهان أحدهما. أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره. هذه الحال كحال إخراجك. يعني أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب. والثاني: أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله: {الانفال لِلَّهِ والرسول} [الأنفال: 1] أي الأنفال استقرت لله والرسول، وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون و {مِن بَيْتِكَ} يريد بيته بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنها مهاجره ومسكنه، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه {بالحق} أي إخراجاً ملتبساً بالحكمة والصواب الذي لا محيد عنه {وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ} في موضع الحال، أي أخرجك في حال كراهتهم،
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ترك الدنيا شديداً على النفس، وترك النزاع بعد الانتساب فيه أشد، شرع يذكر لهم ما كانوا له كارهين ففعله بهم وأمرهم به لعلمه بالعواقب فحمدوا أثره، ليكون ادعى لتسليمهم لأمره وازدجارهم بزجره، فشبه حال كراهتهم لترك مرادهم في الأنفال بحال كراهتهم لخروجهم معه ثم بحال كراهتهم للقاء الجيش دون العير، ثم إنهم رأوا أحسن العاقبة في كلا الأمرين فقال: {كما} أي حالهم في كراهية تسليم الأنفال -مع كون التسليم هو الحق والأولى لهم- كما كانت حالهم إذ {أخرجك ربك} أي المحسن إليك بالإشارد إلى جميع مقاصد الخير {من بيتك بالحق} أي الأمر الفيصل الفارق بين الثابت والمزلزل {وإن} أي والحال أن {فريقاً} عبر به لأن آراءهم كانت تؤول إلى الفرقة {من المؤمنين} أي الراسخين في الإيمان {لكارهون}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
تقدم في تفسير قصة البقرة من سورتها أن سنة القرآن في ذكر القصص والوقائع مخالفة العهود في أساليب الكلام من سردها مرتبة كما وقعت، وإن سبب هذه المخالفة أنه لا يقص قصة ولا يسرد أخبار واقعة لأجل أن تكون تاريخا محفوظا، وإنما يذكر ما يذكر من ذلك لأجل العبرة والموعظة، وبيان الآيات والحكم الإلهية والأحكام العملية...
بدأت قصة غزوة بدر الكبرى التي كانت أول مظهر لوعد الله تعالى بنصر رسوله والمؤمنين، والإدالة لهم من أكابر مجرمي المشركين، بذكر حكم الغنائم التي غنمها المسلمون منهم- ويا لها من براعة مطلع- مقرونا ببيان صفات المؤمنين الكاملين الذين وعدهم النصر كما وعد النبيين، وهم الذين يقبلون حكم الله وقسمة رسوله في الغنائم- ويا لها من مقدمات للفوز في الحرب وغيرها- ثم قفى على ذلك بذكر أول القصة وهو خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته في المدينة وكراهة فريق من المؤمنين لخروجه، خلافا لما يقتضيه الإيمان من الإذعان لطاعته، والرضاء بما يفعله بأمر ربه، وما يحكم أو يأمر به، كما علم من الشرط في الآية الأولى {إن كنتم مؤمنين} ولعل بيان هذا الشرط وما وليه من بيان صفات المؤمنين حق الإيمان هو أهم ما في هذه السورة على كثرة أحكامها وحكمها وفوائدها الروحية والاجتماعية والسياسية والحربية والمالية.
قال تعالى: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون} أي أن الأنفال لله يحكم فيها بالحق ولرسوله يقسمها بين من جعل الله لهم الحق فيها بالسوية، إن كره ذلك بعض المتنازعين فيها، والذين كانوا يرون أنهم أحق بها وأهلها، فهي كإخراج ربك إياك من بيتك بالحق للقاء إحدى الطائفتين من المشركين في الظاهر، وكون تلك الطائفة هي المقاتلة في الواقع، والحال أن كثيرا من المؤمنين لكارهون لذلك لعدم استعدادهم للقتال أو له ولغيره من الأسباب التي تعلم مما يأتي...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في الطريق إلى بدر والفرق بين إرادة الله وإرادة المسلمين:
بعد ذلك يأخذ سياق السورة في الحديث عن الموقعة التي تخلفت عنها تلك الأنفال التي تنازعوا عليها، وساءت أخلاقهم فيها -كما يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه في خلوص وصراحة ووضوح- ويستعرض مجمل أحداثها وملابساتها، ومواقفهم فيها، ومشاعرهم تجاهها... فيتبين من هذا الاستعراض أنهم هم لم يكونوا فيها إلا ستاراً لقدر الله؛ وأن كل ما كان فيها من أحداث، وكل ما نشأ عنها من نتائج -بما فيها هذه الأنفال التي تنازعوا عليها- إنما كان بقدر الله وتوجيهه وتدبيره وعونه ومدده.. أما ما أرادوه هم لأنفسهم من الغزوة فقد كان شيئاً صغيراً محدوداً، لا يقاس إلى ما أراده الله لهم، وبهم، من هذا الفرقان العظيم في السماوات وفي الأرض. ذلك الذي اشتغل به الملأ الأعلى إلى جانب ما اشتغل به الناس في الأرض، وما اشتغل به التاريخ البشري على الإطلاق.. ويذكرهم أن فريقاً منهم واجه المعركة كارهاً؛ كما أن فريقاً منهم كره تقسيم الأنفال وتنازع فيها؛ ليروا أن ما يرونه هم، وما يكرهونه أو يحبونه، ليس بشيء إلى جانب ما يريده الله سبحانه ويقضي فيه بأمره، وهو يعلم عاقبة الأمور:
(كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.. إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين. وما جعله الله إلا بشرى، ولتطمئن به قلوبكم، وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم. إذ يغشيكم النعاس أمنة منه، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به، ويذهب عنكم رجز الشيطان، وليربط على قلوبكم، ويثبت به الأقدام. إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله؛ ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب. ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار)..
لقد رد الله الأنفال كلها إلى الله والرسول، ليعيد الرسول [صلى الله عليه وسلم] قسمتها بينهم على السواء -بعد استبقاء الخمس الذي ستأتي فيما بعد مصارفه- ذلك لتخلص نفوس العصبة المؤمنة من كل ملابسات الغنيمة؛ فيمتنع التنازع عليها، ويصير حق التصرف فيها إلى رسول الله كما يعلمه الله، فلا يبقى في النفوس من أجلها شيء؛ وليذهب ما حاك في نفوس الفئة التي حازت الغنائم، ثم سويت مع الآخرين في القسمة على ما تقدم.
ثم ضرب الله هذا المثل من إرادتهم هم لأنفسهم، ومن إرادة الله لهم، وبهم، ليستيقنوا أن الخيرة فيما اختاره الله في الأنفال وغير الأنفال؛ وأن الناس لا يعلمون إلا ما بين أيديهم والغيب عنهم محجوب.. ضرب لهم هذا المثل من واقعهم الذي بين أيديهم.. من المعركة ذاتها تلك التي يتقاسمون أنفالها.. فما الذي كانوا يريدونه لأنفسهم فيها؟ وما الذي أراده الله لهم، وبهم؟ وأين ما أرادوه مما أراده الله؟.. إنها نقلة بعيدة في واقع الأمر؛ ونقلة بعيدة على مدّ الرؤية والتصور!
(كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم؛ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين. ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)..
إن رد الأنفال لله والرسول، وقسمتها بينهم على السواء، وكراهة بعض المؤمنين لهذه التسوية.. ومن قبل كراهة بعضهم لاختصاص بعض الشباب بالنصيب الأوفر منها.. إنها شأن يشبه شأن إخراج الله لك من بيتك -بالحق- لمقاتلة الفرقة ذات الشوكة؛ وكراهة بعض المؤمنين للقتال.. وبين أيديهم العاقبة التي أنتجت هذه الأنفال..
ولقد سبق لنا في استعراض وقائع الغزوة -من كتب السيرة- أن أبا بكر وعمر قاما فأحسنا حين استشار رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الناس معه في أمر القتال، بعدما أفلتت القافلة، وتبين أن قريشاً قد جاءت بشوكتها وقوتها. وأن المقداد بن عمرو قام فقال: يا رسول الله، امض لأمر الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون... الخ". وأن هذا كان كلام المهاجرين. فلما كرر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] القول على الناس فهم الأنصار أنه إنما يعنيهم، فقام سعد بن معاذ فقال كلاماً طويلاً قاطعاً مطمئناً..
ولكن هذا الذي قاله أبو بكر وعمر، والذي قاله المقداد، والذي قاله سعد بن معاذ -رضي الله عنهم- لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد كره بعضهم القتال، وعارض فيه، لأنهم لم يستعدوا لقتال، إنما خرجوا لملاقاة الفئة الضعيفة التي تحرس العير؛ فلما أن علموا أن قريشاً قد نفرت بخيلها ورجلها، وشجعانها وفرسانها، كرهوا لقاءها كراهية شديدة، هي هذه الكراهية التي يرسم التعبير القرآني صورتها بطريقة القرآن الفريدة:
(كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون، يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)!
روى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره -بإسناده- عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ونحن بالمدينة: "إني أخبرت عن عير أبي سفيان بأنها مقبلة، فهل لكم أن نخرج قِبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها؟ "فقلنا: نعم. فخرج وخرجنا. فلما سرنا يوماً أو يومين قال لنا: "ما ترون في قتال القوم؟ إنهم قد أخبروا بخروجكم! "فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير! ثم قال: "ما ترون في قتال القوم؟" فقلنا مثل ذلك: فقال المقداد بن عمرو: إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: ذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون... فتمنينا -معشر الأنصار- أن لو قلنا كما قال المقداد بن عمرو أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم! قال: فأنزل الله على رسوله [صلى الله عليه وسلم]: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تشبيهُ حال بحال، وهو متصل بما قبله: إما بتقدير مبتدأ محذوف، هو اسم إشارة لما ذكر قبله، تقديرُه: هذا الحال كحال ما أخرجك ربك من بيتك بالحق، ووجه الشبه هو كراهية المؤمنين في بادئ الأمر لما هو خير لهم في الواقع وإما بتقدير مصدر لفعل الاستقرار الذي يقتضيه الخبر بالمجرور في قوله {الأنفال لله وللرسول} [الأنفال: 1] إذ التقدير: استقرت لله والرسول استقراراً كما أخرجك ربك، أي فيما يلوح إلى الكراهية والامتعاض في بادئ الأمر، ثم نوالهم النصرَ والغنيمةَ في نهاية الأمر...
والمقصود من هذا الأسلوب: الانتقالُ إلى تذكيرهم بالخروج إلى بدر وما ظهر فيه من دلائِل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين. والباء في {بالحق} للمصاحبة أي إخراجاً مصاحباً للحق، والحق هنا الصواب، لما تقدم آنفاً من أن اسم الحق جامع لمعنى كمال كل شيء في محامد نوعه. والمعنى أن الله أمره بالخروج إلى المشركين ببدر أمراً موافقاً للمصلحة في حال كراهة فريق من المؤمنين ذلك الخروج...
فجملة الحال من قوله: {وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون} حال مقارنة لعاملها وهو {أخرجك}. وتأكيد خبر كراهية فريق من المؤمنين بإن ولام الابتداء مستعمل في التعجيب من شأنهم بتنزيل السامع غير المنكر لوقوع الخبر منزلةَ المنكر لأن وقوع ذلك مما شأنه أن لا يقع، إذ كان الشأن اتباع ما يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم أو التفويضَ إليه، وما كان ينبغي لهم أن يكرهوا لقاء العدو. ويستلزم هذا التنزيلُ التعجيبَ من حال المخبر عنهم بهذه الكراهية فيكون تأكيد الخبر كناية عن التعجيب من المخبر عنهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أولهما – أن الله تعالى ذكر الحق بالحق مرتين: أولاهما – {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} أتى بالأمر الثابت الذي هو الحق في ذاته، والحق في رفع شأن الدين، والحق في مصلحة المؤمنين، والحق في أنه أمر الله تعالى وإرادته، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أراده من ذات نفسه، وإنما أراده الله تعالى له، وهو ربه الذي خلقه ورباه وهو أعلم بمصالحه ومصالح المؤمنين والإسلام، وإعزازه تعالى كلمة الحق، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.
ثانيهما – عندما ذكر الجدال في قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ}.
هل ذكر مسألة كراهيتهم للخروج إلى الحرب هي طعن فيهم؟ لا، فهذا القول له حيثية بشرية؛ لأن الذي يريد أن يخوض معركة لابد أن يغلب عليه الظن بأنه سوف ينتصر، وإلا سينظر إلى أن عملية الخروج إلى القتال فيها مجازفة. وكان المسلمون في ذلك الوقت قليلي العدد، وليس معهم عُدد، بل لم يكن لديهم من مراكب إلا فرسان اثنان. وكان خروجهم من أجل البضائع والعير، لا لملاقاة جيش كبير، وهكذا لم تكن الكراهية لهذه المسألة نابعة من التأبي على أوامر الله تعالى، أو مطالب الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنهم نظروا إلى المسألة كلها بالمقاييس البشرية فلم يجدوا فيها التوازن المحتمل. ويريد الله أن يثبت لهم أنهم لو ذهبوا وانتصروا على العير فقط، لقيل عنهم أنهم جماعة من قطاع الطرق قد انقضوا على بضائعهم ونهبوها، فلم يكن مع العير إلا أربعون رجلا، والمسلمون ثلاثمائة ويزيدون، ومن المعقول أن ينتصروا، ولكن ربنا أراد أن ينصرهم على النفير الذي استنفره الكفار من مكة، وهذا النفير الضخم في العدد والعدة ويضم جهابذة قريش وصناديدها، وتتحقق إرادة الحق في أن يزهق الباطل. {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون}. والخروج من البيت هنا مقصود به خروج الرسول من المدينة لملاقاة الكفار، وهذا الفريق من المؤمنين لم تخرجهم الكراهية عن الإيمان، لأن معنى "فريق "هم الجماعة الذين يفترقون عن جماعة ويجمعهم جميعا رباط واحد، فالجيش مثلا يتكون من فرق، يجمعهم الجيش الواحد. وهذه الفرق التي يأتي الحديث عنها هنا هي الفرق التي كرهت أن تخرج إلى القتال رغم أنهم مؤمنون أيضا، ونعلم أن كراهية القتال أمر وارد بالنسبة للبشر، وسبحانه وتعالى القائل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)} (سورة البقرة)...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في هذه الآيات عرضٌ للأجواء النفسية التي كانت تسود الواقع الإسلامي، عندما انطلقت دعوة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى الخروج معه من أجل مواجهة قريش بالضغط الاقتصادي، وذلك بالتعرّض للقافلة التجارية التي كان يقودها أبو سفيان، لمصادرتها والاستيلاء عليها، ومنع قريش من حرية التحرك في الطريق التجاري بين مكة والشام، كوسيلةٍ من وسائل إضعافها، وكنوعٍ من استعراض القوّة الإسلاميّة في منطقةٍ تتميّز بعدم الخضوع إلا للقوّة... وقد كانت هذه الفرصة الوحيدة آنذاك للمواجهة بطريقةٍ غير مباشرة، لأنَّ في ذلك تحدياً بالقوة للهيمنة القرشية على المنطقة التي كانت تتحرك من أجل السيطرة على الإسلام. وقد تثاقل فريق من المؤمنين، في الاستجابة لنداء النبيّ ودعوته، وكرهوا الخروج معه، لأنهم كانوا لا يزالون يهابون القوة القرشية، ويخافون مواجهتها. وربما كانوا يعتقدون أن الوقت لا يزال مبكراً للدخول في معركةٍ عسكرية مع قريش، لأن المسلمين لم يكونوا قد استجمعوا قوتهم بالمستوى الذي يمكنهم من الانتصار، أو يضمن لهم عدم الهزيمة على الأقل الأمر الذي يجعل من هذه العملية، شيئاً يشبه العملية الانتحارية. وهذا ما توحي به هذه الآيات. الخروج إلى قافلة قريش بأمر الله تعالى {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} ربما كان موقع التشبيه بالكاف على أساس التعلّق بما يدل عليه قوله تعالى: {قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، والتقدير كما يقول صاحب تفسير الميزان «أنَّ الله حكم بكون الأنفال له ولرسوله بالحق مع كراهتهم له، كما أخرجك من بيتك بالحق مع كراهة فريقٍ منهم له، فللجميع حق يترتب عليه من مصلحة دينهم ودنياهم ما هم غافلون عنه». وهذا الوجه معقولٌ، ولكنه غير ظاهر من الكلام بطريقةٍ واضحةٍ. أما كلمة «بالحق»، فقد توحي لنا بالهدف الذي كان يحكم التحرك النبوي في اتجاه القافلة القرشية، فقد كان بأمر الله لا برأي شخصيّ للنبيّ. وإذا كانت المسألة كذلك، فإن الله لا يأمر إلا بالحركة المرتكزة على أساس الحق في ما تمثله الكلمة من الارتباط بالهدف الكبير من قوة الإسلام وانتشار أمره وثبات مواقعه. بعض المؤمنين يكرهون الخروج {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} لهذا الخروج، نتيجة تجمّع عناصر الضعف الإنساني لديهم، كحبِّ الراحة، وحبِّ الحياة، والخوف من النتائج السلبية... مما يبعدهم عن معنى الإيمان الذي يفرض عليهم الالتزام بأمر الله ونهيه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
قرأنا في الآية الأُولى من هذه السورة أنّ بعض المسلمين من جديدي العهد بالإِسلام، كانوا غير راضين عن كيفية تقسيم غنائم معركة بدر (إلى حد ما).
ففي الآيتين محل البحث يقول الله سبحانه لأُولئك: هذه ليست أوّل مرّة تكرهون شيئاً مع أنّه فيه صلاحكم كما كان الأمر في أساس غزوة بدر وكانوا غير راضين بادئ الأمر، إلاّ أنّهم رأوا كيف تمت هذه المعركة لصالح الإسلام والمسلمين.
فإذن لا ينبغي أن تقوّم أحكام الله بالنظرات الضيقة المحدودة، بل ينبغي الانصياع والتسليم لها ليستفاد من نتائجها النهائية.
تقول الآية الأُولى من الآيتين محل البحث: إنّ عدم رضا بعض المسلمين في شأن تقسيم الغنائم يشبه عملية إخراجك من مكّة وعدم رضى بعض المؤمنين بذلك: (كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون).
والتعبير بالحق إشارة إلى أنّ أمر الخروج كان طبقاً لوحي اِلهي ودستور سماوي، وكانت نتيجته الوصول إلى الحق واستقرار المجتمع الإسلامي، إلاّ أنّ هؤلاء الأفراد لا يرون إلاّ ظواهر الأُمور، ولهذا: (يجادلونك في الحق بعد ما تبيّن كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون).
إلاّ أنّ الحوادث التالية كشفت لهم عن خطئهم في حساباتهم، وأنّ خوفهم وقلقهم دونما أساس، وأنّ هذه المعركة (معركة بدر) حققت للمسلمين انتصارات مشرقة، فمع رؤية مثل هذه النتائج علام يجادلون في الحق وتمتد ألسنتهم بالاعتراض؟!
والتعبير ب (فريقاً من المؤمنين) يكشف ضمناً أوّلا أن هذا التشاجر أو المحاورة لم تكن عن نفاق أو عدم إيمان، بل عن ضعف الإيمان وعدم امتلاك النظرة الثاقبة في المسائل الإِسلامية.
وثانياً: إنّ الذين جادلوا في شأن الغنائم كانوا قلّة وفريقاً من المؤمنين، غير أنّ بقيتهم وغالبيتهم أذعنوا لأمر رسول الله واستجابوا له.