في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{كٓهيعٓصٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة مريم مكية وآياتها ثمان وتسعون

يدور سياق هذه السورة على محور التوحيد ؛ ونفي الولد والشريك ؛ ويلم بقضية البعث القائمة على قضية التوحيد . . هذا هو الموضوع الأساسي الذي تعالجه السورة ، كالشأن في السور المكية غالبا .

والقصص هو مادة هذه السورة . فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى . فقصة مريم ومولد عيسى . فطرف من قصة إبراهيم مع أبيه . . ثم تعقبها إشارات إلى النبيين : إسحاق ويعقوب ، وموسى وهرون ، وإسماعيل ، وإدريس . وآدم ونوح . ويستغرق هذا القصص حوالي ثلثي السورة . ويستهدف إثبات الوحدانية والبعث ، ونفي الولد والشريك ، وبيان منهج المهتدين ومنهج الضالين من أتباع النبيين .

ومن ثم بعض مشاهد القيامة ، وبعض الجدل مع المنكرين للبعث .

واستنكار للشرك ودعوى الولد ؛ وعرض لمصارع المشركين والمكذبين في الدنيا وفي الآخرة . . وكله يتناسق مع اتجاه القصص في السورة ويتجمع حول محورها الأصيل .

وللسورة كلها جو خاص يظللها ويشيع فيها ، ويتمشى في موضوعاتها . .

إن سياق هذه السورة معرض للانفعالات والمشاعر القوية . . الانفعالات في النفس البشرية ، وفي " نفس " الكون من حولها . فهذا الكون الذي نتصوره جمادا لا حس له يعرض في السياق ذا نفس وحس ومشاعر وانفعالات ، تشارك في رسم الجو العام للسورة . حيث نرى السماوات والأرض والجبال تغضب وتنفعل حتى لتكاد تنفطر وتنشق وتنهد استنكارا :

( أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ) . .

أما الانفعالات في النفس البشرية فتبدأ مع مفتتح السورة وتنتهي مع ختامها . والقصص الرئيسي فيها حافل بهذه الانفعالات في مواقفه العنيفة العميقة . وبخاصة في قصة مريم وميلاد عيسى .

والظل الغالب في الجو هو ظل الرحمة والرضى والاتصال . فهي تبدأ بذكر رحمة الله لعبده زكريا( ذكر رحمة ربك عبده زكريا )وهو يناجي ربه نجاء : ( إذ نادى ربه نداء خفيا ) . . ويتكرر لفظ الرحمة ومعناها وظلها في ثنايا السورة كثيرا . ويكثر فيها اسم( الرحمن ) . ويصور النعيم الذي يلقاه المؤمنون به في صورة ود : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا )ويذكر من نعمة الله على يحيى أن آتاه الله حنانا( وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا ) . ومن نعمة الله على عيسى أن جعله برا بوالدته وديعا لطيفا :

( وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ) . .

وإنك لتحس لمسات الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال . كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته . . كذلك تحس أن للسورة إيقاعا موسيقيا خاصا . فحتى جرس ألفاظها وفواصلها فيه رخاء وفيه عمق : رضيا . سريا . حفيا . نجيا . . فأما المواضع التي تقتضي الشد والعنف ، فتجيء فيها الفاصلة مشددة دالا في الغالب . مدا . ضدا . إدا . هدا ، أو زايا : عزا . أزا .

وتنوع الإيقاع الموسيقى والفاصلة والقافية بتنوع الجو والموضوع يبدو جليا في هذه السورة . فهي تبدأ بقصة زكريا ويحيى فتسير الفاصلة والقافية هكذا :

( ذكر رحمة ربك عبده زكريا . إذ نادى ربه نداء خفيا . . . ) الخ .

وتليها قصة مريم وعيسى فتسير الفاصلة والقافية على النظام نفسه :

( واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت من أهلها مكانا شرقيا . فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا . . ) الخ

إلى أن ينتهي القصص ، ويجيء التعقيب ، لتقرير حقيقة عيسى ابن مريم ، وللفصل في قضية بنوته . فيختلف نظام الفواصل والقوافي . . تطول الفاصلة ، وتنتهي القافية بحرف الميم أو النون المستقر الساكن عند الوقف لا بالياء الممدودة الرخية . على النحو التالي :

ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون . ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضي أمرا فإنما يقول له : كن فيكون . . . الخ .

حتى إذا انتهى التقرير والفصل وعاد السياق إلى القصص عادت القافية الرخية المديدة :

واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا . إذ قال لأبيه : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا . . الخ .

حتى إذا جاء ذكر المكذبين وما ينتظرهم من عذاب وانتقام ، تغير الإيقاع الموسيقي وجرس القافية :

( قل : من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا . حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب ؛ وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا . . ) الخ .

وفي موضع الاستنكار يشتد الجرس والنغم بتشديد الدال :

( وقالوا : اتخذ الرحمن ولدا . لقد جئتم شيئا إدا ، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتحز الجبال هذا . . ) الخ .

وهكذا يسير الإيقاع الموسيقي في السورة وفق المعنى والجو ؛ ويشارك في إبقاء الظل الذي يتناسق مع المعنى في ثنايا السورة ، وفق انتقالات السياق من جو إلى جو ومن معنى إلى معنى .

ويسير السياق مع موضوعات السورة في أشواط ثلاثة :

الشوط الأول يتضمن قصة زكريا ويحيى ، وقصة مريم وعيسى . والتعقيب على هذه القصة بالفصل في قضية عيسى التي كثر فيها الجدل ، واختلفت فيها أحزاب اليهود والنصارى .

والشوط الثاني يتضمن حلقة من قصة إبراهيم مع أبيه وقومه واعتزاله لملة الشرك وما عوضه الله من ذرية نسلت بعد ذلك الأمة . ثم إشارات إلى قصص النبيين ، ومن اهتدى بهم ومن خلفهم من الغواة ؛ ومصير هؤلاء وهؤلاء . وينتهي بإعلان الربوبية الواحدة ، التي تعبد بلا شريك : ( رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته . هل تعلم له سميا )

والشوط الثالث والأخير يبدأ بالجدل حول قضية البعث ، ويستعرض بعض مشاهد القيامة . ويعرض صورة من استنكار الكون كله لدعوى الشرك ، وينتهي بمشهد مؤثر عميق من مصارع القرون ! ( وكم أهلكنا قبلهم من قرن . هل تحسن منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ) فنأخذ في الدرس الأول :

كاف . ها . يا . عين . صاد . .

هذه الأحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض السور ، والتي اخترنا في تفسيرها أنها نماذج من الحروف التي يتألف منها هذا القرآن ، فيجيء نسقا جديدا لا يستطيعه البشر مع أنهم يملكون الحروف ويعرفون الكلمات ، ولكنهم يعجزون أن يصوغوا منها مثل ما تصوغه القدرة المبدعة لهذا القرآن .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{كٓهيعٓصٓ} (1)

مقدمة السورة:

اسم هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وأكثر كتب السنة سورة مريم . ورويت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الطبراني والديلمي ، وابن منده ، وأبو نعيم ، وأبو أحمد الحاكم : عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده أبي مريم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إنه ولدت لي الليلة جارية ، فقال : والليلة أنزلت علي سورة مريم فسمها مريم . فكان يكنى أبا مريم ، واشتهر بكنيته . واسمه نذير ، ويظهر أنه أنصاري .

وابن عباس سماها سورة كهيعص ، وكذلك وقعت تسميتها في صحيح البخاري في كتاب التفسير في أكثر النسخ وأصحها . ولم يعدها جلال الدين في الإتقان في عداد السور المسماة باسمين ولعله لم ير الثاني اسما .

وهي مكية عند الجمهور . وعن مقاتل : أن آية السجدة مدنية . ولا يستقيم هذا القول لاتصال تلك الآية بالآيات قبلها إلا أن تكون ألحقت بها في النزول وهو بعيد .

وذكر السيوطي في الإتقان قولا بأن قوله تعالى { وإن منكم إلا واردها } الآية مدني ، ولم يعزه لقائل .

وهي السورة الرابعة والأربعون في ترتيب النزول ؛ نزلت بعد سورة فاطر وقبل سورة طه . وكان نزول سورة طه قبل إسلام عمر بن الخطاب كما يؤخذ من قصة إسلامه فيكون نزول هذه السورة أثناء سنة أربع من البعثة مع أن السورة مكية ، وليس أبو مريم هذا معدودا في المسلمين الأولين فلا أحسب الحديث المروي عنه مقبولا .

ووجه التسمية أنها بسطت فيها قصة مريم وابنها وأهلها قبل أن تفصل في غيرها . ولا يشبهها في ذلك إلا سورة آل عمران التي نزلت في المدينة .

وعدت آياتها في عدد أهل المدينة ومكة تسعا وتسعين . وفي عدد أهل الشام والكوفة ثمانا وتسعين .

أغراض السورة

ويظهر أن هذه السورة نزلت للرد على اليهود فيما اقترفوه من القول الشنيع في مريم وابنها ، فكان فيها بيان نزاهة آل عمران وقداستهم في الخير .

وهل يثبت الخطي إلا وشيجه ثم التنويه بجمع من الأنبياء والمرسلين من أسلاف هؤلاء وقرابتهم . والإنحاء على بعض خلفهم من ذرياتهم الذين لم يكونوا على سننهم في الخير من أهل الكتاب والمشركين وأتوا بفاحش من القول إذ نسبوا لله ولدا ، وأنكر المشركون منهم البعث وأثبت النصارى ولدا لله تعالى .

والتنويه بشأن القرآن في تبشيره ونذارته . وأن الله يسره بكونه عربيا ليسر تلك اللغة .

والإنذار مما حل بالمكذبين من الأمم من الاستئصال .

واشتملت على كرامة زكريا إذ أجاب الله دعاءه فرزقه ولدا على الكبر وعقر امرأته .

وكرامة مريم بخارق العادة في حملها وقداسة ولدها ، وهو إرهاص لنبوءة عيسى عليه السلام ، ومثله كلامه في المهد .

والتنويه بإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وموسى ، وإسماعيل ، وإدريس عليه السلام .

ووصف الجنة وأهلها .

وحكاية إنكار المشركين البعث بمقالة أبي بن خلف والعاصي ابن وائل وتبجحهم على المسلمين بمقامهم ومجامعهم .

وإنذار المشركين أن أصنامهم التي اعتزوا بها سيندمون على اتخاذها .

ووعد الرسول النصر على أعدائه .

وذكر ضرب من كفرهم بنسبة الولد لله تعالى .

والتنويه بالقرآن ولملته العربية ، وأنه بشير لأوليائه ونذير بهلاك معانديه كما هلكت قرون قبلهم .

وقد تكرر في هذه السورة صفة الرحمان ست عشرة مرة ، وذكر اسم الرحمة أربع مرات ، فأنبأ بأن من مقاصدها تحقيق وصف الله تعالى بصفة الرحمان . والرد على المشركين الذين تقعروا بإنكار هذا الوصف كما حكى الله تعالى عنهم في قوله في سورة الفرقان { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } .

ووقع في هذه السورة استطراد بآية { وما نتنزل إلا بأمر ربك } .

{ كهيعص }

حروف هجاء مرسومة بمسمياتها ومقروءة بأسمائها فكأنها كتبت لمن يتهجاها . وقد تقدم القول في مجموع نظائرها . وفي المختار من الأقوال منها في سورة البقرة وكذلك موقعها من الكلام .

والأصل في النطق بهذه الحروف أن يكون كل حرف منها موقوفاً عليه ، لأنّ الأصل فيها أنها تعداد حروف مستقلة أو مختزلة من كلمات .

وقرأ الجمهور جميع أسماء هذه الحروف الخمسة بإخلاص الحركات والسكون بإسكان أواخر أسمائها .

وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب اسمَ الحرف الثاني وهو { ها } بالإمالة . وفي رواية عن نافع وابن كثير ( ها ) بحركة بين الكسر والفتح . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ( يا ) بالإمالة .

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم ، وأبو جعفر بإظهار دَال ( صاد ) . وقرأ الباقون بإدغامه في ذال ذكر { رحمة ربك } [ مريم : 2 ] وإنما لم يمد ( ها ) و ( يا ) مع أنّ القارىء إنما ينطق بأسماء هذه الحروف التي في أوائل السور لا بمسمياتها المكتوبة أشكالُها ، واسمَا هذين الحرفين مختومان بهمزة مخففة للوجه الذي ذكرناه في طالع سورة يونس وهو التخفيف بإزالة الهمزة لأجل السكت .

واعلم أنك إن جريت على غير المختار في معاني فواتح السور ، فأما الأقوال التي جعلت الفواتح كلها متحدة في المراد فالأمر ظاهر ، وأما الأقوال التي خصت بعضها بمعان ، فقيل في معنى { كهيعص } إن حروفها مقتضبة من أسمائه تعالى : الكافي أو الكريم أو الكبير ، والهاء من هادي ، والياء من حكيم أو رحيم ، والعين من العليم أو العظيم ، والصاد من الصادق ، وقيل مجموعها اسم من أسمائه تعالى ، حتى قيل هو الاسم الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب ، وقيل اسم من أسماء القرآن ، أي بتسمية جديدة ، وليس في ذلك حديث يعتمد .