في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} (67)

63

وهم في حياتهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن :

( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ، وكان بين ذلك قواما ) . .

وهذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ؛ ويتجه إليها في التربية والتشريع ، يقيم بناءه كله على التوازن والإعتدال .

والمسلم - مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة - ليس حرا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء - كما هو الحال في النظام الرأسمالي ، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان . إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير . فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع ؛ والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية . والإسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي ، وحبس الأموال يحدث أزمات ومثله إطلاقها بغير حساب . ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق .

والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد ، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان :

( وكان بين ذلك قواما ) . .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} (67)

أفاد قوله { إذا أنفقوا } أن الإنفاق من خصالهم فكأنه قال : والذين ينفقون وإذا أنفقوا إلخ . وأريد بالإنفاق هنا الإنفاق غير الواجب وذلك إنفاق المرء على أهل بيته وأصحابه لأن الإنفاق الواجب لا يذمّ الإسراف فيه ، والإنفاق الحرام لا يُحمد مطلقاً بَلْهَ أن يذم الإقتار فيه على أن في قوله { إذا أنفقوا } إشعاراً بأنهم اختاروا أن ينفقوا ولم يكن واجباً عليهم .

والإسراف : تجاوز الحد الذي يقتضيه الإنفاق بحسب حال المنفق وحال المنفَق عليه . وتقدم معنى الإسراف في قوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافاً } في سورة النساء ( 6 ) ، وقوله : { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } في سورة الأنعام ( 141 ) .

والإقتار عكسه ، وكان أهل الجاهلية يسرفون في النفقة في اللذات ويُغْلُون السباء في الخمر ويتممون الأيسار في الميسر . وأقوالهم في ذلك كثيرة في أشعارهم وهي في معلّقة طرفة وفي معلقة لبيد وفي ميمية النابغة ، ويفتخرون بإتلاف المال ليتحدث العظماء عنهم بذلك ، قال الشاعر مادحاً :

مفيد ومتلاف إذا ما أتيتُه *** تهلَّل واهتز اهتزاز المهند

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر { ولا يُقتِروا } بضم التحتية وكسر الفوقية من الإقْتار وهو مرادف التقتير . وقرأه ابن كثير وأبو عَمرو ويعقوب بفتح التحتية وكسر الفوقية من قتر من باب ضَرَب وهو لغة . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح التحتية وضم الفوقية من فعل قتر من باب نصَر .

والإقتار والقَتْر : الإجحاف والنقص مما تسعه الثروة ويقتضيه حال المنفَق عليه . وكان أهل الجاهلية يُقْتِرون على المساكين والضعفاء لأنهم لا يسمعون ثناء العظماء في ذلك . وقد تقدم ذلك عند قوله : { كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيراً الوصية للوالدَيْن } [ البقرة : 180 ] .

والإشارة في قوله : { بين ذلك } إلى ما تقدم بتأويل المذكور ، أي الإسراف والإِقتار .

والقَوام بفتح القاف : العدل والقصد بين الطرفين .

والمعنى : أنهم يضعون النفقات مواضعها الصالحة كما أمرهم الله فيدوم إنفاقهم وقد رغب الإسلام في العمل الذي يدوم عليه صاحبه ، وليسير نظام الجماعة على كفاية دون تعريضه للتعطيل فإن الإسراف من شأنه استنفاد المال فلا يدوم الإنفاق ، وأما الإقتار فمن شأنه إمساكُ المال فيُحرم من يستأهله .

وقوله : { بين ذلك } خبرُ { كَان } و { قَواماً } حال موكِّدة لمعنى { بين ذلك } . وفيها إشعار بمدح ما بين ذلك بأنه الصواب الذي لا عِوَج فيه . ويجوز أن يكون { قَواما } خبر { كان } و { بين ذلك } ظرفا متعلقاً به . وقد جرت الآية على مراعاة الأحوال الغالبة في إنفاق الناس . قال القرطبي : والقَوام في كل واحد بحسب عياله وحاله ولهذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق يتصدق بجميع ماله ومنع غيره من ذلك .