أي يسرعون في حالة تشبه الحمى .
( ومن قبل كانوا يعملون السيئات ) . .
وكان هذا ما ساء الرجل بضيوفه ، وما ضيق بهم ذرعه ، وما دعاه إلى توقع يوم عصيب !
ورأى لوط ما يشبه الحمى في أجساد قومه المندفعين إلى داره ، يهددونه في ضيفه وكرامته . فحاول أن يوقظ فيهم الفطرة السليمة ، ويوجههم إلى الجنس الآخر الذي خلقه الله للرجال ، وعنده منه في داره بناته ، فهن حاضرات ، حاضرات اللحظة إذا شاء الرجال المحمومون تم الزواج على الفور ، وسكنت الفورة المحمومة والشهوة المجنونة !
( قال : يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم . فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي . أليس منكم رجل رشيد ؟ ) .
( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) . .
أطهر بكل معاني الطهر . النفسي والحسي . فهن يلبين الفطرة النظيفة ، ويثرن مشاعر كذلك نظيفة . نظافة فطرية ونظافة أخلاقية ودينية . ثم هن أطهر حسيا . حيث أعدت القدرة الخالقة للحياة الناشئة مكمنا كذلك طاهرا نظيفا .
قالها يلمس نفوسهم من هذا الجانب بعد أن لمسها من ناحية الفطرة .
قالها كذلك يلمس نخوتهم وتقاليد البدو في إكرام الضيف إطلاقا .
فالقضية قضية رشد وسفه إلى جوار أنها قضية فطرة ودين ومروءة . . ولكن هذا كله لم يلمس الفطرة المنحرفة المريضة ، ولا القلوب الميتة الآسنة ، ولا العقول المريضة المأفونة . وظلت الفورة المريضة الشاذة في اندفاعها المحموم :
وقوله تعالى : { وجاءه قومه } الآية ، روي أن امرأة لوط الكافرة لما رأت ، الأضياف ورأت جمالهم وهيئتهم خرجت حتى أتت مجالس قومها فقالت لهم : إن لوطاً أضاف الليلة فتية ما رئي مثلهم جمالاً وكذا وكذا ، فحينئذ جاءوا { يهرعون إليه } ، ومعناه يسرعون ، والإهراع هو : أن يسرع أمر بالإنسان حتى يسير بين الخبب والجمز{[6444]} ، فهي مشية الأسير الذي يسرع به ، والطامع المبادر إلى أمر يخاف فوته ، ونحو هذا ؛ يقال هرع الرجل وأهرعه طمع أو عدو أو خوف ونحوه .
والقراءة المشهورة : «يُهرعون » بضم الياء أي يهرعون الطمع ، وقرأت فرقة : «يَهرعون » بفتح الياء ، من هرع ، ومن هذه اللفظة قول مهلهل : [ الوافر ]
فجاءوا يَهرعون وهم أسارى*** تقودُهم على رغم الأنوف{[6445]}
وقوله : { ومن قبل كانوا يعملون السيئات } ، أي كانت عادتهم إتيان الفاحشة في الرجال ، فجاءوا إلى الأضياف لذلك فقام إليهم لوط مدافعاً ، وقال : { هؤلاء بناتي } فقالت فرقة أشار إلى بنات نفسه وندبهم في هذه المقالة إلى النكاح ، وذلك على أن كانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة ، أو على أن في ضمن كلامه أن يؤمنوا . وقالت فرقة : إنما كان الكلام مدافعة لم يرد إمضاؤه ، روي هذا القول عن أبي عبيدة ، وهو ضعيف ، وهذا كما يقال لمن ينهى عن مال الغير : الخنزير أحل لك من هذا وهذا التنطع ليس من كلام الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ، وقالت فرقة : أشار بقوله : { بناتي } إلى النساء جملة إذ نبي القوم أب لهم ، ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم }{[6446]} وهو أب لهم وأشار أيضاً لوط - في هذا التأويل - إلى النكاح{[6447]} .
وقرأت فرقة - هي الجمهور - «هن أطهرُ » برفع الراء على خبر الابتداء ، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر ومحمد بن مروان وسعيد بن جبير : «أطهرَ » بالنصب قال سيبويه : هو لحن ، قال أبو عمرو بن العلاء : احتبى فيه ابن مروان في لحنه{[6448]} ، ووجهه عند من قرأ به النصب على الحال بأن يكون { بناتي } ابتداء و { هن } خبره ، والجملة خبر { هؤلاء } .
قال القاضي أبو محمد : وهو إعراب مروي عن المبرد ، وذكره أبو الفتح وهو خطأ في معنى الآية ، وإنما قوم اللفظ فقط والمعنى إنما هو في قوله : { أطهر } وذلك قصد أن يخبر به فهي حال لا يستغنى عنها - كما تقدم في قوله : { وهذا بعلي شيخاً } [ هود : 72 ] ، والوجه أن يقال : { هؤلاء بناتي } ابتداء وخبر ، و { هن } فصل و { أطهر } حال وإن كان شرط الفصل أن يكون بين معرفتين ليفصل الكلام من النعت إلى الخبر ، فمن حيث كان الخبر هنا في { أطهر } ساغ القول بالفصل ، ولما لم يستسغ ذلك أبو عمرو ولا سيبويه لحنا ابن مروان ، وما كانا ليذهب عليهما ما ذكر أبو الفتح ، و «الضيف » : مصدر يوسف به الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث{[6449]} ؛ ثم وبخهم بقوله : { أليس منكم رجل رشيد } أي يزعكم ويردكم .
أي جاءه بعضُ قومه . وإنما أسند المجيء إلى القوم لأن مثل ذلك المجيء دأبهم وقد تمالؤوا على مثله ، فإذا جاء بعضهم فسيعقبه مجيء بعض آخر في وقت آخر . وهذا من إسناد الفعل إلى القبيلة إذا فعله بعضها ، كقول الحارث بن وعلة الجرمي :
قومي همُ قتلوا أمَيْمة أخي *** فإذا رميتُ يصيبني سهمي
و { يُهرعون } بضم الياء وفتح الراء على صيغة المبني للمفعول فسّروه بالمشي الشبيه بمشي المدفوع ، وهو بين الخبب والجَمْز ، فهو لا يكون إلا مبنيّاً للمفعول لأن أصله مشي الأسير الذي يُسرَع به . وهذا البناء يقتضي أن الهَرْع هو دفع الماشي حين مشيه ؛ إلاّ أن ذلك تنوسِيَ ، وبقي أهرع بمعنى سار سيراً كسير المدفوع ، ولذلك قال جمع من أهل اللغة : إنّه من الأفعال التي التزموا فيها صيغة المفعول لأنها في الأصل مسندة إلى فاعلٍ غير معلوم . وفسّره في « الصحاح » و« القاموس » بأنه الارتعاد من غضب أو خوف ، وعلى الوجهين فجملة { يهرعون } حال .
وقد طوى القرآن ذكر الغرض الذي جاؤوا لأجله مع الإشارة إليه بقوله : { ومن قبل كانوا يعملون السيّئات } فقد صارت لهم دأباً لا يسعون إلاّ لأجله .
وجملة { قال يا قوم } إلخ مستأنفة بيانياً ناشئاً عن جملة { وجاءه قومه } ، إذ قد علم السامع غرضهم من مجيئهم ، فهو بحيث يسأل عمّا تلقّاهم به .
وبادرهم لوط عليه السّلام بقوله : { يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم } . وافتتاح الكلام بالنّداء وبأنّهم قومه ترقيق لنفوسهم عليه ، لأنّه يعلم تصلبهم في عادتهم الفظيعة كما دلّ عليه قولهم : { لقد علمتَ ما لنا في بناتك من حق } [ هود : 79 ] ، كما سيأتي .
والإشارة ب { هؤلاء } إلى { بناتي } . و { بناتي } بدل من اسم الإشارة ، والإشارة مستعملة في العَرض ، والتقديرُ : فخذوهن .
وجملة { هنّ أطهر لكم } تعليل للعرض . ومعنى { هنّ أطهر } أنهنّ حلال لكم يَحُلْنَ بينكم وبين الفاحشة ، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة قصد به قوّة الطهارة .
و { هؤلاء } إشارة إلى جمع ، إذ بُيّنَ بقوله : { بناتي } .
وقد رُويَ أنه لم يكن له إلاّ ابنتان ، فالظّاهر أن إطلاق البنات هنا من قبيل التشبيه البليغ ، أي هؤلاء نساؤهن كبناتي . وأراد نساءً من قومه بعدد القوم الذين جاءوا يُهرعون إليه . وهذا معنى ما فسر به مجاهد ، وابن جبير ، وقتادة ، وهو المناسب لجعلهنّ لقومه إذ قال : { هنّ أطهر لكم } ، فإن قومه الذين حضروا عنده كثيرون ، فيكون المعنى : هؤلاء النساء فتَزَوّجوهنّ . وهذا أحسن المحامل .
وقيل : أراد بنات صلبه ، وهو رواية عن قتادة . وإذ كان المشهور أنّ لوطاً عليه السّلام له ابنتان صار الجمع مستعملاً في الاثنين بناء على أن الاثنين تعامل معاملة الجمع في الكلام كقوله تعالى : { فقد صَغَت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] .
الأولى : أنّ القوم كانوا عدداً كثيراً فكيف تكفيهم بنتان أو ثلاث ؟ .
الثانية : أن قوله : { هؤلاء بناتي } عرض عليهم كما علمت آنفاً ، فكيف كانت صفة هذه التخلية بين القوم وبين البنات وهم عدد كثير ، فإن كان تزويجاً لم يكفين القوم وإن كان غير تزويج فما هو ؟ .
والجواب عن الأول : أنه يجوز أن يكون عدد القوم الذين جاؤوه بقدر عدد بناته أو أن يكون مع بناته حتى من قومه . وعن الثاني : أنه يجوز أن يكون تصرف لوط عليه السّلام في بناته بوصف الأبوة ، ويجوز أن يكون تصرفاً بوصف النبوءة بالوحي للمصلحة أن يكون من شرع لوط عليه السّلام إباحة تمليك الأب بناته إذا شاء ، فإن كان أولئك الرهط شركاء في ملك بناته كان استمتاع كل واحد بكل واحدة منهنّ حلالاً في شريعته على نحو ما كان البغاء من بقايا الجاهلية في صدر الإسلام قبل أن ينسخ .
وأما لحاق النسب في أولاد من تحمل منهنّ فيجوز أن يكون الولد لاحقاً بالذي تُليطه أمه به من الرجال الذين دخلوا عليها ، كما كان الأمر في البغايا في صدر الإسلام ، ويجوز أن لا يلحق الأولاد بآباء فيكونوا لاحقين بأمّهاتهم مثل ابن الزنى وولد اللّعان ، ويكون هذا التحليل مباحاً ارتكاباً لأخف الضررين ، وهو ممّا يشرع شرعاً مؤقتاً مثل ما شرع نكاح المتعة في أوّل الإسلام على القول بأنه محرّماً وهو قول الجمهور .
وقد اشتغل المفسرون عن تحرير هذا بمسألة تزويج المؤمنات بالكفّار وهو فضول .
وفرع على قوله : { هنّ أطهر لكم } أن أمرهم بتقوى الله لأنّهم إذا امتثلوا ما عرض لهم من النساء فاتّقوا الله .
وقرأ الجمهور { ولا تخزون } بحذف ياء المتكلم تخفيفاً . وأثبتها أبو عمرو .
والخزي : الإهانة والمذلة . وتقدم آنفاً . وأراد مذلته .
و { في } للظرفية المجازيّة . جعل الضيف كالظرف ، أي لا تجعلوني مخزياً عند ضيفي إذ يلحقهم أذى في ضيافتي ، لأنّ الضيافة جوار عند ربّ المنزل ، فإذا لحقت الضيف إهانة كانت عاراً على ربّ المنزل .
والضيف : الضائف ، أي النازل في منزل أحد نزولاً غير دائم ، لأجل مرور في سفر أو إجابة دعوة .
وأصل ضيف مصدر فعل ضاف يضيف ، ولذلك يطلق على الواحد وأكثر ، وعلى المذكر والمؤنث بلفظ واحد ، وقد يعامل معاملة غير المصدر فيجمع كما قال عمرو بن كلثوم :
وقد ظن لوط عليه السّلام الملائكة رجالاً مارّين ببيته فنزلوا عنده للاستراحة والطعام والمبيت .
والاستفهام في { أليس منكم رجل رشيد } إنكار وتوبيخ لأنّ إهانة الضيف مسبّة لا يفعلها إلاّ أهل السفاهة .
وقوله : { منكم } بمعنى بعضكم أنكر عليهم تمالؤهم على الباطل وانعدام رجل رشيد من بينهم ، وهذا إغراء لهم على التعقل ليظهر فيهم من يتفطّن إلى فساد ما هم فيه فينهاهم ، فإنّ ظهور الرشيد في الفئة الضالة يفتح باب الرشاد لهم . وبالعكس تمالؤُهم على الباطل يزيدهم ضراوة به .