في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

158

وأخيرا وفي آية واحدة يضع قواعد التصور الإيماني الصحيح ، وقواعد السلوك الإيماني الصحيح ، ويحدد صفة الصادقين المتقين :

( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ؛ ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ؛ وآتى المال - على حبه - ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ؛ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس . أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) . .

والراجح أن هناك صلة بين هذا البيان وبين تحويل القبلة وما ثار حوله من جدل طويل . ولقد سبق الكلام عن حكمة تحويل القبلة . فالآن يصل السياق إلى تقرير الحقيقة الكبرى حول هذه القضية وحول سائر القضايا الجدلية التي يثيرها اليهود حول شكليات الشعائر والعبادات ، وكثيرا ما كانوا يثيرون الجدل حول هذه الأمور .

إنه ليس القصد من تحويل القبلة ، ولا من شعائر العبادة على الإطلاق ، أن يولي الناس وجوهم قبل المشرق والمغرب . . نحو بيت المقدس أو نحو المسجد الحرام . . وليست غاية البر - وهو الخير جملة - هي تلك الشعائر الظاهرة . فهي في ذاتها - مجردة عما يصاحبها في القلب من المشاعر وفي الحياة من السلوك - لا تحقق البر ، ولا تنشىء الخير : إنما البر تصور وشعور وأعمال وسلوك . تصور ينشىء ء أثره في ضمير الفرد والجماعة ؛ وعمل ينشىء أثره في حياة الفرد والجماعة . ولا يغني عن هذه الحقيقة العميقة تولية الوجوه قبل المشرق والمغرب . . سواء في التوجه إلى القبلة هذه أم تلك ؛ أو في التسليم من الصلاة يمينا وشمالا ، أو في سائر الحركات الظاهرة التي يزاولها الناس في الشعائر .

( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين . . . ) الآية .

ذلك هو البر الذي هو جماع الخير . . فماذا في تلك الصفات من قيم تجعل لها هذا الوزن في ميزان الله ؟

ما قيمة الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ؟

إن الإيمان بالله هو نقطة التحول في حياة البشرية من العبودية لشتى القوى ، وشتى الأشياء ، وشتى الاعتبارات . . إلى عبودية واحدة لله تتحرر بها النفس من كل عبودية ، وترتفع بها إلى مقام المساواة مع سائر النفوس في الصف الواحد أمام المعبود الواحد ؛ ثم ترتفع بها فوق كل شيء وكل اعتبار . . وهي نقطة التحول كذلك من الفوضى إلى النظام ، ومن التيه إلى القصد ، ومن التفكك إلى وحدة الاتجاه . فهذه البشرية دون إيمان بالله الواحد ، لا تعرف لها قصدا مستقيما ولا غاية مطردة ، ولا تعرف لها نقطة ارتكاز تتجمع حولها في جد وفي مساواة ، كما يتجمع الوجود كله ، واضح النسب والارتباطات والأهداف والعلاقات . . والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالعدالة الإلهية المطلقة في الجزاء ؛ وبأن حياة الإنسان على هذه الأرض ليست سدى ولا فوضى بغير ميزان . وبأن الخير لا يعدم جزاءه ولو بدا أنه في هذه الأرض لا يلقى الجزاء . . والإيمان بالملائكة طرف من الإيمان بالغيب الذي هو مفرق الطريق بين إدراك الإنسان وإدراك الحيوان ، وتصور الإنسان لهذا الوجود وتصور الحيوان . الإنسان الذي يؤمن بما وراء الحس والحيوان المقيد بحسه لا يتعداه . . والإيمان بالكتاب والنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعا وبالرسل أجمعين ، وهو الإيمان بوحدة البشرية ، ووحدة إلهها ، ووحدة دينها ، ووحدة منهجها الإلهي . . ولهذا الشعور قيمة في شعور المؤمن الوارث لتراث الرسل والرسالات .

وما قيمة إيتاء المال - على حبه والاعتزاز به - لذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ؟

إن قيمته هي الانعتاق من ربقة الحرص والشح والضعف والأثرة . انعتاق الروح من حب المال الذييقبض الأيدي عن الإنفاق ، ويقبض النفوس عن الأريحية ، ويقبض الأرواح عن الانطلاق . فهي قيمة روحية يشير إليها ذلك النص على حب المال . وقيمة شعورية أن يبسط الإنسان يده وروحه فيما يحب من مال . لا في الرخيص منه ولا الخبيث . فيتحرر من عبودية المال ، هذه العبودية التي تستذل النفوس ، وتنكس الرؤوس . ويتحرر من الحرص . والحرص يذل اعناق الرجال . وهي قيمة إنسانية كبرى في حساب الإسلام ، الذي يحاول دائما تحرير الإنسان من وساوس نفسه وحرصها وضعفها قبل أن يحاول تحريره من الخارج في محيط الجماعة وارتباطاتها ، يقينا منه بأن عبيد أنفسهم هم عبيد الناس ؛ وأن أحرار النفوس من الشهوات هم أحرار الرؤوس في المجتمعات ! . . ثم إنها بعد ذلك كله قيمة إنسانية في محيط الجماعة . . هذه الصلة لذوي القربى فيها تحقيق لمروءة النفس ، وكرامة الأسرة ، ووشائج القربى . والأسرة هي النواة الأولى للجماعة . ومن ثم هذه العناية بها وهذا التقديم . . وهي لليتامى تكافل بين الكبار والصغار في الجماعة ، وبين الأقوياء فيها والضعفاء ؛ وتعويض لهؤلاء الصغار عن فقدان الحماية والرعاية الأبويتين ؛ وحماية للأمة من تشرد صغارها ، وتعرضهم للفساد ، وللنقمة على المجتمع الذي لم يقدم لهم برا ولا رعاية . . وهي للمساكين الذين لا يجدون ما ينفقون - وهم مع ذلك ساكنون لا يسألون ضنا بماء وجوههم - احتفاظ لهم بكرامة نفوسهم ، وصيانة لهم من البوار ، وإشعار لهم بالتضامن والتكافل في محيط الجماعة المسلمة ، التي لا يهمل فيها فرد ، ولا يضيع فيها عضو . . وهي لابن السبيل - المنقطع عن ماله وأهله - واجب للنجدة في ساعة العسرة ، وانقطاع الطريق دون الأهل والمال والديار ؛ وإشعار له بأن الإنسانية كلها أهل ، وبأن الأرض كلها وطن ، يلقى فيها أهلا بأهل ، ومالا بمال ، وصلة بصلة ، وقرارا بقرار . . وهي للسائلين إسعاف لعوزهم ، وكف لهم عن المسألة التي يكرهها الإسلام . وفي الإسلام لا يسأل من يجد الكفاية أو من يجد عملا ، فهو مأمور من دينه أن يعمل ولا يسأل ، وأن يقنع ولا يسأل . فلا سائل إلا حيث يعييه العمل والمال . . وهي في الرقاب اعتاق وتحرير لمن أوقعه سوء عمله في الرق بحمل السيف في وجه الإسلام - حتى يسترد حريته وإنسانيته الكريمة . ويتحقق هذا النص إما بشراء الرقيق وعتقه ، وإما بإعطائه ما يؤدي به ما كاتب عليه سيده في نظير عتقه . والإسلام يعلن حرية الرقيق في اللحظة التي يطلب فيها الحرية ، ويطلب مكاتبته عليها - أي أداء مبلغ من المال في سبيلها ، ومنذ هذه اللحظة يصبح عمله بأجر يحسب له ، ويصبح مستحقا في مصارف الزكاة ، ويصبح من البر كذلك إعطاؤه من النفقات غير الزكاة . . كل أولئك ليسارع في فك رقبته ، واسترداد حريته . .

وإقامة الصلاة ؟ ما قيمتها في مجال البر الذي هو جماع الخير ؟

إن إقامة الصلاة شيء غير التولي قبل المشرق والمغرب . إنها توجه الإنسان بكليته إلى ربه ، ظاهرا وباطنا ، جسما وعقلا وروحا . إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسم ، وليست مجرد توجه صوفي بالروح . فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة . إن الإسلام يعترف بالإنسان جسما وعقلا وروحا في كيان ؛ ولا يفترض أن هناك تعارضا بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للإنسان ، ولا يحاول أن يكبت الجسم لتنطلق الروح ، لأن هذا الكبت ليس ضروريا لانطلاق الروح . ومن ثم يجعل عبادته الكبرى . . الصلاة . مظهرا لنشاط قواه الثلاث وتوجهها إلى خالقها جميعا في ترابط واتساق . يجعلها قياما وركوعا وسجودا تحقيقا لحركة الجسد ، ويجعلها قراءة وتدبرا وتفكيرا في المعنى والمبنى تحقيقا لنشاط العقل ؛ ويجعلها توجها واستسلاما لله تحقيقا لنشاط الروح . . كلها في آن . . وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن الحياة ، وتحقق فكرة الإسلام كلها عن الحياة . . في كل ركعة وفي كل صلاة . وإيتاء الزكاة ؟ . . إنه الوفاء بضريبة الإسلام الاجتماعية التي جعلها الله حقا في أموال الأغنياء للفقراء ، بحكم أنه هو صاحب المال ، وهو الذي ملكه للفرد بعقد منه ، من شروطه إيتاء الزكاة . وهي مذكورة هنا بعد الحديث عن إيتاء المال - على حبه - لمن ذكرتهم الآية من قبل على الإطلاق ؛ مما يشير إلى أن الإنفاق في تلك الوجوه ليس بديلا من الزكاة ، وليست الزكاة بديلة منه . . وإنما الزكاة ضريبة مفروضة ، والإنفاق تطوع طليق . . والبر لا يتم إلا بهذه وتلك . وكلتاهما من مقومات الإسلام . وما كان القرآن ليذكر الزكاة منفردة بعد الإنفاق إلا وهي فريضة خاصة لا يسقطها الإنفاق ، ولا تغني هي عن الإنفاق .

والوفاء بالعهد ؟ إنه سمة الإسلام التي يحرص عليها ، ويكررها القرآن كثيرا ؛ ويعدها آية الإيمان ، وآية الآدمية وآية الإحسان . وهي ضرورية لإيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد وعلاقات الجماعات وعلاقات الأمم والدول . تقوم ابتداء على الوفاء بالعهد مع الله . وبغير هذه السمة يعيش كل فرد مفزعا قلقا لا يركن إلى وعد ، ولا يطمئن إلى عهد ، ولا يثق بإنسان ، ولقد بلغ الإسلام من الوفاء بالعهد لأصدقائه وخصومه على السواء قمة لم تصعد إليها البشرية في تاريخها كله ، ولم تصل إليها إلا على حداء الإسلام وهدي الإسلام .

والصبر في البأساء والضراء وحين البأس ؟ . . إنها تربية للنفوس وإعداد ، كي لا تطير شعاعا مع كل نازلة ، ولا تذهب حسرة مع كل فاجعة ، ولا تنهار جزعا أمام الشدة . إنه التجمل والتماسك والثبات حتى تنقشع الغاشية وترحل النازلة ويجعل الله بعد عسر يسرا . إنه الرجاء في الله والثقة بالله والاعتماد على الله . ولا بد لأمة تناط بها القوامة على البشرية ، والعدل في الأرض والصلاح ، أن تهيأ لمشاق الطريق ووعثائه بالصبر في البأساء والضراء وحين الشدة . الصبر في البؤس والفقر . والصبر في المرض والضعف . والصبر في القلة والنقص . والصبر في الجهاد والحصار ، والصبر على كل حال . كي تنهض بواجبها الضخم ، وتؤدي دورها المرسوم ، في ثبات وفي ثقة وفي طمأنينة وفي اعتدال .

ويبرز السياق هذه الصفة . . صفة الصبر في البأساء والضراء وحين البأس . . يبرزها بإعطاء كلمة( الصابرين )وصفا في العبارة يدل على الاختصاص . فما قبلها من الصفات مرفوع أما هي فمنصوبة على الاختصاص بتقدير : " وأخص الصابرين " . . وهي لفتة خاصة لها وزنها في معرض صفات البر . . لفتة خاصة تبرز الصابرين وتميزهم ، وتخصص هذه السمة من بين سمات الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين وإيتاء المال - على حبه - وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد . . وهو مقام للصابرين عظيم ، وتقدير لصفة الصبر في ميزان الله ، يلفت الأنظار . .

وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد ، وتكاليف النفس والمال ، وتجعلها كلا لا يتجزأ ، ووحدة لا تنفصم . وتضع على هذا كله عنوانا واحدا هو( البر )أو هو " جماع الخير " أو هو " الإيمان " كما ورد في بعض الأثر . والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادىء المنهج الإسلامي المتكامل لا يستقيم بدونها إسلام .

ومن ثم تعقب الآية على من هذه صفاتهم بأنهم :

( أولئك الذين صدقوا ، وأولئك هم المتقون ) . .

أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم . صدقوا في إيمانهم واعتقادهم ، وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة .

وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به ، ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق . .

وننظر نحن من خلال هذه الآية إلى تلك الآفاق العالية التي يريد الله أن يرفع الناس إليها ، بمنهجه الرفيع القويم . . ثم ننظر إلى الناس وهن ينأون عن هذا المنهج ويتجنبونه ، ويحاربونه ، ويرصدون له العداوة ، ولكل من يدعوهم إليه . . ونقلب أيادينا في أسف ، ونقول ما قال الله سبحانه : يا حسرة على العباد !

ثم ننظر نظرة أخرى فتنجلي هذه الحسرة ، على أمل في الله وثيق ، وعلى يقين في قوة هذا المنهج لا يتزعزع ، ونستشرف المستقبل فإذا على الأفق أمل . أمل وضيء منير . أن لا بد لهذه البشرية من أن تفيء - بعد العناء الطويل - إلى هذا المنهج الرفيع ، وأن تتطلع إلى هذا الأفق الوضيء . . والله المستعان .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177 )

وقوله تعالى : { ليس البرُّ } الآية : قرأ أكثر السبعة برفع الراء ، و «البرُّ » اسم ليس ، قال أبو علي : «ليس بمنزلة الفعل فالوجه أن يليها الفاعل ثم المفعول » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : مذهب أبي علي أن { ليس } حرف ، والصواب الذي عليه الجمهور أنها فعل ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص «ليس البرَّ » بنصب الراء ، جعل { أن تولوا } بمنزلة المضمر ، إذ لا يوصف كما لا يوصف المضمر ، والمضمر أولى أن يكون اسماً يخبر عنه( {[1593]} ) ، وفي مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود { ليس البرّ بأن تولوا } ، وقال الأعمش ، إن في مصحف عبد الله : ( لا تحسبن البر ) ( {[1594]} ) ، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : الخطاب بهذه الآية للمؤمنين ، فالمعنى ليس البر الصلاة وحدها ، وقال قتادة والربيع : الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي ، فاليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى مطلع الشمس ، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليها ، وقرأ الجمهور «ولكن البر » ( {[1595]} )والتقدير ولكن البر بر من ، وقيل : التقدير ولكن ذو البر من ، وقيل : { البر } بمنزلة اسم الفاعل تقديره ولكن البار من ، والمصدر إذا أنزل منزلة اسم الفاعل فهو ولا بد محمول على حذف مضاف ، كقولك رجل عدل ورضى( {[1596]} ) .

والإيمان التصديق ، أي صدق بالله تعالى وبهذه الأمور كلها حسب مخبرات الشرائع .

وقوله تعالى : { وآتى المال على حبه } الآية ، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة ، وبها كمال البر( {[1597]} ) ، وقيل هي الزكاة ، و { آتى } معناه أعطى ، والضمير في { حبه } عائد على { المال }( {[1598]} ) فالمصدر مضاف إلى المفعول ، ويجيء قوله { على حبه } اعتراضاً بليغاً أثناء القول( {[1599]} ) ، ويحتمل أن يعود الضمير على الإيتاء أي في وقت حاجة من الناس وفاقة ، فإيتاء المال حبيب إليهم ، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى من قوله : { من آمن بالله } أي من تصدق محبة في الله تعالى وطاعاته ، ويحتمل أن يعود على الضمير المستكن في { آتى } أي على حبه المال ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى المقصود : أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو شحيح صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى ، كما قال صلى الله عليه وسلم( {[1600]} ) .

قال القاضي أبو محمد : والشح في هذا الحديث هو الغريزي الذي في قوله تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح }( {[1601]} ) [ النساء : 128 ] ، وليس المعنى أن يكون المتصدق متصفاً بالشح الذي هو البخل ، و { ذوي القربى } يراد به قرابة النسب .

واليتم في الآدميين من قبل الأب قبل البلوغ ، وقال مجاهد وغيره : { ابن السبيل } المسافر لملازمته السبيل .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كما يقال ابن ماء للطائر الملازم للماء ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل الجنة ابن زنى »( {[1602]} ) أي الملازم له ، وقيل : لما كانت السبيل تبرزه شبه ذلك بالولادة فنسب إليها ، وقال قتادة : { ابن السبيل } الضيف ، والأول أعم ، و { في الرقاب } : يراد به العتق وفك الأسرى وإعطاء أواخر الكتابات ( واقام الصلاة } أتمها بشروطها ، وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس بالزكاة المفروضة ، و { الموفون } عطف على { من } في قوله : { من آمن } ، ويحتمل أن يقدر وهم الموفون ، و { الصابرين } نصب على المدح أو على إضمار فعل ، وهذا مهيع( {[1603]} ) في تكرار النعوت ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «والموفين » على المدح أو على قطع النعوت ، وقرأ يعقوب والأعمش والحسن { والموفون } «والصابرون » وقرأ الجحدري { بعهودهم } ، و { البأساء } الفقر والفاقة ، و { الضراء } المرض ومصائب البدن ، و { حين البأس } وقت شدة القتال .

هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة ، وتقول العرب : بئس الرجل إذا افتقر ، وبؤس إذا شجع .

ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البرة بالصدق في أمورهم أي هم عند الظن بهم والرجاء فيهم كما تقول : صدقني المال وصدقني الربح ، ومنه عود صدق( {[1604]} ) ، وتحتمل اللفظة أيضاً صدق الإخبار ، ووصفهم الله تعالى بالتقى ، والمعنى هم الذي جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح .


[1593]:- توضيح ذلك أن (إنّ وصِلَتَهَا) شبيهة عندهم بالمضمر في كونها لا توصف كما لا يوصف المضمر – وكأنه قد اجتمع هنا مظهر ومضمر وإذ اجتمعا فالمضمر هو الاسم لأنه أعرف المعارف.
[1594]:- على ما قاله الأعمش يكون في مصحف عبد الله قراءتان – [ليس البرّ بأن تولّوا] [ولا تحسبنّ البرّ].
[1595]:- أي بتخفيف النون ورفع البر. تنبيه: في تكملة الإمام السيوطي رحمه الله هنا ما نصه: وقرئ بفتح الباء أي البارّ. انتهى. وهذه القراءة لا وجود لها فيما نعلم لا في المتواتر ولا في الشواذ، وقد قال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت: ولكن البر بفتح الباء، فلو كانت تلك القراءة موجودة ما قال المبرد هذا الكلام، والكمال لله تعالى – أفاده بعض شيوخنا.
[1596]:- يلاحظ أن هذا القول راجع إلى القول الأول، تأمل.
[1597]:- روى الترمذي، وبان ماجة، والدارقطني، عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في المال حق سوى الزكاة).
[1598]:- هذا أقوى وأصح لأنه أقرب مذكور، وحاصل الآراء في عود الضمير: المال، أو الإيتاء، أو الله، أو المعطي للمال.
[1599]:- يعني أنه وقع اعتراضا وفصلا بين المفعولين، وهو فصل بليغ لدلالته على أنه آثر غيره بشيء محبوب ومرغوب فيه، والإيثار من أعلى صفات الإيمان، ونظير هذه الآية قوله تعالى: [ويطعمون الطعام على حبّه] الآية.
[1600]:- رواه الشيخان، عن أبي هريرة – ولفظ مسلم. (أيّ الصدقة أعظم ؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تُمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان). وروى النسائي عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يُنفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعدما يشبع).
[1601]:- من الآية (128) من سورة (النساء).
[1602]:- رواه النسائي، وابن حبان، وأبو النعيم في الحلية، من حديث أبي هريرة، وزعم ابن الجوزي رحمه الله أنه حديث موضوع، وقال الحافظ ابن حجر: فسره العلماء على تقدير صحته بما إذا عمل بعمل أبويه، واتفقوا على أن الحديث لا يحمل على ظاهره، وقيل: إن واظب على ذلك، وهو ما أشار إليه ابن عطية رحمه الله بقوله: أي الملازم له.
[1603]:- أي طريق مألوف وموجود في كلام العرب لا مطعن فيه لأحد، قال أبو علي الفارسي: إذا كثرت الصفات في معرض المدح والذم فالأحسن أن تخالف بإعرابها، ولا تُجعل كلها جارية على موصوفها لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول، فإذا خولف في إعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجها واحدا أو جملة واحدة. ا. هـ.
[1604]:- العود: البعير المُسِنُّ وصَدْقٌ على وزن فَلْسٍ أي صلب.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

قدَّمنا عند قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا اتسعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 153 ] أَن قوله : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } متصل بقوله تعالى : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } [ البقرة : 142 ] ، وأنه ختام للمُحاجة في شأن تحويل القبلة ، وأن ما بين هذا وذلك كله اعتراض أُطنب فيه وأُطيل لأخْذِ معانيه بعضِها بحُجَزِ بعضٍ .

فهذا إقبال على خطاب المؤمنين بمناسبة ذكر أحوال أهل الكتاب وحَسَدِهم المؤمنين على اتِّباع الإِسلام مرادٌ منه تلقين المسلمين الحجةَ على أهل الكتاب في تهويلهم على المسلمين إبطال القبلة التي كانوا يصلُّون إليها ففي ذلك تعريض بأهل الكتاب . فأهل الكتاب رأوا أن المسلمين كانوا على شيء من البر باستقبالهم قبلتَهم فلما تحولوا عنها لمزوهم بأنهم أضاعوا أمراً من أمور البر ، يقول عَدِّ عن هذا وأَعْرِضوا عن تهويل الواهنين وهَبُوا أنَّ قبلة الصلاة تغيرت أو كانت الصلاةُ بلا قبلة أصلاً فهل ذلك أمر له أثر في تزكية النفوس واتصافها بالبر ، فذكر المشرق والمغرب اقتصار على أشهر الجهات أو هو للإِشارة إلى قبلة اليهود وقبلة النصارى لإبطال تهويل الفريقين على المسلمين حين استقبلوا الكعبة ، ومنهم من جعله لكل من يسمع الخطاب .

والبِرّ سعة الإحسان وشدة المرضاة والخير الكامل الشامل ولذلك توصف به الأفعال القوية الإِحسان فيقال : بر الوالدين وبر الحج وقال تعالى : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [ آل عمران : 92 ] ، والمراد به هنا بر العبد ربه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره .

ونفيُ البر عن استقبال الجهات مع أن منها ما هو مشروع كاستقبال الكعبة : إما لأنه من الوسائل لا من المقاصد فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به قصارى همة المؤمنين ولذلك أسقطه الله عن الناس في حال العجز والنسيان وصلوات النوافل على الدابة في السفر ، ولذلك قال : { ولكن البر من آمن } إلخ فإن ذلك كله من أهم مقاصد الشريعة وفيه جماع صلاح النفس والجماعة ، ونظير هذا قوله تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج } [ التوبة : 19 ] الآيات فيكون النفي على معنى نفي الكمال ، وإمَّا لأن المنفي عنه البرُّ هو استقبال قبلتي اليهود والنصارى فقد تقدم لنا أن ذلك الاستقبال غيرُ مشروع في أصل دينهم ولكنه شيء استحسنه أنبياؤُهم ورهبانهم ولذلك نُفي البر عن تولية المشرق والمغرب تنبيهاً على ذلك .

وقرأ الجمهور { ليس البرُّ } برفع { البر } على أنه اسم { ليس } والخبر هو { أَن تُولُّوا } وقرأه حمزة وحفص عن عاصم بنصب { البرَّ } على أن قوله : { أن تولوا } اسمُ { ليس } مؤخر ، ويكثر في كلام العرب تقديم الخبر على الاسم في باب كان وأخواتها إذا كان أحد معمولي هذا الباب مركباً من أنْ المصدرية وفعلِها كان المتكلم بالخيار في المعمول الآخر بين أن يرفعه وأن ينصبه وشأن اسم { ليس } أن يكون هو الجدير بكونه مبتدأ به ، فوجه قراءة رفع { البر } أن البر أمر مشهور معروف لأهل الأديان مرغوب للجميع فإذا جعل مبتدأ في حالة النفي أصغت الأسماع إلى الخبر ، وأما توجيه قراءة النصب فلأن أمر استقبال القبلة هو الشغل الشاغل لهم فإذا ذُكر خبره قبلهُ ترقب السامع المبتدأ فإذا سمعه تقرر في علمه .

وقوله : { ولكن البر من آمن } إخبار عن المصدر باسم الذَّات للمبالغة كعكسه في قولها : « فإنما هي إقبال وإدبار » وذلك كثير في الكلام ومنه قوله تعالى : { إن أصبح ماؤكم غوراً } [ الملك : 30 ] وقول النابغة :

وقد خِفْتُ ما تزيد مَخافَتي*** علَى وَعِلٍ في ذي المطارة عاقلِ

أي وعل هو مخافة أي خائف ، ومن قدر في مثله مضافاً أي برُّ مَنْ آمن أو ولكن ذُو البر فإنما عنى بيان المعنى لا أن هنالك مقداراً ؛ لأنه يخرج الكلام عن البلاغة إلى كلام مغسول كما قال التفتازاني ، وعن المبرد : لو كنتُ ممن يقرأ لقَرَأْتُ ولكن البَر بفتح الباء ، وكأنه أراد الاستغناء عن التقدير في الإخبار عن البر بجملة : { من آمن } لأن مَن آمن هو البار لا نفس البِر وكيف يقرأ كذلك و { البر } معطوف بلكِن في مقابلة البر المثبت فهل يكون إلاّ عينه ولذا لم يقرأ أحد إلاّ البِر بكسر الباء ، على أن القراءات مروية وليست اختياراً ولعل هذا لا يصح عن المبرد .

وقرأ نافع وابن عامر ( ولكنْ البر ) بتخفيف النون من لكن ورفع البر على الابتداء وقرأه بقية العشرة بتشديد نون ( لكن ) ونصب ( البر ) والمعنى واحد .

وتعريف { والكتاب } تعريف الجنس المفيد للاستغراق أي آمن بكُتب الله مثل التوراة والإنجيل والقرآن ، ووجه التعبير بصيغة المفرد أنها أخف مع عدم التباس التعريف بأن يكون للعهد ؛ لأن عطف ( النبيين ) على ( الكتاب ) قرينة على أن اللام في ( الكتاب ) للاستغراق فأوثرت صيغة المفرد طلباً لخفة اللفظ . وما يُظن من أن استغراق المفرد المعرف باللام أشمل من استغراق الجمع المعرف بها ليس جارياً على الاستعمال وإنما توهمه السكاكي في « المفتاح » في قوله تعالى : { قال رب إني وهن العظم مني } [ مريم : 4 ] من كلام وقع في « الكشاف » وما نقل عن ابن عباس أنه قرأ قولَه تعالى : { كلٌّ ءَامَن با لله وملائكته وكِتَابِهِ } [ البقرة : 285 ] ، وقال الكتاب أكثر من الكتب فلو صَحَّ عنه لم يكن مريداً به توجيه قراءته ( وكتابِه ) المعرفَ بالإضافة بل عنى به الأسماء المنفية بلا التبرئة تفرقة بين نحو لا رجل في الدار ونحو لا رجال في الدار في تطرق احتمال نفي جنس الجموع لا جنس الأفراد على ما فيه من البحث فلا ينبغي التعلُّق بتلك الكلمة ولا يصح التعلق بما ذكره صاحب « المفتاح » .

والذي ينبغي اعتماده أن استغراق المفرد والجمع في المعرف باللام وفي المنفي بلا التبرئة سواء وإنما يختلف تعبير أهل اللسان مرة بصيغة الإفراد ومرة بصيغة الجمع تبعاً لحكاية الصورة المستحضرة في ذهن المتكلم والمناسبِة لمقام الكلام ، فأما في المنفي بلا النافية للجنس فلك أن تقول لا رجل في الدار ولا رجال في الدار على السواء إلاّ إذا رجح أحدَ التعبيرين مرجِّح لفظي ، وأما في المعرف باللام أو الإضافة فكذلك في صحة التعبير بالمفرد والجمع سِوى أنه قد يتوهم احتمال إرادة العهد وذلك يَعرض للمفرد والجمع وينْدفع بالقرائن .

وعلى في قوله : { على حبه } مجاز في التمكن من حب المال مثل { أولئك على هدى } [ البقرة : 5 ] وهي في مثل هذا المقام للتنبيه على أبعد الأحوال من مظنة الوصف فلذلك تفيد مفاد كلمة مع وتدل على معنى الاحتراس كما هي في قوله تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً } [ الإنسان : 8 ] وقول زهير :

مَن يَلْقَ يوماً على عِلاَّتِه هَرِماً *** يَلْقَ السماحة فيه والنَّدى خُلُقاً

قال الأعلم في « شرحه » أي فكيف به وهو على غير تلك الحالة اهـ .

وليس هذا معنى مستقلاً من معاني على بل هو استعلاء مجازي أريد به تحقق ثبوت مدلول مدخولها لمعمول متعلقها ، لأنه لبعد وقوعه يحتاج إلى التحقيق ، والضمير للمال لا محالة والمراد أنه يعطي المال مع حبِّه للمال وعدم زهادته فيه فيدل على أنه إنما يعطيه مرضاة لله تعالى ولذلك كان فعله هذا براً .

وذكر أصنافاً ممن يؤتون المال لأن إتيانهم المال ينجم عنه خيرات ومصالح .

فذكر ذوي القربى أي أصحاب قرابة المعطي فاللام في ( القربى ) عوض عن المضاف إليه ، أمر المرء بالإحسان إليهم لأن مواساتهم تكسبهم محبتهم إياه والتئامهم وهذا التئام القبائل الذي أراده الله بقوله : { لتعارفوا } [ الحجرات : 13 ] فليس مقيّداً بوصف فقرهم كما فسر به بعض المفسرين بل ذلك شامل للهدية لأغنيائهم وشامل للتوسعة على المتضائقين وترفيه عيشتهم ، إذ المقصود هو التحابب .

ثم ذكر اليتامى وهم مظنة الضعف لظهور أن المراد اليتيم المحتاج حاجة دون الفقر وَإنما هو فاقد ما كان ينيله أبوه من رفاهية عَيْشٍ ، فإيتاؤهم المال يجبر صدع حياتهم . وذكر السائلين وهم الفقراء . والمسكنة : الذل مشتقة من السكون ووزن مسكين مفعيل للمبالغة مثل مِنطيق . والمسكين الفقير الذي أذله الفقر وقد أتفق أئمة اللغة أن المسكين غير الفقير هو أقل فقراً من الفقير وقيل هو أشد فقراً وهذا قول الجمهور وقد يطلق أحدهما في موضع الآخَر إذا لم يجتمعا وقد اجتمع في قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } [ التوبة : 60 ] ونظيرها في ذكر هؤلاء الأربعة قوله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ البقرة : 215 ] .

وذكر السائلين وهم الفقراء كنى عنهم بالسائلين لأن شأن المرء أن تمنع نفسه من أن يسأل الناس لغير حاجة غالباً .

فالسؤال علامة الحاجة غالباً ، ولو أدخل الشك في العلامات الاعتيادية لارتفعت الأحكام فلو تحقق غنى السائل لما شرع إعطاؤه لمجرد سؤاله ، ورووا : « للسائل حق ولو جاء راكباً على فرس » وهو ضعيف .

وذَكر ابن السبيل وهو الغريب أعْني الضيف في البوادي ؛ إذ لم يكن في القبائل نُزْل أو خانات أو فنادق ولم يكن السائر يستصحب معه المال وإنما يحمل زاد يومه ولذلك كان حق الضيافة فرضاً على المسلمين أي في البوادي ونحوها . وذكر الرقاب والمراد فِداء الأسرى وعتق العبيد . ثم ذكر الزكاة وهي حق المال لأجل الغنى ومصارفها مذكورة في آياتها .

وذكر الوفاء بالعهد لما فيه من الثقة بالمعاهِد ومن كرم النفس وكون الجِد والحق لها دربة وسجية ، وإنما قيد بالظرف وهو إذا عاهدوا أي وقت حصول العهد فلا يتأخر وفاؤهم طَرفَة عَيْن ، وفيه تنبيه على وجوب الاحتياط عند بذل العهد بحيث لا يعاهِد حتى يتحقق أنه يستطيع الوفاء كأنه يقول : فإن علموا ألا يفوا فلا يعاهدوا . وعطف { والموفون } على { من ءامن بالله } وغير أسلوب الوصف فلم يقل ومَنْ أوْفَى بعهده للدلالة على مغايرة الوصفين بأن الأول من علائق حق الله تعالى وأصول الدين والثاني من حقوق العباد .

وذكر الصابرين في البأساء لما في الصبر من الخصائص التي ذكرناها عند قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] ثم ذكر مواقعه التي لا يعدوها وهي حالة الشدة ، وحالة الضر ، وحالة القتال ، فالبأساء والضراء اسمان على وزن فعلاء وليسا وصفين إذ لم يسمع لهما أَفْعَلُ مذكَّراً ، والبأساء مشتقة من البُؤْس وهو سوء الحالة من فقر ونحوه من المكروه ، قال الراغب : وقد غلب في الفقر ومنه البئيس الفقير ، فالبأساء الشدة في المال ، والضراء شدة الحال على الإنسان مشتقة من الضُّرّ ويقابلها السَّرَّاء وهي ما يَسُرّ الإنسان من أحواله ، والبأسُ النكاية والشدة في الحرب ونحوها كالخصومة { قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد } [ النمل : 33 ] { بأسهم بينهم شديد } [ الحشر : 14 ] والشر أيضاً بأس والمراد به هنا الحرب .

فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم . وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشىء عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال .

فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية ، لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها ، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها ، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة وببذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحراراً . والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس ، وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض .

والصبر فيه جماع الفضائل وشجاعة الأمة ولذلك قال تعالى هنا : { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } فحصر فيهم الصدق والتقوى حصراً ادعائياً للمبالغة ، ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر ، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم ، لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيئين ، ولأنهم حرموا كثيراً من الناس حقوقهم ، ولم يفوا بالعهد ، ولم يصبروا .

وفيها أيضاً تعريض بالمشركين إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر ، والنبيئين ، والكتب . وسلبوا اليتامى أموالهم ، ولم يقيموا الصلاة ، ولم يؤتوا الزكاة .

ونصب ( الصابرين ) وهو معطوف على مرفوعات نصبٌ على الاختصاص على ما هو المتعارف في كلام العرب في عطف النعوت من تخيير المتكلم بين الاتباع في الإعراب للمعطوف عليه وبين القطع قاله الرضي ، والقطع يكون بنصب ما حقه أن يكون مرفوعاً أو مجروراً وبرفع ما هو بعكسه ليظهر قصد المتكلم القطع حين يختلف الإعراب ؛ إذ لا يعرف أن المتكلم قصد القطع إلاّ بمخالفة الإعراب ، فأما النصب فبتقدير فعل مدح أو ذم بحسب المقام ، والأظهر تقدير فعل أخُص لأنه يفيد المدح بين الممدوحين والذم بين المذمومين .

وقد حصل بنصب ( الصابرين ) هنا فائدتان : إحداهما عامة في كل قطع من النعوت ، فقد نقل عن أبي علي الفارسي أنه إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف إعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها لأن هذا من مواضع الإطناب فإذا خولف إعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان .

قال في « الكشاف » « نُصِب على المدح وهو باب واسع كسَّره سيبويه على أمثلة وشواهد » اهـ . قلت : قال سيبويه في باب ما ينتصب على التعظيم والمدح « وإن شئتَ جعلته صفة فجرى على الأولِ ، وإن شئتَ قطعته فابتدأْتَه ، مثل ذلك قوله تعالى : { ولكن البر من ءامن بالله واليوم الآخر } إلى قوله { والصابرين } ولو رُفع الصابرين على أول الكلام كان جيداً ، ولو ابتدأته فرفعته على الابتداء كان جيداً ، ونظير هذا النصب قول الخِرْنِقِ :

لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الذِين هُمُو *** سُم العُداةِ وآفة الجُزْرِ

النازِلينَ بكـــل مُعْتَرَكٍ *** والطيِّبون مَعَاقِدَ الأُزْرِ

بنصب النازلين ، ثم قال : وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم تُرِد أن تحدِّث الناس ولا مَنْ تخاطب بأمرٍ جَهِلوه ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمتَ فجعلته ثناء وتعظيماً ونصبه على الفعل كأنه قال أَذْكُرُ أهْلَ ذلك وأَذْكُرُ المقيمين ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره » اهـ قلت : يؤيد هذا الوجه أنه تكرر مثله في نظائر هذه الآية في سورة النساء { والمقيمين الصلاة } [ النساء : 162 ] عطفاً على { لكن الراسخون في العلم } [ النساء : 162 ] ، وفي سورة العقود { والصابئون } [ المائدة : 69 ] عطفاً على { إن الذين آمنوا والذين هادوا } [ المائدة : 69 ] .

الفائدة الثانية أن في نصب { الصابرين } بتقدير أخص أو أمدح تنبيهاً على خصيصية الصابرين ومزية صفتهم التي هي الصبر .

قال في « الكشاف » : « ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحناً في خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظرْ في الكتابِ ولم يعرف مذاهب العرب ومالَهم في النصب على الاختصاص من الافتتان اهـ » وأقول : إن تكرره كما ذكرنا وتقارب الكلمات يربأُ به على أن يكون خطأً أو سهواً وهو بين كلمتين مخالفتين إعرابه .

وعن الكسائي أن نصبه عطف على مفاعيل { آتى } أي وآتى المال الصابرين أي الفقراء المتعففين عن المسألة حين تصيبهم البأساء والضراء والصابرين حين البأس وهم الذين لا يجدون ما ينفقون للغزو ويحبون أن يغزوا ، لأن فيهم غناء عن المسلمين قال تعالى : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون } [ التوبة : 92 ] .

وعن بعض المتأولين أن نصب { والصابرين } وقع خطأ من كتاب المصاحف وأنه مما أراده عثمان رضي الله عنه فيما نُقل عنه أنه قال بعد أن قرأ المصحف الذي كتبوه : « إنِّي أجد به لحناً ستقيمه العرب بألسنتها » وهذا مُتَقَوَّل على عثمان ولو صح لكان يريد باللحن ما في رسم المصاحف من إشارات مثل كتابة الألف في صورة الياء إشارة إلى الإمالة ولم يكن اللحن يطلق على الخطأ .

وقرأ يعقوب { والصابرون } بالرفع عطفاً على { والموفوف } .