في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (50)

40

فإذا فرغ من التعقيب جاء بمشهد النجاة بعد مشاهد العذاب . .

( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . .

وقد وردت تفصيلات هذه النجاة في السور المكية التي نزلت من قبل . أما هنا فهو مجرد التذكير لقوم يعرفون القصة . سواء من القرآن المكي ، أو من كتبهم وأقاصيصهم المحفوظة . إنما يذكرهم بها في صورة مشهد ، ليستعيدوا تصورها ، ويتأثروا بهذا التصور ، وكأنهم هم الذين كانوا ينظرون إلى فرق البحر ، ونجاة بني إسرائيل بقيادة موسى - عليه السلام - على مشهد منهم ومرأى ! وخاصية الاستحياء هذه من أبرز خصائص التعبير القرآني العجيب .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (50)

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ( 50 )

{ فرقنا } معناه : جعلناه( {[586]} ) فرقاً ، وقرأ الزهري «فرَّقنا » بتشديد الراء ، ومعنى { بكم } بسببكم ، وقيل لما كانوا بين الفرق وقت جوازهم فكأنهم بهم فرق ، وقيل معناه لكم ، والباء عوض اللام وهذا ضعيف ، و { البحر } هو بحر القلزم ، ولم يفرق البحر عرضاً جزعاً( {[587]} ) من ضفة إلى ضفة ، وإنما فرق من موضع إلى موضع آخر في ضفة واحدة ، وكان ذلك الفرق بقرب موضع النجاة ، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوعار حائلة .

وذكر العامري أن موضع خروجهم من البحر كان قريباً من برية فلسطين وهي كانت طريقهم .

وقيل انفلق البحر عرضاً وانفرق البحر على اثني عشر طريقاً ، طريق لكل سبط فلما دخلوها قالت كل طائفة غرق أصحابنا وجزعوا ، فقال موسى : اللهم أعني على أخلاقهم السيئة ، فأوحى الله إليه أن أدر عصاك على البحر ، فأدارها فصار في الماء فتوح كالطاق يرى بعضهم بعضاً ، وجازوا ، وجبريل صلى الله عليه وسلم في ساقتهم على ماذيانة( {[588]} ) يحث بني إسرائيل ويقول لآل فرعون : مهلاً حتى يلحق آخركم أولكم ، فلما وصل فرعون إلى البحر أراد الدخول فنفر فرسه فتعرض له جبريل بالرمكة( {[589]} ) فاتبعها الفرس ، ودخل آل فرعون وميكائيل يحثهم ، فلما لم يبق إلا ميكائيل في ساقتهم على الضفة وحده انطبق البحر عليهم فغرقوا .

و { تنظرون } قيل معناه بأبصاركم ، لقرب بعضهم من بعض .

وقيل معناه ببصائركم للاعتبار لأنهم كانوا في شغل عن الوقوف والنظر بالأبصار .

وقيل : إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم .

وقيل المعنى وأنتم بحال من ينظر لو نظر ، كما تقول : هذا الأمر منك بمرأى ومسمع ، أي بحال تراه وتسمعه إن شئت .

قال الطبري رحمه الله : وفي إخبار القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في خفي( {[590]} ) على بني إسرائيل ، دليل واضح عند بني إسرائيل وقائم عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .


[586]:- أي فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه طرق ومسالك على عدد الأسباط الإسرائلية. وكان ذلك بعصا [موسى] كما يشهد بذلك قوله تعالى: [أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم] وهذا أصح وأقوى مما بعده. وقال في المصباح: "فرقت بين الشيء فرقا من باب قتل فصلت أبعاضه، وفرقت بين الحق والباطل فصلت أيضا، هذه هي اللغة العالية وبها قرأ السبعة قوله تعالى: [فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين]، وفي لغة من باب ضرب، وقرأ بها بعض التابعين وقال ابن الأعرابي: فرقت بين الكلامين فافترقا مخفف، وفرقت بين العبدين فتفرقا مثقل، فجعل المخفف في المعاني والمثقل في الأعيان، والذي حكاه غيره أنهما بمعنى واحد، والتثقيل مبالغة". ثم قال: "والفرقة بالكسر من الناس وغيرهم، والجمع فرق مثل سدرة وسدر، والفرق بحذف الهاء مثل الفرِقة، وفي التنزيل: (فكان كل فرق كالطود العظيم) والجمع أفراق مثل حِمل وأحمال، والفريق كذلك.
[587]:- يقال: جزعت الوادي جزعا من باب نفع: قطعته إلى الجانب الآخر، والمراد أن الفرق كان طولا لا عرضا.
[588]:- لعلها الرمكة المذكورة بعد. وفي القاموس: والماذيانات- وتفتح ذالها-: مسايل الماء، أو ما ينبت على حافتي مسيل الماء، أو ما ينبت حول السواقي- ويقال: أمذى الفرس: أرسله يرعى في الماذيانات.
[589]:- الرمكة: الأنثى من البراذين، والجمع رِماك ورَمَكات وأرْماك أيضا.
[590]:- وفي بعض النسخ: إلا في حق بني إسرائيل.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَيۡنَٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَآ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ} (50)

هذا زيادة في التفصيل بذكر نعمة أخرى عظيمة خارقة للعادة ، بها كان تمام الإنجاء من آل فرعون ، وفيها بيان مقدار إكرام الله تعالى لهم ومعجزة لموسى عليه السلام وتعدية فعل { فرقنا } إلى ضمير المخاطبين بواسطة الحرف جار على نحو تعدية فعل { نجيناكم } [ البقرة : 49 ] إلى ضميرهم كما تقدم .

وفَرَق وفرَّق بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد إذ التشديد يفيده تعدية ومعناه الفصل بين أجزاء شيء متصل الأجزاء ، غير أن فرق يدل على شدة التفرقة وذلك إذا كانت الأجزاء المفرقة أشد اتصالاً ، وقد قيل إن فرّق للأجسام وفرق للمعاني نقله القرافي عن بعض مشايخه وهو غير تام كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بدليل هذه الآية ، فالوجه أن فَرَّقَ بالتشديد لما فيه علاج ومحاولة وأن المخفف والمشدد كليهما حقيقة في فصل الأجسام وأما في فصل المعاني الملتبسة فمجاز .

وقد اتفقت القراءات المتواترة العشر على قراءة { فرقنا } بالتخفيف والتخفيف منظور فيه إلى عظيم قدرة الله تعالى فكان ذلك الفرق الشديد خفيفاً .

* وتصغر في عين العظيم العظائم *

وأل في { البحر } للعهد وهو البحر الذي عهدوه أعني بحر القلزم المسمى اليوم بالبحر الأحمر وسمته التوراة بحر سوف .

والباء في { بكم } إما للملابسة كما في طارت به العنقاء وعدا به الفرس ، أي كان فرق البحر ملابساً لكم والمراد من الملابسة أنه يفرق وهم يدخلونه فكان الفرق حاصلاً بجانبهم . وجوز صاحب « الكشاف » كون الباء للسببية أي بسببكم يعني لأجلكم .

والخطاب هنا كالخطاب في قوله : { وإذ نجيناكم من آل فرعون } [ البقرة : 49 ] .

وقوله : { فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون } هو محل المنة وذكر النعمة وهو نجاتهم من الهلاك وهلاك عدوهم ، قال الفرزدق :

كيف تراني قَاليا مجنى *** قد قتل الله زياداً عني

فكون قوله : { وإذ فرقنا بكم البحر } تمهيداً للمنة لأنه سبب الأمرين النجاة والهلاك وهو مع ذلك معجزة لموسى عليه السلام .

وقد أشارت الآية إلى ما حدث لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر من لحاق جند فرعون بهم لمنعهم من مغادرة البلاد المصرية وذلك أنهم لما خرجوا ليلاً إما بإذن من فرعون كما تقول التوراة في بعض المواضع ، وإما خفية كما عبرت عنه التوراة بالهروب ، حصل لفرعون ندم على إطلاقهم أو أغراه بعض أعوانه بصدهم عن الخروج لما في خروجهم من إضاعة الأعمال التي كانوا يسخرون فيها أو لأنه لما رآهم سلكوا غير الطريق المألوف لاجتياز مصر إلى الشام ظنهم يرومون الانتشار في بعض جهات مملكته المصرية فخشى شرهم إن هم بعدوا عن مركز ملكه ومجتمع قوته وجنده .

إن بني إسرائيل ما خرجوا من جهات حاضرة مصر وهي يومئذ مدينة منفيس{[124]} لم يسلكوا الطريق المألوف لبلاد الشام إذ تركوا أن يسلكوا طريق شاطىء بحر الروم ( المتوسط ) فيدخلوا برية سينا من غير أن يخترقوا البحر ولا يقطعوا أكثر من اثنتي عشرة مرحلة أعني مائتين وخمسين ميلاً وسلكوا طريقاً جنوبية شرقية حول أعلى البحر الأحمر لئلا يسلكوا الطريق المألوفة الآهلة بقوافل المصريين وجيوش الفراعنة فيصدوهم عن الاسترسال في سيرهم أو يُلحق بهم فرعون من يردهم لأن موسى علم بوحي كما قال تعالى : 0{ وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنك متبعون } [ الشعراء : 52 ] إن فرعون لا يلبث أن يصدهم عن المضي في سيرهم فلذلك سلك بهم بالأمر الإلهي طريقاً غير مطروقة فكانوا مضطرين للوقوف أمام البحر في موضع يقال له « فم الحيروث » فهنالك ظهرت المعجزة إذ فلق الله لهم البحر بباهر قدرته فأمر موسى أن يضربه بعَصاه فانفلق وصار فيه طريق يبس مرت عليه بنو إسرائيل وكان جند فرعون قد لحق بهم ورام اقتحام البحر وراءهم فانطبق البحر عليهم فغرقوا .

وقوله : { وأغرقنا آل فرعون } أي جنده وأنصاره . ولم يذكر في هاته الآية غرق فرعون لأن محل المنة هو إهلاك الذين كانوا المباشرين لتسخير بني إسرائيل وتعذيبهم والذين هم قوة فرعون وقد ذكر غرق فرعون في آيات أخرى نتكلم عليها في موضعها إن شاء الله ، وكان ذلك في زمن الملك « منفتاح » ويقال له « منفطة » أو « مينيتاه » من فراعنة العائلة التاسعة عشرة في ترتيب فراعنة مصر عند المؤرخين .

قوله : { وأنتم تنظرون } جملة حالية من الفاعل وهو ضمير الجلالة في { فرقنا } و { أنجينا } و { أغرقنا } مقيدة للعوامل الثلاثة على سبيل التنازع فيها ، ولا يتصور في التنازع في الحال إضمار في الثاني على تقدير إعمال الأول لأن الجملة لا تضمر كما لا يضمر في التنازع في الظرف نحو سكن وقرأ عندك ولعل هذا مما يوجب إعمال الأول وهذا الحال زيادة في تقرير النعمة وتعظيمها فإن مشاهدة المنعم عليه للنعمة لذة عظيمة لا سيما ومشاهدة إغراق العدو أيضاً نعمة زائدة كما أن مشاهدة فرق البحر نعمة عظيمة لما فيها من مشاهدة معجزة تزيدهم إيماناً وحادث لا تتأتى مشاهدته لأحد . ويجوز أن تكون الجملة حالاً من المفعول وهو ( آل فرعون ) أي تنظرونهم ، ومفعول { تنظرون } محذوف ولا يستقيم جعله منزلاً منزلة اللازم . وإسناد النظر إليهم باعتبار أن أسلافهم كانوا ناظرين ذلك لأن النعمة على السلف نعمة على الأبناء لا محالة فضمير الخطاب مجاز .


[124]:- لأن مقر الإسرائيليين كان بمصر السفلى كما تقدم وكانت قاعدتها منفيس وهي يوم دخول بني إسرائيل لحكم العمالقة، وكان مقر الفراعنة أيم خروج مصر السفلى منهم بمدينة طيوة أو طيبة قاعدة مصر العليا، ثم رجعوا لمنفيس وان خروج بني إسسرائيل من مدينة تسمى رعميس في جهات مصر السفلى.