في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَلۡقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٖ} (24)

16

ولا يذكر السياق شيئا عن مراجعة هذا السجل تعجيلا بتوقيع الحكم وتنفيذه . إنما يذكر مباشرة النطق العلوي الكريم ، للملكين الحافظين : السائق والشهيد : ( ألقيا في جهنم كل كفار عنيد . مناع للخير معتد مريب . الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد ) . . وذكر هذه النعوت يزيد في حرج الموقف وشدته . فهو دلالة غضب الجبار القهار في الموقف العصيب الرهيب ؛ وهي نعوت قبيحة مستحقة لتشديد العقوبة : كفار . عنيد . مناع للخير . معتد . مريب .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَلۡقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٖ} (24)

وقال عبد الرحمن بن زيد في كتاب الزهراوي : هو قول للسائق والشهيد ، وحكى الزهراوي أن المأمور بإلقاء الكافر في النار اثنان ، وعلى هذين القولين لا نظر في قوله : { ألقيا } . وقال مجاهد وجماعة من المتأولين : هو قول للقرين : إما السائق ، وإما الذي هو من الزبانية حسبما تقدم واختلف أهل هذه المقالة في معنى قوله : { ألقيا } وهو مخاطبة لواحد ، فقال المبرد معناه : الق الق ، فإنما أراد تثنية الأمر مبالغة وتأكيداً ، فرد التثنية إلى الضمير اختصاراً كما قال [ امرؤ القيس ] :

لفتك الأمين على نابل . . . {[10539]}

يريد : ارم ارم . وقال بعض المتأولين : «ألقين » فعوض من النون ألف كما تعوض من التنوين . وقال جماعة من أهل العلم بكلام العرب : هذا جرى على عادة العرب ، وذلك أنها كان الغالب عندها أن تترافق في الأسفار ونحوها ثلاثة ، فكل واحد منهم يخاطب اثنين ، فكثر ذلك في أشعارها وكلامها حتى صار عرفاً في المخاطبة ، فاستعمل في الواحد ، ومن هذا قولهم في الأشعار : خليلي ، وصاحبي ، وقفا نبك{[10540]} ونحوه ، وقد جرى المحدثون على هذا الرسم ، فيقول الواحد : حدثنا ، وإن كان سمع وحده ، ونظير هذه الآية في هذا القول قول الزجاج : يا حارسي اضربا عنقه ، وهو دليل على عادة العرب ، ومنه قول الشاعر [ سويد بن كراع العكلي ] : [ الطويل ]

فإن تزجراني بابن عفان أنزجر . . . وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعا{[10541]}

وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «ألقين » بتنوين الياء و : { كفار } مبالغة . و : { عنيد } معناه : عاند عن الحق أي منحرف عنه .


[10539]:هذا عجز بيت قاله امرؤ القيس من أبيات له قالها بعد أن انتصر على بني أسد، والبيت بتمامه: نطعنهم سُلكى ومخلوجة لفتك لأمين على نابل وهو في الديوان واللسان، والرواية في الديوان:"كرك" بدلا من "لفتك"، وسُلكى: طعنا مستويا أو أمام الوجه، ومخلوجة: معوجة عن يمين وشمال، يريد أنهم يطعنونهم من أمام ومن يمين وشمال، وكرك: ردك، وكذلك لفتك، واللأم: السهم، والنابل: من يرمي بالنبل، والمعنى: إننا نطعنهم ونعيد الطعن بسرعة كما نرد سهمين على صاحب نبل يرمي بسهمين ثم يعادان عليه بسرعة. وقد روى صاحب اللسان أن بعض أهل العلم سأل رؤبة عن هذا البيت فقال: حدثني أبي عن أبيه، قال: حدثتني عمتي وكانت في بني دارم أنها سألت امرأ القيس وهو يشرب طلاء مع علقمة بن عبدة عن معناه فقال: مررت بنابل وصاحبه يناوله الريش لؤاما وظُهارا فما رأيت أسرع منه فتشبهت به.
[10540]:أما (خليلي) فمثاله قول امرئ القيس: خليلي مُرّا بي على أم جندب نقضي لبانات الفؤاد المُعذب وأما (صاحبي) فمثاله قول أبي تمام: يا صاحبي تقصيا نظريكما تريا وجوه الأرض كيف تصور تريا نهارا مشمسا قد شابه زهر الربى فكأنما هو مقمر وأما (قفا نبك)، فهو في مطلع معلقة امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
[10541]:هذا البيت من شواهد الفراء التي ذكرها في (معاني القرآن)، قال:"العرب تأمر الواحد بما يؤمر به الاثنان، فيقولون للرجل: قوما عنا" وروى في ذلك مثالا ثم قال:"وأنشدني أبو ثروان: وإن تزجراني...البيت، ونرى أن ذلك منهم أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرفقة أدنى ما يكونون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبيه"، والزجر: المنع والنهي والانتهار، يقال: زجره يزجره فانزجر وازدجر، والحماية: المنع والصيانة، والعرض: ما يمدح ويُذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو سلفه أو من يلزمه أمره، ومعنى البيت: إن تركتماني حميت عرضي ممن يؤذيني، وإن زرجتماني انزجرت وصبرت. هذا والبيت لسويد بن كُراع العُكلي، وكان قد هجا بني عبد الله بن دارم فاستعدوا عليه سعيد بن عثمان، فأراد ضربه، فقال سويد قصيدة بدأها بقوله: تقول ابنة العوفي ليلى: ألا ترى إلى ابن كراع لا يزال مُفزعا؟ مخافة هذين الأميرين سهّدت رُقادي وغشتني بياضا مُقزعا فإن أنتما أحكمتماني فازجرا أراهط تؤذي من الناس رُضعا وإن تزجراني يا بن عفان أنزجر وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا وهذا يدل على أن العرب تخاطب الواحد بلفظ الاثنين، فقد خاطب سعيد بن عفان بقوله:(وإن تزجراني)، ولعله أراد سعيد بن عفان هذا ومن ينوب عنه أو يحضر معه. كذلك نلحظ أنه قال أيضا(أحكمتماني) وهو خطاب للواحد بلفظ الاثنين.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَلۡقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٖ} (24)

انتقال من خطاب النفس إلى خطاب الملكين الموكليْن السائق والشهيد . والكلام مقول قول محذوف . والجملة استئناف ابتدائي انتقال من خطاب فريق إلى خطاب فريق آخر ، وصيغة المثنى في قوله : { ألْقِيا } تجوز أن تكون مستعملة في أصلِها فيكون الخطاب للسائق والشهيد . ويجوز أن تكون مستعملة في خطاب الواحد وهو الملك الموكّل بجهنّم وخُوطب بصيغةِ المثنّى جريْا على طريقة مستعملة في الخطاب جرت على ألسنتهم لأنهم يكثر فيهم أن يرافق السائرَ رفيقان ، وهي طريقة مشهورة ، كما قال امرؤ القيس :

قفا نبك من ذكرَى حبيب ومنزل ***

وقولهم : يا خليلَيَّ ، ويا صاحبَيّ . والمبرد يرى أن تثنية الفاعل نُزلت منزلة تثنية الفعل لاتحادهما كأنه قيل : ألْققِ ألْققِ للتأكيد . وهذا أمر بأن يُعم الإلقاءُ في جهنم كلّ كفار عنيد ، فيعلم منه كلُّ حاضر في الحشر من هؤلاء أنه مَدفوع به إلى جهنم .

والكفَّار : القوي الكفر ، أي الشرك .

والعنيد : القوي العناد ، أي المكابرة والمدافعة للحق وهو يعلم أنه مبطل .