( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون . واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ، وأن الله عنده أجر عظيم ) . .
إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول . فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية :
" لا إله إلا الله ، محمد رسول الله " . . قضية إفراد الله - سبحانه - بالألوهية ؛ والأخذ في هذا بما بلغه محمد [ ص ] وحده . . والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة ؛ ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى . أحيانا قليلة في الاعتقاد والعبادة . وأحيانا كثيرة في الحاكمية والسلطان - وهذا هو غالب الشرك ومعظمه - ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله . ولكن حملهم على إفراده - سبحانه - بالألوهية ، وشهادة أن لا إله إلا الله ، اي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية - كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون - تحقيقا لقول الله تعالى : ( وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ) . . كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله ؛ ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه . هذه هي قضية هذا الدين - اعتقادا لتقريره في الضمير ، وحركة لتقريره في الحياة - ومن هنا كان التخلي عنها خيانة الله لله والرسول ؛ يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان ؛ فأصبح متعينا عليها أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي ؛ والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد .
كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله [ ص ] على الإسلام . فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان ، وليس مجرد عبارات وأدعيات . إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق . إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله ؛ وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق ؛ ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته ، ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء ؛ وتأمين الحق والعدل للناس جميعا ؛ وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت ؛ وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله
وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها ؛ وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه ، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله .
هذا خطاب لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة ، وهو يجمع أنواع الخيانات كلها قليلها وكثيرها ، قال الزهراوي : والمعنى لا تخونوا بغلول الغنائم ، وقال الزهراوي وعبد الله بن أبي قتادة : سبب نزولها أمر أبي لبابة ، وذلك أنه أشار لبني قريظة حين سفر إليهم إلى حلقه يريد بذلك إعلامهم أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذبح ، أي فلا تنزلوا ، ثم ندم وربط نفسه بسارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه ، الحديث المشهور{[5292]} ، وحكى الطبري أنه أقام سبعة أيام لا يذوق شيئاً حتى تيب عليه ، وحكي أنه كان لأبي لبابة عندهم مال وأولاد فلذلك نزلت { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } ، وقال عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله : سببها أن رجلاً من المنافقين كتب إلى أبي سفيان بن حرب بخبر من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية{[5293]} ، فقوله : { يا أيها الذين آمنوا } معناه أظهروا الإيمان ، ويحتمل أن يخاطب المؤمنين حقاً أن لا يفعلوا فعل ذلك المنافق ، وحكى الطبري عن المغيرة بن شعبة أنه قال : أنزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه .
قال القاضي أبو محمد : يشبه أن تمثل بالآية في قتل عثمان رحمه الله ، فقد كانت خيانة لله وللرسول والأمانات ، والخيانة : التنقص للشيء باختفاء ، وهي مستعملة في أن يفعل الإنسان خلاف ما ينبغي من حفظ أمر ما ، مالاً كان أو سرّاً أو غير ذلك ، والخيانة لله تعالى هي في تنقص أوامره في سر وخيانة الرسول تنقص فقد اؤتمن على دينه وعبادته وحقوق الغير ، وقيل المعنى وتخونوا ذوي أماناتكم ، وأظن الفارسي أبا علي حكاه ، { وأنتم تعلمون } ، يريد أن ذلك لا يضر منه إلا ما كان عن تعمد .
وقوله { فتنة } يريد محنة واختباراً وابتلاء ليرى كيف العمل في جميع ذلك ، وقوله { وأن الله عنده أجر عظيم } يريد فوز الآخرة فلا تدعوا حظكم منه للحيطة على أموالكم وأبنائكم فإن المدخور للآخرة أعظم قدراً من مكاسب الدنيا .
وقوله تعالى : { وتخونوا } قال الطبري : يحتمل أن يكون داخلاً في النهي كأنه قال : لا تخونوا الله والرسول ولا تخونوا أماناتكم فمكانه على هذا جزم ، ويحتمل أن يكون المعنى لا تخونوا الله والرسول فذلك خيانة لأماناتكم فموضعه على هذا نصب على تقدير وأن تخونوا أماناتكم ، قال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله*** عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ{[5294]}
وقرأ مجاهد وأبو عمرو بن العلاء فيما روي عنه أيضاً «وتخونوا أمانتكم » على إفراد الأمانة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله "لا تَخُونُوا الله": وخيانتهم الله ورسوله كانت بإظهار من أظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الإيمان في الظاهر والنصيحة، وهو يستسرّ الكفر والغشّ لهم في الباطن، يدلّون المشركين على عورتهم، ويخبرونهم بما خفي عنهم من خبرهم.
وقد اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية، وفي السبب الذي نزلت فيه؛ فقال بعضهم: نزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سرّ المسلمين... وقال آخرون: بل نزلت في أبي لبابة للذي كان من أمره وأمر بني قريظة...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله نهى المؤمنين عن خيانته وخيانة رسوله وخيانة أمانته، وجائز أن تكون نزلت في أبي لبابة، وجائز أن تكون نزلت في غيره، ولا خبر عندنا بأيّ ذلك كان يجب التسليم له بصحته، فمعنى الآية وتأويلها ما قدمنا ذكره...
واختلفوا في تأويل قوله: "وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ"؛
فقال بعضهم: لا تخونوا الله والرسول، فإن ذلك خيانة لأماناتكم وهلاك لها... فإنهم إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم...
وقال آخرون: معناه: لا تخونوا الله والرسول، ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون...
واختلف أهل التأويل في معنى الأمانة التي ذكرها الله في قوله: "وتَخُونُوا أماناتِكُمْ"؛ فقال بعضهم: هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله... يقول: لا تَخُونُوا: يعني لا تنقصوها...
وقال آخرون: معنى الأمانات ههنا: الدّين... قال ابن زيد، في قوله: "وَتخُونُوا أماناتِكُمْ": دينكم. "وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ" قال: قد فعل ذلك المنافقون وهم يعلمون أنهم كفار، يظهرون الإيمان...فتأويل الكلام إذن: يا أيها الذين آمنوا لا تنقصوا الله حقوقه عليكم من فرائضه ولا رسوله من واجب طاعته عليكم، ولكن أطيعوهما فيما أمراكم به ونهياكم عنه، لا تنقصوهما، وتخونوا أماناتكم، وتنقصوا أديانكم، وواجب أعمالكم، ولازمها لكم، وأنتم تعلمون أنها لازمة عليكم وواجبة بالحجج التي قد ثبتت لله عليكم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} فيه ثلاثة أوجه:...
والثالث: أنه على العموم في كل أمانة أن تؤدى ولا تخان.
{وَأَنتُم تَعْلَمُونَ} فيه قولان:
أحدهما: وأنتم تعلمون أنها أمانة من غير شبهة.
والثاني: وأنتم تعلمون ما في الخيانة من المأثم بخلاف من جهل...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الخيانة: الاستبطان بخلاف ما يُؤَمَّل منك بحق التعويل، فخيانةُ اللهِ بتضييع ما ائتمنك عليه، وذلك بمخالفة النُّصح في دينه. وخيانة الرسولِ بالاتصاف بمخالفة ما تبدي من مشايعته. والخيانة في الأمانات بترك الإنصاف والاتصاف بغير الصدق. وخيانة كل أحد على حسب ما وضع عنده من الأمانة... وإذا أَخْلَلْتَ بِسُنَّةٍ من السُّنَنِ أو أدبِ من آداب الشَّرع فتلك خيانة الرسول صلى الله عليه وسلم. والخيانة في الأمانات -بينك وبين الخلْق- تكون بإيثار نصيب نفسك على نصيب المسلمين، بإرادة القلب فضلاً عن المعاملة بالفعل...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقيل: الآية في جميع الأمانات، نهي العباد عن الخيانة في الأمانات، وتدخل في الأمانات الطاعات؛ فإن الطاعات أمانات عند العباد على معنى أنها بينهم وبين ربهم أدّوها أو لم يؤدّوها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
معنى الخون: النقص، كما أن معنى الوفاء: التمام. ومنه: تخوّنه، إذا تنقصه، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا خطاب لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة، وهو يجمع أنواع الخيانات كلها قليلها وكثيرها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختم الآية بما هو في غاية النصيحة منه تعالى لهم من الإيواء والنصر والرزق الطيب المشار به إلى الامتنان بإحلال المغنم، وختم ذلك بالحث على الشكر؛ نهانا عن تضييع الشكر في ذلك بالخيانة في أوامره بالغلول أو غيره فقال: {يا أيها الذين آمنوا} تذكيراً بما ألزموا به أنفسهم من الوفاء {لا تخونوا الله} أي تنقصوا من حقوق الملك الأعظم، فإن أصل الخون النقص ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء فصارت نقصاً خاصاً {والرسول} بغلول ولا غيره، بل أدوا الأمانه في جميع ذلك، ولعله كرر العامل في قوله: {وتخونوا آماناتكم} من الفرائض والحدود والنوافل وغيرها إشارة إلى أن الخيانتين مختلفتان، فخيانتهم لله حقيقة، وخيانتهم للأمانه استعارة، لأن حاملها لما أخلَّ بها كان كأنه خانها؛ وخفف عنهم بقوله: {وأنتم تعلمون} حال الغفلة ونحوها، ويجوز أن يكون المفعول غير مراد فيكون المعنى: وأنتم علماء، ويكون ذلك مبالغة في النهي عنها بأنهم جديرون بأن لا يقبل منهم عذر بجهل ولا نسيان لأنهم علماء، والعالم هو العارف بالله، والعارف به لا ينبغي أن ينفك عن المراقبة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... والمعنى {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله} تعالى بتعطيل فرائضه أو تعدي حدوده وانتهاك محارمه التي بينها لكم في كتابه {والرسول} بالرغبة عن بيانه لكتاب الله تعالى إلى أهوائكم، أو آراء مشايخكم، بناء على زعمكم أنهم أعلم بمراد الله ورسوله منكم {وتخونوا أماناتكم} أي لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وبين أولياء أموركم من الشؤون السياسية ولاسيما الحربية وفيما بينكم بعضكم مع بعض من المعاملات المالية وغيرها حتى الاجتماعية والأدبية فقد ورد في الحديث (المجالس بالأمانة) رواه الخطيب من حديث علي وحسنوه وأبو داود عن جابر بزيادة (إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حق) وهو حسن أيضا،...
فإفشاء السر خيانة محرمة ويكفي في العلم بكونه سرا القرينة القولية كقول محدثك: هل يسمعنا أحد؟ أو الفعلية كالالتفات لرؤية من عساه يجيء. وآكد أمانات السر وأحقها بالحفظ ما يكون بين الزوجين. الخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين، وقال أنس بن مالك: قلما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: (لا إيمان لمن لا عهد له، ولا دين لمن لا عهد له) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه. وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان) زاد مسلم (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) وقد ورد في الأحاديث إطلاق الأمانة على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان، وليس المراد بهذا الحصر، بل كل ما يجب حفظه فهو أمانة، وكل حق مادي أو معنوي يجب عليك أداؤه إلى أهله فهو أمانة. قال الله تعالى في سورة البقرة: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه} [البقرة: 283] {ولا يبخس منه شيئا} [البقرة: 282] وقال في سورة النساء: {إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58] ...
أما قوله: {وأنتم تعلمون} فمعناه والحال أنكم تعلمون مفاسد الخيانة وتحريم الله تعالى إياها وسوء عاقبة تلك المفاسد في الدنيا والآخرة، أو تعلمون أن ما فعلتموه خيانة لظهوره، وأما ما خفي عنكم حكمه فالجهل له عذر إذا لم يكن مما علم من الدين بالضرورة أو مما يعلم ببداهة العقل، أو استفتاء القلب، كفعلة أبي لبابة التي كانت هفوة سببها الحرص على المال والولد، ولذلك فطن لها قبل أن يبرح موقفه رضي الله عنه ولما كان حب الأموال والأولاد مزلة في الخيانة أعلمنا به عقب النهي عنها فقال: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يتكرر الهتاف للذين آمنوا مرة أخرى.. إن الأموال والأولاد قد تُقعد الناس عن الاستجابة خوفا وبخلا. والحياة التي يدعو إليها رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حياة كريمة، لا بد لها من تكاليف، ولا بد لها من تضحيات.. لذلك يعالج القرآن هذا الحرص بالتنبيه إلى فتنة الأموال والأولاد -فهي موضع ابتلاء واختبار وامتحان- وبالتحذير من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان؛ ومن التخلف عن دعوة الجهاد؛ وعن تكاليف الأمانة والعهد والبيعة. واعتبار هذا التخلف خيانة لله والرسول، وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض، وهي إعلاء كلمة الله وتقرير ألوهيته وحده للعباد، والوصاية على البشرية بالحق والعدل.. ومع هذا التحذير التذكير بما عند الله من أجر عظيم يرجح الأموال والأولاد، التي قد تُقعد الناس عن التضحية والجهاد:
إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول. فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية:"لا إله إلا الله، محمد رسول الله".. قضية إفراد الله -سبحانه- بالألوهية؛ والأخذ في هذا بما بلغه محمد [صلى الله عليه وسلم] وحده.. والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة؛ ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى. أحيانا قليلة في الاعتقاد والعبادة. وأحيانا كثيرة في الحاكمية والسلطان -وهذا هو غالب الشرك ومعظمه- ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله. ولكن حملهم على إفراده -سبحانه- بالألوهية، وشهادة أن لا إله إلا الله، اي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية -كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون- تحقيقا لقول الله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله).. كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله؛ ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه. هذه هي قضية هذا الدين -اعتقادا لتقريره في الضمير، وحركة لتقريره في الحياة- ومن هنا كان التخلي عنها خيانة الله لله والرسول؛ يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان؛ فأصبح متعينا عليها أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي؛ والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد. كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] على الإسلام. فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان، وليس مجرد عبارات وأدعيات. إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق. إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله؛ وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق؛ ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته، ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء؛ وتأمين الحق والعدل للناس جميعا؛ وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت؛ وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها؛ وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف خطاب للمؤمنين يحذرهم من العصيان الخفي. بعد أن أمرهم بالطاعة والاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم حذرهم من أن يظهروا الطاعة والاستجابة في ظاهر أمرهم ويبطنوا المعصية والخلاف في باطنه، ومناسبته لما قبله ظاهرة وإن لم تسبق من المسلمين خيانة وإنما هو تحذير...
.والخيانة: إبطال ونقضُ ما وقع عليه تعاقد من دون إعلان بذلك النقض، قال تعالى: {وإمّا تخافَن من قومٍ خيانةً فانبِذْ إليهم على سواءٍ} [الأنفال: 58] والخيانة ضد الوفاء... أي واستعمل الوفاء في الإتمام بالعهد، لأن من أنجز بما عاهد عليه فقد أتم عهده فلذلك يقال: أوفى بما عاهد عليه. فالإيمان والطاعة لله ورسوله عهد بين المؤمن وبين الله ورَسوله، فكما حُذروا من المعصية العلنية حذروا من المعصية الخفية. وتشمل الخيانة كل معصية خفية، فهي داخلة في {لا تخونوا}، لأن الفعل في سياق النهي يعم، فكل معصية خفية فهي مراد من هذا النهي، فتشمل الغلول الذي حاموا حوله في قضية الأنفال، لأنهم لما سأل بعضهم النفل وكانوا قد خرجوا يتتبعون آثار القتلى ليتنفلوا منهم، تعين تحذيرهم من الغلول، فذلك مناسبة وقع هذه الآية من هذه الآيات سواء صح ما حكي في سبب النزول أم كانت متصلة النزول بقريناتها. وفعل « الخيانة» أصله أن يتعدى إلى مفعول واحد وهو المخون، وقد يعدى تعدية ثانية إلى ما وقع نقضه، يقال: خان فلاناً أمانتَه أو عهدَه، وأصله أنه نصب على نزع الخافض، أي خانه في عهده أو في أمانته، فاقتصر في هذه الآية على المخوف ابتداء، واقتصر على المخون فيه في قوله: {وتخونوا أماناتكم} أي في أماناتكم أي وتخونوا الناس في أماناتكم...
والأمانة اسم لما يحفظه المرء عند غيره مشتقة من الأمن؛ لأنه يأمنه من أن يضيعها، والأمين الذي يحفظ حقوق من يواليه، وإنما أضيفت الأمانات إلى المخاطبين مبالغة في تفظيع الخيانة، بأنها نقض لأمانة منسوبة إلى ناقضها، بمنزلة قوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29] دون: ولا تقتلوا النفس. وللأمانة شأن عظيم في استقامة أحوال المسلمين، ما ثبتوا عليها وتخلقوا بها، وهي دليل نزاهة النفس واعتدال أعمالها، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من إضاعتها والتهاون بها، وأشار إلى أن في إضاعتها انحلال أمر المسلمين،... وحسبك من رفع شأن الأمانة: أن كان صاحبها حقيقاً بولاية أمر المسلمين لأن ولاية أمر المسلمين، أمانة لهم ونصح، ولذلك قال عمر بن الخطاب حين أوصى بأن يكون الأمر شورى بين ستة « ولو كان أبو عبيدة بن الجراح حياً لعهدت إليه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له إنه أمين هذه الأمة». وقوله: {وتخونوا} عطف على قوله: {لا تخونوا} فهو في حَيز النهي، والتقدير: ولا تخونوا أماناتكم، وإنما أعيد فعل {تخونوا} ولم يُكتف بحرف العَطف، الصالح للنيابة عن العامل في المعطوف، للتنبيه على نوع آخر من الخيانة فإن خيانتهم الله ورسوله نقضُ الوفاءِ لهما بالطاعة والامتثال، وخيانة الأمانة نقض الوفاء بأداء ما ائتمنوا عليه وجملة {وأنتم تعلمون} في موضع الحال من ضمير {تَخونوا} الأول والثاني، وهي حال كاشفة والمقصود منها تشديد النهي، أو تشنيع المنهي عنه لأن النهي عن القبيح في حال معرفة المنهي أنه قبيح يكون أشد، ولأن القبيح في حال علم فاعله بقبحه يكون أشنَعَ،...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
و "الأمانة "شجرة وارفة الظلال ذات فروع وأغصان، ويندرج تحتها جميع الأعمال التي ائتمن الله عليها الإنسان، فتبدأ بالخلافة عن الله في الأرض، والقيام بتطبيق بنود الدستور الإلهي بين جنباتها: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان} وتتسع الأمانة شيئا فشيئا حتى تشمل واجب المسلم في جميع مجالات الحياة: واجبه نحو ملته، ونحو أمته، ونحو دولته، ونحو مجتمعه، ونحو أسرته وأولاده، ونحو عماله وطلابه، ونحو نفسه التي بين جنبيه، ففي جميع هذه المجالات، وفيما هو أعلى منها أو دونها، توجد أمانة مقدسة، وتوجد مسؤولية كبرى عن تلك الأمانة، حتى لا يضيعها المؤتمنون عليها فيحسبوا في عداد الخائنين. ومن خان أي نوع من أنواع الأمانة الملقاة على عاتقه في أي مجال من مجالاتها يعد خائنا لله ورسوله في نظر الإسلام، لأنه يعتبر العدو "رقم واحد" للصالح العام...
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} (من الآية 27 سورة الأنفال)...
. والإنسان حين آمن يصبح للإيمان في النفس أمانة. فأنت قد آمنت أنه لا إله إلا الله، وأمانة هذا الإيمان تقتضيك ألا تجعل لمخلوق ولاية عليك ولا ولاء له إلا أن يكون هذا الولاء نابعا من أتباع منهج الله تعالى. وهذه هي أمانة الشهادة، أما أمانة الرسالة فهي الحرص على تطبيق كل ما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه قدر الاستطاعة. إذن فالأمانة مع الله تعالى أن تلتزم بكلمة الإيمان في أنه لا إله إلا الله، وإياك أن تعتقد في أن أحدا يمكنه أن يتصرف فيك، أو يملك لك ضرا أو نفعا، أو أن مصالحك ممكن أن تقضى بعيدا عن الله، فكل شيء بيد الله سبحانه صاحب الحول والطول...وإياك أن تفهم أن حكما يجيء لك عن غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنك إن خرجت عن هذا الإطار تكون إنسانا لم يؤد أمانة الله ولا أمانة الرسول. والقمة في الأمانة هي إيمان بالله، وإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم. والله قد أمر بأحكام وحين تقبلها فلها أمانة، وأمانتها هي أداؤها من غير نقص في شيء سواء كان عاما أو خاصا، ولو في الحديث يجري أمامك، وتمتد أمانة الإيمان إلى كل شيء، مثل أمانة أي مجلس توجد فيه، فلا يحق لك أن تنقل أسرار غيرك إلى هذا المجلس أو أسرار المجلس إلى آخرين. (...
) "وأنتم تعلمون "أي متعمدون، غير ناسين أو ساهين، أو جاء الأمر كفلتة لسان؛ لأنكم إذا كنتم تعلمون، ففي ارتكاب هذه الأفعال خيانة والله ينهى عن ذلك...
. ونلحظ أن الخطاب هنا لجماعة المؤمنين، وجاءت الأمانات أيضا جماعة، وأنت حين تُفصِّل الأمانات المجموعة على القوم المخاطبين بذلك، تعلم أن على كل إنسان تكليفا محدودا هو ألا يخون أمانته...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا هو النداء الثالث الذي يدعو المؤمنين إلى اعتبار الإيمان عهداً بين المؤمن وبين الله ورسوله، بإخلاص العبودية لله، وإسلام الحياة كلها له، وإخلاص الالتزام بالشريعة التي جاء بها رسوله، والعمل على تحقيق الأهداف الكبرى التي أراد الله للحياة أن ترتكز عليها في مضمونها الروحي والماديّ، وفي حركتها الجهادية في مواجهة كل تحديات الباطل، من أجل إقامة الحق في واقع الإنسان، كما يدعوهم إلى الإخلاص للأمانات الفردية والاجتماعية، في ما يأتمن به الأفراد بعضهم البعض في قضايا المال والعرض والنفس والسرّ، وفي ما يتحملونه في نطاق المجتمع من مسؤولياتٍ سياسية أو اجتماعية واقتصادية وعسكرية، ممّا يعتبر في مستوى الأمانة العامّة، من أجل سلامة الأمة في قضية المصير. وبذلك يكون الفرد المؤمن، هو الفرد الأمين على قضايا الناس والحياة، ويكون المجتمع المؤمن هو المجتمع الذي يعتبر الأمانة بمثابة المسؤولية عن كلّ شيء يتّصل بالآخرين في إطار طاقاته، والقاعدة الصلبة التي يرتكز عليها وجوده، بينما يعتبر الخيانة الفردية والجماعية خارجةً عن الخط المستقيم، ومنفصلةً عن البناء المتماسك للوجود الإيمانيّ الإنسانيّ في الحياة. وهذا ما أثارته الآية الكريمة في هذا النداء: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} في ما يوحي به الإيمان من عمق الالتزام وامتداده وقوّته. {لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ} في ما تفرضه حقيقة الألوهية والوحدانية من إخلاص العبودية له {وَالرَّسُولَ} في ما يعنيه الإيمان بالرسالة من الالتزام بالمفاهيم العامة التي تدعو إليها، والتعاليم الشرعية التي تأمر بالخير، وتنهى عن الشر، وتدفع إلى الحق، وتُبعد عن الباطل، فإن خيانة الله والرسول في ذلك تعني الكفر والضلال... {وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} فإن الله يريد للحياة الاجتماعية أن ترتكز على الثقة المتبادلة بين الأفراد، القائمة على الإخلاص في حمل الأمانة وفي تأديتها إلى أهلها، من دون فرق بين الأمانات الشخصية المتمثلة بالالتزامات الذاتية التعاقدية بين الأفراد، وبين الأمانات العامة المتمثلة بالتشريعات الإلهية في المسؤوليات التي حملها الله للناس. {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} قيمة العهد الإلهي والرسالي في خط الإيمان، والعقد الفردي والجماعي في دائرة الأمانة، وإذا كنتم تعلمون ذلك، فإن العلم يمثّل الحجة البالغة التي لا تملكون معها أيّ لونٍ من ألوان العذر في ما لو انحرفتم عن الطريق المستقيم...