فماذا كان بعد الإقرار وهم شاهدون حاضرون ؟
( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان . وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ، وهو محرم عليكم إخراجهم . أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ ) . .
ولقد كان هذا الذي يواجههم به واقعا قريب العهد قبيل غلبة الإسلام على الأوس والخزرج . كان الأوس والخزرج مشركين ، وكان الحيان أشد ما يكون حيان من العرب عداء . وكان اليهود في المدينة ثلاثة أحياء ترتبط بعهود مع هذا الحي وذاك من المشركين . . كان بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج ، وكان ينو قريظة حلفاء الأوس . فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه ؛ فيقتل اليهودي أعداءه ، وقد يقتل اليهودي اليهودي من الفريق الآخر - وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم - وكانوا يخرجونهم من ديارهم إذا غلب فريقهم وينهبون أموالهم ويأخذون سباياهم - وهذا حرام عليهم بنص ميثاق الله معهم - ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فادوا الأسارى ، وفكوا أسر المأسورين من اليهود هنا أو هناك ، عندهم أو عند حلفائهم أو أعداء حلفائهم على السواء - وذلك عملا بحكم التوراة وقد جاء فيها : إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا أخذته فأعتقته . .
هذا التناقض هو الذي يواجههم به القرآن ؛ وهو يسألهم في استنكار :
( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ ) . .
وهذا هو نقض الميثاق الذي يتهددهم عليه بالخزي في الحياة الدنيا ، والعذاب الأشد في الآخرة . مع التهديد الخفي بأن الله ليس غافلا عنه ولا متجاوزا :
( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب . وما الله بغافل عما تعملون ) . .
{ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }( 85 )
{ هؤلاء } دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل رداً إلى الأسلاف ، قيل : ( {[887]} ) تقدير الكلام يا هؤلاء ، فحذف حرف النداء ، ولا يحسن حذفه عند سيبويه مع المبهمات ، لا تقول هذا أقبل ، وقيل تقديره أعني هؤلاء ، وقيل { هؤلاء } بمعنى الذين ، فالتقدير ثم أنتم الذين تقتلون ، ف { تقتلون } صلة { لهؤلاء } ، ونحوه قال يزيد بن مفرغ الحميري .
عدسْ ما لعبّاد عليك إمارة . . . نجوت وهذا تحملين طليق( {[888]} )
وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن( {[889]} ) بن أحمد شيخنا رضي الله عنه : { هؤلاء } رفع بالابتداء و { أنتم } خبر مقدم ، و { تقتلون } حال ، بها تم المعنى ، وهي كانت المقصود فهي غير مستغنى عنها ، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه ، كما تقول هذا زيد منطلقاً ، وأنت قد قصدت الإخبار بالنطلاقه لا الإخبار بأن هذا هو زيد .
وهذه الآية خطاب لقريظة والنضير وبني قينقاع ، وذلك أن النضير وقريظة حالفت الأوس ، وبني قينقاع حالفت الخزرج ، فكانوا إذا وقعت الحرب بين بني قيلة( {[890]} ) ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها فقتل بعضهم بعضاً وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم ، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعاً لحكم التوراة وهم قد خالفوها بالقتال والإخراج ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «تُقتِّلون » بضم التاء الأولى وكسر الثانية وشدّها على المبالغة ، والديار مباني الإقامة ، وقال الخليل : محلة القوم دارهم ، وقرأ حمزة وعاصم والسكائي «تظاهرون » بتخفيف الظاء وهذا على حذف التاء الثانية من تتظاهرون ، وقرأ بقية السبعة «تظَّاهرون » بشد الظاء على إدغام التاء في الظاء ، وقرأ أبو حيوة «تُظهِرون » بضم التاء وكسر الهاء ، وقرأ مجاهد وقتادة «تَظَّهَرَّون » بفتح التاء وشد الظاء والهاء مفتوحة دون ألف ، ورويت هذه عن أبي عمرو ، ومعنى ذلك( {[891]} ) على كل قراءة تتعاونون ، وهو مأخوذ من الظهر ، كأن المتظاهريْن يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه ، والإثم العهد الراتبة على العبد من المعاصي( {[892]} ) ، والمعنى بمكتسبات الإثم ، { والعدوان } تجاوز الحدود والظلم ، وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج( {[893]} ) ، وقرأ حمزة «أسرى تفدوهم » ، وقرأ نافع وعاصم والكسائي «أسارى تفادوهم » ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير «أسارى تفدوهم » ، وقرأ قوم «أسرى تفادوهم » . و { أسارى } جمع أسير ، والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد ، سمي بذلك لأنه يؤسر أي يشد وثاقاً ، ثم كثر استعماله حتى لزم وإن لم يكن ثم ربط ولا شد ، وأسير فعيل بمعنى مفعول ، ولا يجمع بواو ونون وإنما يكسر على أسرى وأسارى ، والأقيس فيه أسرى ، لأن فعيلاً بمعنى مفعول الأصل فيه أن يجمع على فعلى ، كقتلى وجرحى ، والأصل في فعلان أن يجمع على «فَعالى » بفتح الفاء و «فُعالى » بضمها كسكران وكسلان وسُكَارى وكُسَالى ، قال سيبويه : فقالوا في جمع كسلان كسْلى ، شبّهوه بأسرى كما قالوا { أسارى } شبهوه بكسالى ، ووجه الشبه أن الأسر يدخل على المرء مكرهاً كما يدخل الكسل ، وفعالى إنما يجيء فيما كان آفة تدخل على المرء .
و { تفَادوهم } معناه في اللغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئاً ، قاله أبو علي ، قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئاً ، فعلى هذا قد تجيء بمعنى فديت أي دفعت فيه من مال نفسي ، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : أعطني فإني فاديت نفسي ، وفاديت عقيلاً ، وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر ، تقول : فديت زيداً بمال وفاديته بمال ، وقال قوم : هي في قراءة تفادوهم مفاعلة في أسرى بأسرى( {[894]} ) ، قال أبو علي : كل واحد من الفريقين فعل ، الأسر دفع الأسير ، والمأسور منه دفع أيضاً إما أسيراً وإما غيره ، والمفعول الثاني محذوف .
وقوله تعالى : { وهو محرم }( {[895]} ) قيل في { هو } إنه ضمير الأمر ، تقديره والأمر محرم عليكم ، و { إخراجهم } في هذا القول بدل من
هو } ، وقيل { هو } فاصلة ، وهذا مذهب الكوفيين ، وليست هنا بالتي هي عماد ، و { محرم } على هذا ابتداء ، و { إخراجهم } خبره ، وقيل هو الضمير المقدر في { محرم } قدم وأظهر ، وقيل هو ضمير الإخراج تقديره وإخراجهم محرم عليكم . ( {[896]} )
وقوله تعالى : { أفتؤمنون ببعض الكتاب }( {[897]} ) يعني التوراة ، والذي آمنوا به فداء الأسارى ، والذي كفروا به قتل بعضهم بعضاً وإخراجهم من ديارهم ، وهذا توبيخ لهم ، وبيان لقبح فعلهم .
وروي أن عبد الله بن سلام( {[898]} ) مرّ على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه ، فقال له ابن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن .
ثم توعدهم عز وجل : والخزي : الفضيحة والعقوبة ، يقال : خزي الرجل يخرى خزياً إذا ذل من الفضحية ، وخزي يخزى خزاية إذا ذل واستحيا( {[899]} ) . . .
واختلف ما المراد بالخزي ها هنا فقيل : القصاص فيمن قتل ، وقيل ضرب الجزية عليهم غابر الدهر ، وقيل قتل قريظة ، وإجلاء النضير( {[900]} ) ، وقيل : الخزي الذي توعد به الأمة وهو غلبة العدو . والدنيا مأخوذة من دنا يدنو ، وأصل الياء فيها واو ولكن أبدلت فرقاً بين الأسماء والصفات( {[901]} ) .
وأشد العذاب الخلود في جهنم ، وقرأ الحسن وابن هرمز «تردون » بتاء .
وقوله تعالى : { وما الله بغافل } الآية ، فرأ نافع وابن كثير «يعملون » بياء على ذكر الغائب( {[902]} ) فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والآية واعظة لهم بالمعنى( {[903]} ) إذ الله تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص( {[904]} ) ، وقرأ الباقون بتاء على الخطاب المحتمل أن يكون في سرد الآية( {[905]} ) وهو الأظهر ، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد( {[906]} ) ، يريد : وبما يجري مجراه .